الغناء الأول

موقع الكتابة الثقافي writers 37
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مصطفى السيد سمير

في قرية فوق التل كان الفلاحون يزرعون الكريستال، وفي مثل هذه القرى المرتفعة تمثل هذه الزراعة خطرا، لأن أشجارها تكون قريبة من السماء، وقد تشتد الريح ويغلب الضباب ولا تستطيع السماء أن تفرق بين النجوم وشجر الكريستال الذي يضيء وينطفئ مع الهواء. لذا كانت القوانين صارمة: يجب أن تُروى حدائق الكريستال نهارا، ويجب أن يحصد المحصول بمجرد نضجه وقبل أن يشتد ضوؤه حتى يخفي ظلال الشجر، ويجب أن تُبعد العصافير عن الشجر، وأن تمتنع البنات عن نقش أسماء أحبتهن على الجذوع. لكن في إحدى السنوات جرى ما جرى، رغم كل القوانين، كان المطر كريمًا والهواء غلّابًا. أورق الفيروز على الشجر.

وقف الفلاحون في الصباح التالي أمام الحديقة. وجدوا السماء قد حلت في المحصول. الضوء قد أصبح أكثر خفوتًا لكنه أوسع رقعة، والظل ذائب في الأرض ويتطاير مع ذرات التراب. حامت العصافير في دوائر حول الأشجار دون أن تعرف هل عليها أن تقترب أم تبتعد، واقتربت الفتيات بحذر وهن يتساءلن إن كانت القوانين القديمة لا تزال سارية. ضرب الملك الأرض تحته بغضب، وأمر بالقبض على الفلاح الذي أورق الفيروز في أرضه، وفرْض الطوارئ، وحظْر الحب، حتي يعرفوا سبب ما حدث.

أُغلقت الحديقة بالسلاسل ووُضع أمامها الحرس، ورغم ذلك كان البعض يتسللون ويتسلقون الأسوار للفرجة على الفيروز من بعيد. كان يشع بمحبة مثل صورة لحبيب غائب، يشعل اللهفة ويُشبعها، يفتح أبواب القلب ويرمي بداخله ظلا من فرح أو حزن أو حنين. رغم ذلك لم يحاول أحد منهم دخول الحديقة، لأنهم يعرفون أن من يقترب أكثر يتحول قلبه إلى شجرة فيروز ولا يتوقف عن إهدار المحبة.

مرت أيام والتحقيقات مستمرة، والحب ممنوع من التداول والحديقة مقفلة بالسلاسل. بدأ الفيروز يظمأ ويبهت من نقص العناية. وحدها ابنة الفلاح كانت خائفة. كانت ترغب في ري المحصول والاطمئنان عليه، لكن الجنود كانوا يمنعون الدخول. حتى تمكنت ذات يوم من التسلل عبر موضع في السور بين شجرتين. مشت وهي تنظر إلى أعلى. كان الفيروز سماء مورقة محمولة على الغصون، الغصون تهتز كأنها تطير، الأرض خفيفة كالغيم، الحشرات في الشقوق تلتمع كالمطر. مدت يدها وقطفت واحدة من الفيروز. كانت صغيرة لكن واسعة كنافذة على السماء انفتحت أمامك فجأة. شعرت بضعف الجاذبية، وشمت رائحة الهواء النقي. خلعت عقد الكريستال عن رقبتها، وقضت ليلتها تصنع عقدا من الفيروز.

نظر الناس إلى البنت والعقد نظرة غريبة، فضولية وعدائية ومتوجسة. لم يسبق لأحد منهم أن رأى السماء من هذه المسافة القريبة. تجنبوا السير بالقرب منها، أغلقوا أزرار الملابس، تعلقوا بالأبواب والأشجار كمن على وشك السقوط. أحدهم سقط بالفعل، سقط حين اقترب منها دون قصد ثم زحف مبتعدا. استغربت الفتاة ردود أفعالهم. لم يكن أمامها سوى أن تنظر لأعلى كي لا تراهم. بالأعلى كانت العصافير، هي الوحيدة التي كانت تقترب منها أينما مشت.

مرت الفتاة على عربة بائع ورد. كان يائسًا، وكان الورد ذابلًا بسبب حظر الحب. نادته باسمه. أُخذ الرجل بصوتها، كان مزيجا من دغدغة العصافير وحزن الأجراس ورفيف الستائر وخطوات الأقدام وقت الرقص. أدهشها صوتها هي الأخرى. أفاق الورد على العربة وتفتح دفعة واحدة. نمت فروع من كل مكان في العربة وارتفعت وتشابكت حاملة وردًا بكل الألوان. حديقة صغيرة فتحت عينيها فوق عربة الورد. وقف البائع للحظة عاجزًا عن الحديث. ثم أعطاها فرعًا من البنفسج، وطلب منها أن تزوره دائما.

مرت على منزلها. كان البواب ممسكًا بعصاه ينظر إلى الطريق في تحفز. تغيرت أخلاق الجميع بعد حظر الحب، أصبحوا أكثر عنفا، لذا ارتفعت معدلات الخوف. نادته باسمه. فُتحت كل نوافذ البناية في لحظة واحدة. تحولت البوابة الحديدية إلى شاطئ بحر. تحولت قضبان النوافذ إلى أطفال قفزوا من أماكنهم وركضوا في كل اتجاه وهم يحدثون جلبة عالية. تحولت العصا في يد البواب إلى مظلة، بسطها في وجه الشمس، ونام.

مرت على حبيبها في عمله. كان فرّانًا. وجدته واقفا في المخبز يأخذ قطعة من عجين قلبه ويخلطها بكل رغيف. نظرت إليه بأسى. هي تعرف كم هو شاق هذا العمل لكنها تعرف كذلك أن قلبه كبير بما يكفي ليحتمل، قلبه الذي يتركه لها كلما التقيا مثل رغيف كبير تأكل منه حتى تشبع. نادته دون صوت كي لا ينشغل عن زبائنه، لكنه سمعها. فجأة توقف طابور الأرغفة الساخنة الخارجة من الفرن، وخرج من فتحة الفرن رغيف كبير على هيئة طفل، أطل من عتمة الفرن وسط دهشة الجميع، ثم وقف، طويلًا وساخنًا وخشنًا كأنه أول المخلوقات. وضع قطعة كبيرة من العجين في قلب الفرّان، وربّت على أيدي الواقفين في الطابور أمام المخبز. بكوا جميعا. لم يربت عليهم أحد منذ زمن بعيد رغم وقفتهم الطويلة أمام الفرن. قبّل وجنة الفتاة. وركض مبتعدا.

ترك الناس الطابور وساروا خلف البنت. نفض الفرّان يديه وسار إلى جانبها. وخلفهم كان الأطفال / النوافذ. ومن بعيد كانت تسير ببطء عربة الورد، والبائع يحاول التعلق بفروع الورد العالية كي يتمكن من رؤية الفتاة السائرة في المقدمة. مشت المسيرة، وكلما نادت الفتاة أحدًا مسه السحر وانضم إليهم. وصلت المسيرة إلى قصر الملك. نادت اسم أبيها السجين. شفت حجارة السور وجدران القصر كأنها من فيروز. بدا السجناء في القبو وهم يتحسسون الضوء الضعيف كمن يربّت على ظهر قطة مريضة، بدا الجنود وهم يتنصتون على غرف الجواري، والملكة وهي تضاجع كبير الخدم، والوزير وهو يجلس على كرسي كبير يزعق بغضب ويصدر الأوامر دون أن يكون هناك من يسمعه، والملك وهو جالس على عرشه عاريًا ومحدقًا في السقف.

لم يشعر أي من سكان القصر بأي تغيير. وحدهم السجناء هم من تعجبوا من اتساع الضوء. قفزوا من أماكنهم وصرخوا من الفرح. ركضوا ومروا عبر جدران الفيروز مثل ضوء قوي. وحين وصلوا إلى خارج القصر عانق الفلاح ابنته. قال لها: حين سمعتُ الغناء، عرفتُ أنني قد تحررت.

سألته الفتاة: ماذا يعني “غناء”؟ اهتزت الأسوار والجدران من جديد بخفة كستائر حريرية حين تحدثت الفتاة من جديد. ابتسم الفلاح وأشار إلى عقد الفيروز حول رقبتها. قال: كانت هناك حكاية قديمة تخبرنا أن السماء سوف تقترب من الأرض حتى يمكن لمسها بالأصابع، وأن كل من يحيط عنقه بها سيصبح صوته غنيًا بالخيال، ينبعث السحر من كل من يقابله وفي كل مكان يذهب إليه. أنا أسميت هذا الصوت “غناء”، لأنه ليس كأصواتنا فقيرة الخيال والسحر.

سمع الناس الحكاية، وركضوا جميعا باتجاه حديقة الفيروز. أزاحوا الحرس وتسلقوا الأسوار. ضربوا الأشجار بعصيهم وأيديهم كي يسقطوا الفيروز من أعلى. لم يبق مع الفتاة سوى أبيها، والعصافير، والفرّان الذي ترك لها قلبه كما يفعل كل مرة، وسكان القصر الذين لم يشعر أحدهم بأي مما يجري.

لأيام طويلة ظل الناس في الحديقة، يصنعون عقودًا من الفيروز. كل منهم كان يرغب أن يصبح صوته أجمل من الآخرين، لذا كانوا يبالغون في طول العقد. بعضهم كان يطيل العقد حتى يبلغ ركبتيه، وبعضهم كان يمد العقد أمامه حتى يتعثر في مشيته، حتى إن أحدهم وضع العقد حول رقبته ولم يتمكن من رؤية طرفه الآخر. كل منهم كان يجرب صوته، ويزيد من شدته إلى أقصى درجة ممكنة. ساد النشاز الصاخب في الحديقة. خافت الأشجار ولم يعد بمقدورها النوم. وخلت الفروع من الفيروز لأنهم كانوا ينتزعون حتى الثمار التي لم يكتمل نضجها.

وذات يوم سمعوا صوتا مخيفا، يشبه صرخة طائر مذبوح. عالٍ وحاد وخشن ومبهم. سمعته المدينة كلها حتى سكان القصر. رفع الحرس أسلحتهم ودخلت الفتاة في حضن أبيها. وفي الحديقة صرخ الناس من الفزع. كل الفيروز قد تحول إلى كريستال، كريستال باهت عديم الموهبة مثل ساحر فاشل. رجع الفيروز إلى السماء، ولم يعد الكريستال يبعث البهجة. ألقوا بكل ما في أيديهم، وخرجوا من الحديقة مكسورين ومعتمين.

وفي القصر تنفس الملك بارتياح. رُفع الحظر عن الحب وفُتحت الحديقة من جديد. عاد الفلاح وابنته ليرويا الشجر المفزوع ويطمئناه. وفوق أعلى شجرة في الحديقة علقت الفتاة عقد الفيروز، الذي ظل يضيء بوهن، يشع بمحبة مثل صورة لحبيب غائب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شاعر وقاص مصري ـ والقصة من مجموعة “الأسرار السبعة لصانع الحكايات” ـ صدرت مؤخرًا عن روافد

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون