العطايا السوداء *

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فصل من رواية : سالي عادل *

ترجل من سيارته، ارتكن عليها في انتظار المساعدة. توقفت سيارة أمامه. صرخ بجنون، صرخ: بسم الله الرحمن الرحيم! السيارة تقود نفسها!

انخفض زجاج النافذة.. وقال له السائق ضاحكًا:

- هه! ألم تتبينني في العتمة؟

كان سائقها عجوزًا أسود البشرة والشعر والملابس في هذه الليلة السوداء.. شعر بالحرج الشديد:

- عذرًا.. لقد تعطلت سيارتي و...

- تعالى سأقلك إلى حيث تريد.

- لا.. أشكرك.. أنا فقط أحتاج إلى إطار.

- آه! آه! بالتأكيد.

ركن العجوز سيارته إلى جانب الطريق، أخرج الأدوات من الحقيبة، وجلس على الأرض جوار سيارته.. يحاول تحرير إطارها في صمت..لوهلة، لم يتبين المسافر ما يفعل العجوز، إذ لم يخطر بباله قط أن هذا ممكن.. صاح به:

– لا! لا! لا أقصد أن تعطيني الإطار الذي تسير به.. أقصد لو عندك واحد إضافي..

– سيكون من دواعي سروري أن تأخذ هذا.

– لا أريد أن أفسد سيارتك.

– لا عليك أبدًا أبدًا.

فكّر المسافر: لو أنه مجنون، أو كريم، أو خدوم.. فكلها أشياء مرعبة في هذه الحلكة وعلى هذا الطريق المهجور.. لكن ما حيلته.. بالفعل طريقه طويل ويحتاج إلى الإطار.

انتهى العجوز من فك الإطار، وناوله للمسافر الذي جلس يركّبه شاكرًا العجوز.. أخرج العجوز ورقة وقلم من جيبه وقال:

– هل يمكنك أن تكتب لي كلمة للذكرى؟

تعجب الفتى، هو طلب غريب.. لكن فقط للظروف، وليس غريبًا بالفطرة. تناول القلم الأسود وكتب على ضوء كشّاف السيارة:

“جزيل الشكـ..”

ولكن الورقة طارت وانغرس سن القلم في يده مسببًا ألمًا شديدًا.. نظر الشاب إلى العجوز باعتذار لضياع الورقة، لكن العجوز نظر له راضيًا:

– لا يهم! هذا ممتاز! ممتاز!

        بعد أن انتهى المسافر من تركيب الإطار.. وجد نفسه مضطرًا إلى دعوة العجوز ليوصله بعد أن أفسد سيارته لأجله.. وهي الدعوة التي رحب بها العجوز..

في الطريق، أخرج العجوز بطاقة العمل الخاصة به ومنحها للمسافر.. وقد توقع من نوعية الورق والطباعة البارزة التي عليها أن للرجل وظيفة مرموقة.. كما أن بطاقات العمل السوداء تنم عن ذوق راق.. لكن المسافر لم يتبين أحرفًا يقرؤها بسبب الظلام، فاكتفى بوضعها في جيبه.

كان مسكن العجوز على مسافة قريبة: فيلا صغيرة محاطة بعدد قليل من الفيلات.. توقف المسافر عن القيادة وشكر العجوز الذي ترجل ومال يحدث المسافر من النافذة قائلاً:

– لا مزيد من كلمات الشكر.. إن أردت شكري حقًا فلتأتي تؤنسني قليلاً في بيتي.

تريب المسافر:

– أرجو أن تقبل اعتذاري فطريقي لازال طويلاً.

– لن أعطلك أبدًا.. فقط أدعوك إلى شراب دافيء.

– هذا لطف زائد.. لكن أخشى أني لا أستطيع.

– أرجوك أن تقبل يا بني.. فكّر أنها دقائق فقط ستسعد هذا العجوز.

بدا العجوز شديد الإلحاح، يستخدم الاستمالات العاطفية بإفراط، ربما لأنه لا يملك غيرها؛ فلا يوجد منطق يؤيد ذهاب الرجل إلى بيت العجوز المريب.. وطالما لم تنجح الاعتذرات، فقد قرر المسافر أن ينطلق بالسيارة مباشرة.. في حين وقف العجوز يصب اللعنات على رأسه.

لكنها أمتار، وانفجر إطار السيارة ثانية، وتوقف المسافر إجباريًا. وجد أنه من جديد في دائرة الفيلات الصغيرة. توقف العجوز عن السباب فجأة، وبش وجهه له، وعاد يجدد دعوته للشراب الدافيء وكأنه لم يسبّه قط.

خيارات المسافر محدودة: البقاء في البرد في انتظار سيارة شحيحة جدًا هذه الأيام.. وغير مضمونة أيضًا لأنها قد تحمل شخصًا مريبًا آخر.. أو دق أبواب هذه الفيلات طلبًا للمساعدة، وهو الأمر الذي قد يعرّفه إلي شخص مريب آخر، أو أن يذهب مع الشخص المريب الأول، وهو العجوز.

هكذا فكّر أن المريب الذي تعرفه خير من الذي لا تعرفه، خاصة وأن العجوز هش وضعيف جدًا، برغم كرشه المتدلي لكنك تعرف فورًا أنه فقط كتلة شحم ليس لها علاقة بالموضوع، كما أنه يتخفى خلف البشاشة والود، وهذا ليس مطمئنًا لكنه يظل أفضل من أن يتخفى خلف سكّين أو بندقية.

سأل المسافر العجوز:

– ألديك إطار آخر؟

– نعم، لكن ليس قبل أن ترافقني إلى البيت.

– حسنًا.

هش وبش العجوز، فتح الباب ودعا المسافر للدخول دعوته لسفير أو وزير، منحنيًا، باسطًا يده.. متجمدًا هكذا.

– حالاً سأحضر لك الشراب.

عاد بعد لحظات، مال واضعًا الكوب أمام المسافر، نظر المسافر إلى السائل الأسود الفوّار في دهشة:

– ما هذا؟

– كولا

في هذا البرد؟! غاب العجوز فيما بدا أنه المطبخ.. لم يعد المسافر يشعر بالفضل تجاهه، حتى الابتسامة المجاملة أو كلمة الشكر لا تأتي شفاهه.. ربما هو السباب يرفع الكُلفة بين الناس فلا تهتم بعدها بالمجاملات، وربما أغراه وهن العجوز بالقوة، ووده بالجفاء، وربما هو فقط يشعر بالـ ’ورطة‘.. تجرّع الكولا.. وتذكر بطاقة الرجل، فأخرجها من جيبه وقرأ:

“د. (أكرم عطا الله).. جرّاح تجميل”

تعجب لهذا.. لو أنه مكانه لاهتم بالعمل على نفسه أولاً. إذًا هو عزيز قوم ذل! أعاد البطاقة لجيب قميصه.. نغزه شيء بقوّة جوار القلب إلى حد أن تأوّه بصوت مرتفع… استغرق الألم لحظات قبل أن ينتقل إلى معدته بحدّة شديدة هذه المرة إلى الحد الذي جعله يتساءل: ما الذي كان بالشراب؟

عاد العجوز بطبق من التمر الرطب، ولازال مُلحًّا كعادته، قام المسافر غاضبًا:

– يكفي هذا! أين الإطار؟

– فقط اجلس يا بني، وتناول تمرة.

– ولا كلمة أخرى! هات الإطار.

تردد الرجل إذ يبوح:

– الحقيقة أنه ليس لدي إطار هنا.. لكن….

تلفت حوله:

– لدي العديد من الأشياء الأخرى.. ما رأيك في هذه الكوفية؟ ضعها على عنقك.. هذه الشمسية، ستنفعك بالخارج.. خذ تمرة.. هذه السجّادة.. ألفها لك؟ خلع قميصه.. خذ ارتده.. خذ تمرة.. خذ التلفاز.. خذ…

– كفى! كفى!

كان يتحدث بسرعة، يتحرك بسرعة، يتلفت حوله… ينظر للساعة بين كل كلمة وأخرى.. يعرض أي شيء أسود يصادفه.. في هذه اللحظة قرر المسافر أن كرم العجوز زائد حقًا.. أنه يخفي سرًا حقًا.. يكيد لشيء حقًا.. وأن الغباء الحقيقي أن يأخذ شيئًا آخر منه، بمعنى أن هذا هو الغباء الإضافي؛ لأن الغباء الحقيقي أنه هنا أصلاً فتح الباب ليخرج، فتعلّق العجوز بساقه وقال بخشوع:

– أرجوك.. الوقت ينفذ.. خذ تمرة.

