المَطْحَن

محمد بروحو
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد بروحو
انتصب صالح الطَّحَّان أمام باب المَطحن، متأملا.. ناظرا إلى أفق عابس، أشعل في نفسه شهوة انتصار. موقنا أن هذا العام قد يكون عام خير وبركات. واسترحم ربه أن يهب الأرض من ماء السماء وتينع الغلال، فالسحب الداكنة التي تجمعت، اندفعت مسرعة نحو القرية، وهطل مطر، فدفق ماء النهر وغل الماء وساح في البراري. أسعد هذا الأمر الطَّحَّانَ ومطَّ شفتيه واستبشر خيرا. حين رنا إلى سهل شاسع وقد استحالت بذوره إلى نبتات، طلت برؤوسها من تحت تربة ندية مبللة، وبدا سعيدا متفائلا، فمَطحَنة الحبوب، ستشتغل هذا العام بوفرة. الحقول وافرة الغَلاّت، وقد يجنى محصول جيد، فيطلب من الطحان خدمات، وتعقد صفقات من أجل طحن حبوب. وتلف مروحة المَطحَنة، بتلك السرعة، التي تمكنها من سحق حبوب السنابل والأكمام. وقد ظلت هامدة، على مر سنوات عجاف. والسماء ممسكة شحيحة، ولم تنفجر مياه العيون ولا تدفق ماء النهر. وما ساحت مياه الجداول التي كانت تنساب في الوديان وقريبة من القرية ومَطْحَنِ صالح الطَّحَّان، محركة مروحة تمد عجلة الدهس بقوة الدوران.
استعان الطَّحَّان ببغال مدربة على الدوران، وكان يعوزها علف متنوع، لم يتوفر لدى الطحان، واستوجب سفرا، إلى قرى مجاورة أو أسواق بعيدة، وفرت أعلافا باهظة الثمن. ولم يتوفر لدى الطحان مال، ولم يعثر على شخص يقرضه إياه، لذا انفرجت أسارير وجهه وانبسطت، وهو يشاهد تلك السحب، آملا أن يعوض الله عليه شح السنين الماضية. ولما هطلت الأمطار، تحدث الناس عن مَطْحَن صالح، آملا كل فرد من سكان القرية في عقد صفقة لطحن غلاته في مِطحَنة صالح الطَّحَّان، وأما هو فقد كان قد استعد لطحن حبوب كل شخص سبق له أن عقد معا اتفاقا، فاستخدم لديه غلامين فتيين قويا البنية، يصغر أحدهما الآخر بخمس سنوات.
وعمل الصبيان بهمة ونشاط لا ينكسران، واستقبل الفتى الصغير زبائن المطْحَن ببشاشة صبي ودود، بينما انهمك الذي يكبره بخمس سنوات، في صب الحبوب في قلب الرحى، ثم جمعه بعد الطحن في أكياس عبئت وأخيطت. وقد حوت طحينا عد للاستعمال، دافعة مياه متدفقة في قلب المَطحَنة بحجرتي الرحى، فداست إحداهما على الأخرى، حتى أصدرتا معا قعقعة لا تحتمل، تكاد تسمع من خارج المطحَن.
وأما الطَّحَّان فقد ركن بباب المطْحَن، يدندن بأغنية قديمة، يكاد إيقاعها يساير قعقعة حجرا المطحنة، مادا بصرا حادا، ولم ينظر اللحظة إلى تلك الحقول المحصودة غلاتها والتي أصبح لون حشيشها أصفرا متيبسا، وإنما إلى مروحة المَطحَنة، التي دارت بتوافق، وأحدثت في نفس الطَّحَّان نشوة وفرحا لا يقاومان.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون