بلاغة السخرية ووظيفتها في رواية “في مدن الغبار” لأمل رضوان

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 37
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد المسعودي

قرأت رواية “في مدن الغبار” بشغف كبير وحس نقدي كان يترصد قلم الكاتبة عله يعثر على أدنى هفوة، وأي خلل ممكن في البناء والصياغة، غير أن هذا الحس المترصد عاد بخفي حنين، إذ وجد الناقد أن الرواية كتبت بإحكام فني متقن، وأن عوالمها السردية ممتعة، ومتخيلها –رغم إغراقه في واقعنا المأزوم- جانح طريف.

وأنا أقرأ هذه الرواية وأمضي على خطى ساردتها عايشت وسط مأساة اللاجئين السوريين وغير السوريين في “مخيم الزعتري” ملهاة خلقتها نساء يعشن حياة منفلتة من أطر وقوالب المجتمع بطرقهن الخاصة. وهكذا ضحكت مع المهرة والناقة والعنزة والشركسية والراوية، وهن يرمين بقفشاتهن البذيئة في وجه بعضهن، أو يعلقن بها على ما يمر أمامهن، أو يسمعنه. وهكذا عشت معهن حلم الهروب من “مدن الغبار” القاهرة الخانقة إلى مدينة أم الشركسية “نالتشك”، لعلها تنسيهن بعض ما يعشنه في أماكن اللجوء ومدن الموت والخوف والقلق. وقد كان مشهد تدخينهن في مرحاض مطار الملكة علياء بروحه الساخرة، وبموقفه الغريب من أشد مشاهد الرواية خلقا للمفارقة وتوليدا للسخرية، فمن رحم المعاناة والحظر تمكنت الروائية من توليد ملهاة خففت من وطأة المآسي التي تصورها الرواية، مثله مثل مشاهد أخرى في “مدن الغبار”. تقول الساردة في هذا المشهد الدال:

” بدت دورة المياه كخليَّةِ نحلٍ دَبَّ فيها النشاط فجأة بمجرد خروج العاملة. جلست الملكة في المنتصف على مقعدها المتحرِّك تحتضن صُرَّتها القماشية، بينما تفرَّق الجميع ما بين مجموعات صغيرة من ثلاثة أو أربعة، كُلٌّ في رُكْنٍ، والجميع ينظر في قلق مشوب بالضحك إلى الباب الذي وقفت العنزة خلفه حتى تَحولَ دون دخول أي سيدة من الخارج. اتجهت الشركسية ناحية والدتها، وأخرجت علبة سجائرها المارلبورو البيضاء، وأشعلت سيجارةً وناولتها للأم، ثم أشعلت الثانية ووضعتها في فمها، وبدأت تدخِّن بقوة كما لو كانت آخر سيجارة لها في عمرها وتودُّ أن تسحب كل ذَرَّةِ نيكوتين بها، وأمسكت في يدها علبةً معدنيَّةً صغيرة للغاية من عُلَبِ الحلوى المُطَهِّرَةِ للحلق، تحملها دائما داخل حقيبة يدها، وتستخدمها كمطفأة متنقِّلَة للسجائر. المضْحِكُ في الأمر أن بعض شابَّات العائلة انسحبن في هدوء وتوجَّهْنَ ناحية دورات المياه، ودخلت كل اثنتين أو ثلاث في كابينة واحدة. ارتفعت حواجب البعض دهشة والبعض الآخر استنكارًا. كان من الواضح أن نساء العائلة من الأُمَّهات أو الخالات لا يعرفن عن بناتهن أنَّهُنَّ يُدَخِّنَّ السجائر، لكنهنَّ تغاضَيْنَ عن الوضع؛ حتى لا يُفْسِدْنَ الرحلة في بدايتها. بعد دقائق كانت المجموعة وأنا معها قد نسينا تمامًا أننا نرتكب فعلاً يُعَدُّ خرقًا صريحًا للقانون داخل إحدى دورات المياه في مطار الملكة علياء، وانشغل الجميع، سواءً بالتدخين أو إصلاح الزينة أمام المرآة أو تمشيط شعورهنَّ، وتحرَّرت المحجَّبات -على قِلَّتِهِنَّ- من غطاء رؤوسهنَّ، واختلطت الأصوات ما بين مكالمات تليفونية، أو أحاديث جانبية يقطعها صوت سعال متقطِّع مندفع من دورات المياه المغلقة؛ فعلى ما يبدو أن هناك مبتدئات قرَّرْنَ تجربةَ التدخين للمرة الأولى في حياتهنَّ.

عَلَتْ الأصوات، ونغمات الهواتف المحمولة، وعلا صوت السعال، وتكاثف الدخان الناتج عن سجائر أكثر من ثلاث عشرة مُدَخِّنَةً في حيِّز ضيِّق، إذا ما استثنينا اثنين أو ثلاث، والأطفال المصاحبين لأمهاتهم. سادت لحظات صَمْتٍ مباغِتٍ، تلاها خبطات متلاحِقَةٌ قويَّةٌ على الباب، ومحاولات لدفعه من الخارج، وصوت جرس إنذار يصمُّ الآذان.

صرخت الأمُّ من فوق مقعدها المتحرِّك مُتَقَمِّصَةً إحدى الشخصيات من أفلام الأبيض والأسود المصرية التي تدمن مشاهدتها، وصاحت بلهجة مصرية صحيحة تمامًا «كَبْسَة يا معلِّمة». انفجر الجميع في ضحك هيستيري، بينما بدأت محاولة اقتحام باب دورة المياه. زادت العنزة من قوة الدفع في الاتجاه المقابل تساعدها بعض النساء، بينما سارعت الفتيات في إلقاء السجائر المشتعلة في أحواض الاغتسال والتواليت وعلى الأرضية. لم تصمد محاولات صَدِّ الهجوم الخارجي وسط تقاعس البعض عن ضَعْفٍ أو من جرَّاء نَوْبَةِ الضحك العاصفة، أو الانشغال بلبس الحجاب وتغطية الرؤوس. انفتح الباب أخيرًا عن مجموعة من ضُبَّاط المطار الهَلِعين، ورجال الحماية المدنية مُمْسِكين بطفَّايات الحريق، وواضعين الكمامات على أنوفهم والخُوذاتِ على رؤوسهم. اندفعت المدَخِّنات السلبيَّات والإيجابيَّات إلى الخارج، وتَفَرَّقْنَ، كُلٌّ في اتجاهٍ، كحشود النمل حين تداهمه الأقدامُ وسط تَجَمْهُرِ المسافرين في الخارج، ولم يَتَبَقَّ داخل دورة المياه سوى الأم القعيدة، مُحْتَضِنَةً صُرَّتَها على كرسيِّها المتحرِّك”.

         استشهدنا بهذا المقطع الطويل نظرا لأهميته في تجلية طبيعة السخرية في الرواية، ونظرا لاحتوائه على جوانب فنية عدة تكشف عن بلاغة السخرية ووظيفتها. وهكذا نتبين أن السخرية، هنا، وفي الرواية ككل لا تقف عند مستوى كسر رتابة الأحداث، والخروج بها من تصوير وضعيات اللاجئين واللاجئات في مخيم الزعتري، وإنما تصبح مكونا جوهريا في تشكيل الشخصيات وتحديد طبيعتها، كما تجلي رؤيتها إلى العالم من حولها من خلال منظور رافض متمرد، يحول أقسى لحظات المعاناة إلى ملهاة تنقلب إلى جو كرنفالي ضاحك ممتد، لا يقتصر على بطلات الرواية وشخصياتها المحورية، وإنما يشمل عددا آخر من المحيط بهن المتفاعل معهن في مسار الرواية، كما لمحنا في هذه الأحداث التي تجري في دورة مياه مطار الملكة علياء. ونلمس، في هذا المقطع، قمة المفارقة بين المفترض والمتوقع من سلوك هؤلاء النسوة: الوقار والرزانة والحشمة والامتثال للقوانين والأعراف، بينما يُدخلنا الحدث إلى أفق آخر قوامه التمرد على القوانين والأعراف والسعي إلى تحقيق رغبات الذات عبر الحيل، وخلق جو حميمي لاه وساخر، في ظرف لا يسمح في الغالب بمثل هذه السلوكات. وهكذا نتبين أن وظيفة السخرية في هذا المقطع، وفي رواية “في مدن الغبار” وظيفة فنية تكوينية، ما كان للرواية أن تستقيم في غياب عن حضورها الفاعل في بناء النص. 

وقد تميزت كتابة الرواية وأسلوبها بالسلاسة والتدفق بحيث لا يمل القارئ، وهو يتنقل بين حكايات الساردة/ المصرية ، وحكايات ألما الفلسطينية، وحكايات المهرة، والناقة، والعنزة، والشركسية واسترجاعاتهن. وقد أسندت الساردة دفة الحكي لهن في بعض فصول الرواية.

ولا شك أن الرواية رغم واقعيتها البينة وغوصها في تصوير معاناة اللاجئين السوريين –وغيرهم- واللاجئات إلا أنها حلقت برمزيتها الشفيفة، وبلاغتها الفنية في آفاق راقية من الفن. فكناية “مدن الغبار” بما تشي به من قتامة ورمادية ومهانة إنسانية، انكسر بُعدها المظلم باللحظات الإنسانية الدافئة التي خلقتها مجموعة المهرة والناقة والعنزة.. وبالحلم في السفر، وتلبية رغبة أم الشركسية التي تتطلع إلى العودة إلى مدينتها.

كما أن دور الدكتور فولك في حياة الساردة هو زاوية أخرى للاستمرار في الحلم، وفي قابلية الساردة للتعايش مع بشاعة ما يحيط بها. ومن بين المشاهد التي استوقفتنا في الرواية مشهد قرب إنساني وتعاطف بين ألما والدكتور فولك حينما أهدته إشاربها المطرز بالورد في لحظة أحس فيها بالبرد الشديد، وأصرت على أن يحتفظ به لتسترجعه الساردة منه فيما بعد. وبعد نزول ألما من السيارة وتوجه الدكتور فولك والراوية والسائق جاسر نحو “المخيم” وبسبب غفوة الجميع تعبا، يقع حادث فيشج رأس فولك، ويمتد دمه ليسقي الورود المطرزة على الإشارب وردة وردة، والساردة تتأمل المشهد. ألا تحمل هذه الصورة بعدا رمزيا. هل الأجنبي المتعاطف مع قضايانا الإنسانية  يدفع الثمن، بدوره، مثلنا، ويسقي بدمائه تربة الأمل وطموح التغيير؟

هذا سؤال حفزته هذه الصورة الروائية الجميلة.

وما يمكن أن ننتهي إليه من كل ما سبق، أننا أمام نص روائي جميل كتب بلغة روائية غنية بدلالاتها ورمزيتها، وبمستواها الفني الراقي، ووظف السخرية والمفارقة كمكون فني جوهري لرصد قتامة واقع اللاجئين وظروف حياة المخيمات. وقد ذكرتنا كل هذه الخصائص بروح الكتابة القصصية لدى الكاتبة في مجموعتيها البديعتين: البيت الأولاني، وشكولاته سودا بما حفلتا به من نماذج إنسانية متنوعة، وبما احتوته نصوصهما من سخرية ومفارقة، وقدرة على توليد الملهاة من صلب المأساة.

……………………….

*أمل رضوان، في مدن الغبار، دار العين، القاهرة، 2019.

مقالات من نفس القسم