دفعه بعنف فسقط أرضًا، غادر المسافر المنزل ومشى باتجاه الطريق.. سمع طرقات محمومة من خلفه، التفت فرأى العجوز يطرق أبواب الفيلات المحيطة: يطرق بجنون كل الأبواب.. حاملاً في يديه العشرات من البالونات السوداء.. يصرخ:

– بالونات للأطفال.. بالونات بالمجّان.. خذوا أربعة عليهم واحدة هدية… خذوا واحدة عليها أربعة هدية.. خذوا كل البالونات.. خذوا أي البالونات…

في حين تتهيب كل الأبواب وتُغلق في وجهه. رأى العجوز يسقط منهكًا في مركز دائرة الفيلات، ورأى الهول يحلّق فوقه.. ثم يدنو ليقترب منه.. تسمّر المُسافر في موضعه.. نزل رجل أسود مهيب من فوق رأس العجوز إلى الأرض أمامه.. وقال له:

– انتهت مهلتك.. وفشلت في تحرير نفسك.. والآن…

مد الرجل المهيب يده.. حاول العجوز التملص:

– لا.. أرجوك.. امنحني فرصة أخرى.. لا.. أرجوك.. لا وضع المهيب يده على رأس العجوز، وتابع كأنه لم يسمع شيئًا:

– والآن تنصهر وتذوب روحك في بئر العذابات الأبدية.

كان المسافر يقف بلا ساقين، يحتمي بلا شيء، لم تكن تنقصه أبدًا صرخات العجوز المدوّية في هذا الفضاء.. المعبرة بدقة شديدة عن هذه الـ ’العذابات الأبدية‘.. أمّا آخر ما كان ينقصه فعلاً.. أن تتجه نظرات الرجل الأسود إليه.. قائلاً:

– أماّ أنت!

ذابت لا-ساقاه سقط.. وغالبًا بلل سرواله:

– أنت تلقيت أربع عطايا سوداء فقط..

نظر في أوراقه:

– إطار سيارة أسود، قلم أسود، بطاقة عمل سوداء، مياه غازية سوداء.. بقيت لك عطية سوداء واحدة بعدها نستحق روحك.. مسموح لك بثلاثة أيام، فإما تنال عطيتك السوداء الأخيرة ونأخذ روحك، أو لا تنالها فلا ننتفع بروحك ونذيبها في بئر العذابات الأبدية.

صرخ:

– لا! بئر العذابات الأبدية لا!

ثم حسبها في رأسه، واستدرك:

– ولا تأخذوا روحي كذلك.

قال الرجل كعادته في البناء على كلامه السابق:

– والآن، مسموح لك بسؤال واحد قبل أن أنصرف.

فكّر المسافر، فكّر:

– كأن العجوز أراد أن ينقذ نفسه بمنحي الأشياء.. كيف أنقذ نفسي مثله؟

– إذا منحت خمس عطايا سوداء ممسوسة بماء الوهب المخلوط بدمك إلى آخر خلال المهلة الممنوحة لك ستمرر اللعنة إليه وتحرر نفسك، وتستحق روحك، ونستحق نحن روحه هو. على أن يقبل الآخر العطايا الخمس ويستخدمها راضيًا..

ثم قذف إليه بقنينة، وقال:

– ولأنك سألت عن ماء الوهب تستحقه. تنتهي مهلتك منتصف ليل الإثنين..

ثم عاد فاختفى من حيث أتى..

صرخ الرجل في هيستيريا:

– انتظر.. لا تتركني هكذا.. لا تغادر قبل أن تمنحني ما سينجيني.. أنت قلت ماء الوهب المخلوط بدمي وأعطيتني ماء الوهب فقط.. فمن أين أحصل على دمي.. من أين أحصل على دمي؟!!!

ثم راح في إغماءة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فصل من رواية ” العطايا السوداء ” صدرت أخيرا عن دار فكرة القاهرية

* روائية مصرية

 

 

خاص الكتابة

 

 

اقرأ أيضا

ملف أدب  الرعب

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون