العالم بعيون قط!

حين تلبس الخرافة ثوب الحقائق: العالم بعيون قط!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبدالعزيز موافى

عن دار ميريت صدرت للكاتب حسن عبدالموجود روايته الأولى «عين القط» وتتأسس أحداث الرواية فى المسافة التى تفصل بين الواقعى والخرافي، إذ تستند إلى الخرافة الشعبية ــ فى صعيد مصر ــ والتى ترى أن التوءم الأصغر يتحول فى الليل إلى قط حين تغادر روحه جسده لتتقمص أحد القطط، ولأن بطل الرواية هو التوءم الأصغر، فإنه يسوح بنا داخل عالم الليل الخفي، إذ يراه ــ بين القطط ــ رمادياً، ليكشف لنا عن أسراره. لذلك، فعادة ما يطلق عليه اسم «القط».

ومن هنا، فإن الرواية تطرح إشكالية هامة وهى أن رؤية الواقع، من خلال إفرازاته الثقافية، إنما تجعلنا نراه بعين الواقع ذاته، حيث تتخذ الخرافة شكل الحقائق. ومن خلال تلك الصيغة، يصبح دمج الواقع بالخرافى هو نوعاً من التماس من الوعى الباطن للذات الجمعية، والذى تشكله الخرافة الشعبية.

وبالتالي، فإن الدخول إلى عالم الرواية السحرى يغدو نوعاً من الايغال فى الواقع ذاته. وتلك أهم مشكلات العمل الروائي: أن يبتدئ الكاتب من الواقع لكى ينتهى به، حتى لو ا تبع تكنيكاً سحرياً، إذ أنه ــ أى الواقع ــ ملىء بتجليات السحر والفانتازيا والعبث واللامعقول، الذى قد نتعايش معها بحكم الألفة والاعتياد، وهنا لا يصبح الكاتب مكلفاً إلا بالكشف عن تحولات الواقع السحرية، بعد نزع قناع الألفة عنها، لنكتشف مدى التناقض بين العقل والذاكرة.

تبدأ الرواية بحناوى الخفير «الخباص» الذى ينقل أسرار القرية إلى العمدة، ونظرا لأنه يحتاج إلى من يعاونه فى مهامه الرديئة، فإنه يتقرب إلى «القط» بطل الرواية/ الصبي، حتى يحكى له عما يشاهده ليلاً فى البيوت، حين يمارس تحولاته، فلقد كان حناوى  طبقاً للخرافة ــ بأن الصبى يعس فى الليل، بعد أن يتلبس جسد أحد القطط وبالتالى فإنه يدخل البيوت خلسة ويدرك بالضرورة خفى أسرارها.

إن روح «القط» تتسلل ليلاً من طاقة الغرفة التى ينام بها، لتحوم فى سماء القرية بحثاً عن قط حقيقى تتلبسه، و حين يتحقق لها ذلك، فإنها تعيش حياة حقيقية فى عالمها الجديد، وهى تنقل إلى جسد الصبى كل ما تعرض له جسد القط من آلام، حينما كانت تحل به. إن هذا التناسخ يجعل من الصبى مستودعاً لأسرار القرية، إذ يمارس تحولاته بوعى كامل.

إن البطل/ القط فى تجواله الدائب يرى  بداية ــ سنية تضاجع السائق عباس فوق سطح منزلها، ومن قبلها كان قد كشف عن العلاقة الآثمة بين تفيدة بائعة الألومنيوم وشاب من خارج القرية، وبعد ذلك بأيام يتلصص على حناوى ذاته، بعد أن يخترق نظامه الأمني، ليكتشف أنه يدير مؤامرة مع عدد من أبناء الليل، لتزوير الانتخابات، وكذا اختطاف نورا ابنة بطرس الحلاق وقتلها، وهى ذات الطفلة التى يهواها «القط». وعندما ينهض فى الصباح، كانت هناك جلبة وإطلاق أعيرة نارية علم بعدها «القط» بأن أبناء الليل قد نفذوا مؤامرتهم، كما عرف بأنه تم العثور على جثة نورا غارقة فى إحدى آبار السواقي.

ويظل عالم الرواية موزعاً ما بين النظر إلى الواقع بين الراوي/ الإنسان مرة، والراوي/ القط مرة أخري، وهنا، ندرك أن اختلاف زاويتى الرؤية لا يؤدى إلى التناقض فيما بينهما، بقدر ما يؤدى إلى توسيع أفق الروية فالراوي/ القط يراه فى العمق منه، فيما يشبه وحدة الباطن والظاهر.

وعبر تلك الرؤية المتسعة، فإن البطل كان يرى شخوص الرواية بطريقة أكثر دقة وأقل انحيازاً.

فحناوى الذى يعانى نوعاً من «البارانويا»، رغم دونيته الاجتماعية، إنما يخترع ماضياً ذهبياً للقرية ينتمى إليه وحده، فى مواجهة تدنى حاضرها الذى لا يتقبله كحكيم، ويجهض إحساسه كمسئول.. كما أن «القط» يطرح احباطات زوجة بطرس الحلاق، الفرس الجامحة التى تتطلب إشباعاً، لكن الواقع لا يسمح لها بذلك. لذا، فإنها تكتفى بالإشباع الذى تتيحه لها نظرات الاشتهاء فى عيون الرجال، كى تخلق مبرراً لوجودها، ثم يكون المشهد الذى تقدمه لها الرواية مع عطيتو، والذى يعد من أجمل مشاهد الرواية.

وتمتلئ الرواية بالعديد من الشخصيات التى تزخر بها القرية المصرية، والتى تم رسمها من خلال مجموعة من المشاهد الفنية الآسرة: مشهد الجدة التى تندهش حين يموت أبطال مسلسل تليفزيونى ما، ثم تكتشف أنهم يحيون فى مسلسل آخر. إضافة إلى شخصية أبوريضاوية التايه، وفوزى صاحب التليفزيون الأول فى القرية، وسعد الحلاق مدعى الشعر، والدكتور فتحى طبيب القرية بتناقضاته الغريبة، وأخيراً الأستاذ صبرى مدرس القرية الذى يعشق ا لنظافة فى واقع يزخر بالقذارة.

وتصل الرواية إلى أنه بعد المراس الطويل، فإن «القط» أصبح على دراية كبيرة بعالم القطط، حتى أنه أصبح قادراً على فهم مشاعرها الداخلية بل إنه تعايش مع لحظات التزاوج الخاصة بالقطط، خاصة حينما كانت روحه تحل فى جسد إحدى الإناث، وقد أدرك أن القطط أنواع، يأتى فى مقدمتها القط المتأمل الذى يقف طويلاً ناظراً إلى عقربة تعبر بعيداً، أو لتأمل مضاجعة بين حمار وحمارة، كما أن هناك من يكرس حياته للنظر إلى الأبراص. إلا أن «القط» يكتشف أن للقط المقدرة على التخاطر العقلي، فثمة اثنان يتقابلان ثم يحدقان فى بعضهما لفترة دون صوت، الأجفان تنفتح وتنغلق أحياناً، ثم يقرران فى النهاية المسير جنباً إلى جنب.

على أن الأمر الأهم فى هذا الصدد أنه إذ يحاصر بالخوف: من الأب، أو من حناوي، أو من الظلام، فإن هذا الخوف جعله يأمل فى أن يفرض واقعه الإنساني، لكى يلتحق بعالم القطط الأكثر أمناً، لكنه يشترط ــ لكى يتحقق ذلك ــ أن يحل بجسد قط يعتز بنفسه، يتعامل بكبرياء، ولا يهرب أو يفزع أمام تلويحات الصبية بالطوب، ويأكل فقط داخل المنزل الذى يحيا به، خروجه للشارع يكون فقط للتأمل وتغيير المشاهد. وقد وجد ضالته فى قط الشيخ على طه، الذى كان يسير أمام عربة مطافئ بتيه وكبرياء، حين دهسته عجلاته وسوته بالأرض.

وهكذا، تنتهى الرواية بانهزام أحلام «القط» فى عالم البشر، وتسحب منه حلمه الأخير فى الالتحاق النهائى بعالم القطط بموت مثله الأعلى فى الحياة.

وكأنه قد كتب عليه أن يظل موزعاً ما بين الألم الإنساني، وتشرده القططى داخل واقع لا ينهض من القذارة إلا ليسقط فى الخطيئة.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم