“الكتابة: إنقاذ اللغة من الغرق” لـ لؤي حمزة عباس

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;}

قراءة: عبد الزهرة زكي

ربما كان في بالي يوماً القليل من الكتب، كتب شعر ودين وروايات وسيرة وفلسفة وتاريخ ورحلات وربما علوم طبيعية، حين تبادر لي أن أسأل صديقاً كاتباً، وهو واحد من أفضل القراء، ما إذا كان يتفق معي أننا في نتاجنا الثقافي العربي المعاصر بتنا نفتقر إلى الكتاب الذي يشكل لقارئه حاجة حقيقية يعود معها إليه بين حين وآخر، الكتاب الذي تعاد قراءته تحت ضغط الحاجة المجردة إلى القراءة، هذه الحاجة التي لا تضاهيها حاجة أخرى حين يكون المرء قارئاً شغوفاً من نمط القراء الفريدين. فمن القراءة ما هي منزّهة من الهوى ومتجردة عن الجدوى، تلك هي القراءة الأكثر اندفاعاً والأشد ضماناً في الديمومة والتواصل، قراءة لا تيأس ولا تحبط، وجه آخر لكتابة مفتونة بما هي عليه، كلتاهما، القراءة والكتابة وجهان لحرية تمضي في صنع حياة أخرى تحايث حياة اليأس والموت واللاجدوى.

 نفتقر إلى مثل تلك الكتب التي يهفو إليها قارئ شغوف في لحظة ما غير مخطط لها لينهض فيها فيتناول من رفّ منسيٍّ في مكتبة كتاباً يعود إليه بعد سنوات وربما في لحظة نفور من كل شيء، حتى من القراءة ذاتها.

وقد لا أجازف حين أقول إن الكتاب الصادر حديثاً عن داري العربية للعلوم ناشرون ودار (ورّاقون) للؤي حمزة عباس، كتاب (الكتابة) الذي يتصدره عنوان فرعي شارح: (من أجل إنقاذ اللغة من الغرق) هو واحد من كتب قليلة ستتوفر على حظ ما في إقامة صلة حميمة بقارئها، وبما يشكل منها حاجة حقيقية له.

في تاريخ الشعر نستطيع الوقوف على كثير من نصوص الشعر التي عُنيتْ بالتأمل في الشعر والانشغال فيه، إنها شعر موضوعه الشعر، لكن الكتابة بشكل عام، والشعر جانب منها، لم تحظ بعناية كالتي حظي بها الشعر، عناية تتجاوز التعبير عن تجربة شخصية، سيرة كتابية، وتتعدى العمل النقدي والتاريخي والأسلوبي لتنصرف إلى تأمل الكتابة، ليس كمفهوم وإنما كوجود، كعالم معيش.

وفي الحقيقة لن تكون أيّ كتابة عن الكتابة ممكنة من دون مرور بالتجربة الشخصية، التجربة في الحياة وفي الكتابة (هل الفصل متاح؟) لكن هذه التجربة تغتني كلما كان نصيبها من التأمل والتفكر أكثر تدخلاً مما تفرضه ضغوط التجربة الشخصية.

يبدأ لؤي كتابه مستعيداً صوراً وأطواراً من التجربة في الحياة والحرب والطفولة، لكن استعادات لؤي الحياتية تظل تمرّ عبر موشور ثقافي، لنسمّه موشور الكتابة، وبما يضعنا أمام متلازمة الحياة / الكتابة، وهي متلازمة ظلت فاعلة في كل تجارب لؤي حمزة الوفية لمكانها، كتاباته عن (المعقل) الحي الذي رعى طفولته وصباه، قصصه وحكاياته التي تضمخت بروائح الحرب وبحرائقها… (الشعور الذي لم يتخلّص منه حتى اليوم: إنه ما يزال في نفق الحرب حتى هذه اللحظة، يدور في متاهتها، الفكرة تؤدي لفكرة أكثر سطوعاً: الحرب التي تبدأ لا تنتهي، وأمثالنا ممن يعيشون في أنقاض وطنٍ يظلّون أبداً منذورين للشعور بالحطام: حطام السفينة التي يُعاد بناؤها)، هكذا يمهد لؤي في مقدمة الكتاب لجانب أساس من الاهتمام الذي يظلّ يحظى بحضور كثيف في الكتاب.

يعمد لؤي حمزة في كتابه إلى إنشاء مقاربة بين الحرب والكتابة، هذا المحو الذي يتكرر في الحرب لا تستعيده إلا الكتابة التي هي مجال آخر للمحو والاتلاف كما هي مناسبة للتثبيت والخلق.

يستلّ كتاب (الكتابة) من همنغواي جندياً من الحرب الإسبانية (1937) كان قد وضع في جيب صدره كتابه، سعياً من أجل إنقاذ اللغة من الغرق، إنه الدليل عن النجاة قبل أن يكون الدليل إليها أيضاً، (إنه دليل جندي أرنست همنغواي وقد عاش الحروب جميعها، قُتل فيها مرّة بعد أخرى وبعد كلِّ مرّة يقوم ليواصل كتابته بانتظار حرب جديدة قادمة، كأن قيامته بالكتابة وحدها وهي ما تجعل لحياته معنى).

يسبغ الدافع الوجودي للكتابة في ظرف الموت عليها (على الكتابة) بعداً كونياً، وهو البعد الذي يناله أيضاً جندي تتكرر ميتاته بتكرار الحروب. فالحرب ببعدها الوجودي المتواصل عبر تاريخ الحروب يجري التعبير عنها من خلال جنديها الذي يموت بأسماء مختلفة في معارك مختلفة عبر حقب وأماكن مختلفة، إنه الجندي الكوني كما وصفه في مناسبة سابقة ناقد عراقي، الدكتور حسين سرمك، ذلك الجندي الذي يواجه مقاتله المتواصلة في كتاب لؤي حمزة عباس منذ القرن الرابع قبل الميلاد في موقعة إيسوس الكبرى ضد الجيش الفارسي، وكان في العشرين من عمره، بعد أن سار طويلاً بقيادة الإسكندر الأكبر، متوغلاً في آسيا الوسطى وهو نفسه جندي واقعة نيو أورليانز في العام 1812، وقد غدا جندياً أميركياً تحت قيادة أندرو جاكسون، مثلما هو قتيل حرب العصابات في الكونغو في العام 1964 ، وهو نفسه أسير الفيت كونج في اللحظة التي أُعدم فيها بغير محاكمة برصاصة من مسدس رئيس شرطة فيتنام الجنوبية نيجوين نيجوك لوان في فبراير  1968 ولم تكن قد مرَّت على حربه الأخيرة سنوات طويلة. هذا الجندي الذي لا يريد به لؤي أن يكتب في دليله عن صورة الأسير لحظة انطلاق الرصاصة الموقّعة باسم المصور الحربي ايدي آدمز الذي غطى بكامرته ثلاثة عشر حرباً من فيتنام حتى عاصفة الصحراء، وإنما يتوقع منه أنْ سيكتب عن صور حرب أخرى متوقّفاً عند لحظة الموت الوجيزة بين انطلاق الرصاصة واختراقها رأسه.

الكتابة التي تبدأ من لحظة محبة، لحظة يجري فيها التعلق برغبة الاكتشاف وربما الخلق، هي لحظة حرب داخلية بين أن نكتفي، بما يوفره الاكتفاء من راحة القناعة والاستسلام لدعتها ورخائها، وبين أن نحتاج، بما تتطلبه الحاجة من مشاق البحث والمغامرة مع المجهول. وفي كتاب (الكتابة) الذي هو إنشاد لا ينقطع في الثناء على الكتابة مرة وفي التأسي على فواجعها وآلامها مرات لن يخطئ القارئ علامات استدلاله على عناء هذا الوجد المرهق الذي اندفع فيه لؤي حمزة، مثلما يندفع جنديه الكوني في معاركه، إنهما اندفاعان لن يبلغا ذلك اليقين الذي يصادفانه ملتمعاً بارقاَ آناء كل لحظة كتابة / كل لحظة حرب ليتوارى بعدها في الأفق العظيم، أفق كتابة وحرب لا تنتهيان.

يشير لؤي إلى ذلك بوضوح في واحد من فصول الكتاب حين يقول: “مثل عملة معدنية تسقط على البلاط، وجهان ممحوان، لا نقش ولا حرف، إنها الحرب التي تكتب وفي كتابتها تمحو كل شيء”.

في كتاب (الكتابة) تمتزج الحكاية بالتفكر، نتذكر هنا تجارب كبيرة نجحت في مثل هذا الامتزاج، تجربة إيتالو كالفينو في “مدن لامرئية” كانت رائدة في عملها في هذا المجال الحيوي الذي غذّى الحكاية بالتأمل والتفكر، امتزاج يستعيد الطبيعة المتأملة لحكمة الشرق القديم، آسيا الصين والهند ومن ثم ثقافات غربي آسيا التي كانت تبث خلاصاتها التأملية في ثنايا حكاية تصنعها الحياة فينمّيها الإنسان عبر طاقتيه على الخيال والتفكر، وهل للتفكر من مدى من دون خيال؟

وكما هي في الحياة فإن عوالم الكتّاب تتصادى أيضاً في عالم الكتابة… الكتابة هي التي تخلق الأنهار التي تمضي عبرها زوارق المؤلفين، أنهار تنتهي إلى مصير واحد، ذلك هو (معالجة الحكاية القديمة: الوجود الإنساني، الواسع والمديد). فالبعد المكاني في الحكاية بين كتّاب أربعة هو كناية عن بعد مفترض بين الاهتمام الحكائي التأملي لكل منهم، لكن تنوع عناصر حكاية كل منهم لم يمنع من أن تتداخل هذه العناصر وتندمج لتفضي إلى نتيجة واحدة تنشغل بـ (معالجة الحكاية القديمة: الوجود الإنساني)، وهي النتيجة ذاتها التي تجعل من منعم فرات نحات القرن العشرين الفطري واقفاً على أبواب المتحف العراقي ليبيع منحوتاته التي تتواصل مع نظيراتها الراقدة في صالات المتحف الرافديني، إنها الروح السرية التي يحفظها البشر ببداهة غامضة وهم يتداولونها عبر أجيال وحضارات وانكسارات تتعاقب… البعد الزمني هنا في حكاية منعم فرات هو كناية أخرى عن البعد المكاني في حكاية الكتّاب الأربعة، وكلا البعدين كناية ثالثة عن تباعد الاهتمامات وتلاقيها في تواصل الحكايات وعمل الحكائين عبر مجرات الزمن والمكان.

يكتب منعم فرات، كما سلفه الرافديني، على الطين، حيث النحت كتابة يتوارى معها، كيانها النحات الكاتب لتستمر المنحوتة الكتابة وحدها في حياة غير مرئية وإن تشفّ عن نفسها للأحياء.

يتوارى الكاتب في منظور لؤي حمزة حيث تمحو الكتابةُ الكاتب، تُزيح حضوره لصالح حضورها، إنه الظلُّ الذي يتراءى في لحظة واقفاً خلف ستارة الكلمات.

في واحدة من مخاطباته مع كتّابه ومؤلفيه، يتحدث مؤلف (الكتابة) مع يوسا، الحديث الموجه من طرف واحد يأخذ شكلاً من أشكال الودّ الحزين، رغبة في طمأنة (المخاطَب) وفي صنع جسر من الألفة، الألفة التي تتجسد ككلمات، يقول ليوسا: (فنحن مثلك تأخذنا أحلامنا للكتابة، وتُعيدنا الكتابةُ لما يُحيط بنا من ظلام). الكتابة رحلة من أجل التعرف، إنها بحث في ظلام، تعيننا الكلمات في هذه الرحلة في اكتشاف المصادفات حيناً أو ابتكارها حيناً آخر (تعلم، أيها العزيز، بأننا لم نعش على التراب الإسباني يومياً، وليست لنا ومضةُ ذكرى عن برشلونة الجميلة لنُسعد باستعادتها، لكن ذلك لا يمنعنا من أن نجتهد في ابتكار عزائنا، حيث الكلمةُ وحدها تمنحنا برشلونة أخرى). لا حاجة في ظلام الكتابة إلى ومضة، ظلام هادٍ بعتمته ومدلٍّ باليقين الداخلي أو بالشك، لا فرق، إنه الظلام ذاته الذي يعود المؤلف فيستعيد ذكره مع كاتب آخر: (هكذا تبدأ اللعبة سيد إيكو، من نسخة منسيّة في ظلام الرفوف طالما انتظرتْ أن تقع عليها يداك).

هكذا لن يبدو كتاب (الكتابة) إلا على أنه كتاب (القراءة)، في الحقيقة نحن الذين لا نبدو إلا كقارئين ونحن نكتب… الحياة نفسها فعل قراءة لا ينقطع، في كل لحظة نحن نقرأ، نحن أنْ نتعرف وأن نجهل فنحن في قراءة مستمرة تكون معها حواسُّنا وسائلَنا في التعرف، في القراءة… هل يبدو هذا التصور وجهاً آخر مضاداً لما أراده لؤي حمزة عباس حيث (تكون القراءةُ فعلَ كتابةٍ لاحق)؟ لا فرق في هذا التبادل الذي يظلّ يتكرر في حياة الإنسان على أكثر من مستوى سوى مستوى الكتابة والقراءة، كما يتكرر في كتاب لؤي نفسه.

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم