البعد الجماليُّ في قصيدة النَّثر الحداثيَّة

أحمد تمام سليمان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. أحمد تمَّام سليمان

المقدِّمة:

     تنهض هذه القراءة على مبحثـيْنِ؛ أوَّلهما نظريٌّ: يناقش بعض الآراء الجدليَّة حول قصيدة النَّثر الفصحى المعاصرة، مركِّزًا على بعدها الجماليِّ، وبعض هذه الآراء تبدو مفرَدةً، وبعضها قد يلتئم لتكوين رؤيةٍ أو وجهة نظرٍ. ثانيهما تطبيقيٌّ: آثر من خلاله الباحث أن يكـثِّـف جهده على تحليل نصٍّ كاملٍ يمثِّـل هذا الجنس الأدبيَّ، فاختار ديوان “لعناتٌ هادئةٌ”، للشَّاعرة المصريَّة هبة مصطفى أحمد، محاوِلاً الكشف عن جماليَّات القصيدة من خلاله. كما استخدم الباحثُ المنهجَ الوصفيَّ التَّحليليَّ ليسير بشكلٍ أفقيٍّ، من خلاله يحلِّل الآراء وصداها في المبحث الأوَّل، والنَّصَّ وتجلِّياته في المبحث الثَّاني.

(1)

قصيدة النَّثر العربيَّة بين الرَّأي والرُّؤية:

     هناك من الأبحاث ما يجيب عن أسئلةٍ طُرحتْ، لكنَّ منها ما يفجِّر أسئلةً لقضايا فُرضتْ، وإن كان النَّوع الأوَّل يتَّـفق والمنطق، فإنَّ النَّوع الثَّاني ممَّا افترضه الواقع؛ نظرًا لقضايا استجدَّتْ، أو رُؤًى استُحدثتْ، أو موضوعاتٍ تشعَّبتْ، أو مناهجَ تداخلتْ، أو نظريَّاتٍ أصبحتْ قَارَّةً بَيْدَ أنَّها افتقرتْ إلى التَّطبيق، أو تطبيقاتٍ تعارضتْ مع نظريَّاتها حال الإجراء…، وهكذا تتردَّد العقليَّة البحثـيَّة الَّتي تشبه البندول بين السُّؤال والجواب، أو بين اتِّجَاهَيْهِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، ولعلَّ هذه العلاقة الجدليَّة بينهما هي الَّتي تدفعنا إلى أن نفـكِّر ونكتب ونناقش، وَسَيَسَعُـنَا الخلافُ مادام علميًّا لم تَسْتَبِدَّ به الأهواءُ.

     فهذه مجموعةٌ من الآراء النَّـقديَّة المتفرِّقة، الَّتي قد تَـلْـتَـئِـمُ  نسيجٍ واحدٍ؛ لتكوِّن رؤيةً حول قصيدة النَّثر العربيَّة، فإنَّ السُّؤال الَّذي طُرح في السَّابق حول مشروعيَّة قصيدة النَّثر، قد تجاوزه الزَّمن، وأصبح لدينا كَمٌّ هائلٌ من الإنتاج الشِّعريِّ، الَّذي يفتقر إلى البحث والدَّرس والنَّظر، خاصَّةً أنَّ معظم الدِّراسات انْـتَهَجَتِ المنهج التاريخيَّ في التَّـأصيل لهذا الفنِّ الشِّعريِّ، ونحتاج في المرحلة القادمة إلى المزيد من الدِّراسات الوصفيَّة التَّحليليَّة؛ للكشف عن جماليَّات قصيدة النَّثر العربيَّة، والخصائص الْمَائِزَةِ لقصيدة النَّثر المصريَّة، ودور التَّرجمة في التَّواصُل الثَّـقافيِّ والأدبيِّ بين العرب والغرب، ومدى تأثُّر الشُّعراء العرب بهذا الاتجاه الفـنِّيِّ في أوروبَّا وأمريكا.

     ولقد رأى نجيب محفوظ في أربعينيَّات القرن العشرين أنَّ الرِّواية هي الأظهر في الأجناس الأدبيَّة وأنَّها القادمة، وتابعه مبدعون ونـقَّادٌ كثر؛ فوجدنا طه وادي يضع كتابه: “الرِّواية ديوان العرب”، وجابر عصفور يضع كتابه: “زمن الرِّواية”، بينما رأى مسعود شومان أنَّ مقولة: “زمن الرِّواية” مُغْرِضَةٌ؛ لأنَّها وُضعتْ على لسان بعض النُّـقَّاد المشاهير لتكون بديلًا عن الجمع الميدانيِّ للأدب الشَّعبيِّ([i])، ورأى عبد القادر القطُّ في ثمانينيَّات القرن العشرين أنَّه يعيش زمن الدِّراما خاصَّةً الدِّراما التِّـليفزيونيَّة، وذلك بعد مرور أكثر من ربع قرنٍ انتشر فيها التِّـليفزيون منذ انطلاقة إرساله في مصر سنة (1960م)، حتَّى سادتْ ثقافة الصُّورة، ورأى أدونيس أنَّه يعيش زمن الشِّعر، ولعلَّه يقصد زمن قصيدة النَّثر تحديدًا، ولعلَّ بعض هذه العبارات تُعَدُّ أحكامًا صدرتْ وِفْـقَ ظروفٍ تاريخيَّةٍ معيَّنةٍ، كالحكم الَّذي ينتصر للرِّواية لاشكَّ أنَّ سبب شيوعه هو حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل سنة (1988م)، وتظلُّ كلُّها كعبارة: “الأكثر مبيعًا” على الأغلفة، فلا تعني الأرقى أدبًا أو الأرهف حسًّا أو الأعمق فكرًا، فهي عباراتٌ أقرب إلى التِّجارة منها إلى الثَّـقافة!

     ومنذ أن أصدر الشَّاعر الفرنسيُّ شارل بودلير (1821- 1867م) ديوانه: “أزهار الشَّـرِّ”، في طبعته الأولى سنة (1857م)، فقد كان له عظيم الأثر في الشِّعر الفرنسيِّ الحديث، وبعد ترجمته أصبح ذا حضورٍ فَعَّالٍ في الآداب العالميَّة، فيرى إيف بونفوا أنَّ أزهار الشَّـرِّ هو “سيِّد الكتب في شعرنا”، وأن يكتب فيكتور هوجو إلى بودلير: “إنَّك تخلق رَعْشَةً جديدةً في الشِّعر الفرنسيِّ”، ولعلَّ أهميَّة بودلير تكمن في استخدامه مصطلح “الحداثة” لأوَّل مرَّةٍ في الكتابات النَّـقديَّة، في مقالته: “رَسَّامُ الحياة الحديثة” في معرض حديثه عمَّا يميِّز الفنَّان المعاصر، ممَّا كبَّد بودلير دفع ضريبة الرِّيادة؛ فبعد نشر الدِّيوان بعدَّة أيَّامٍ نشرتْ صحيفة “لو فيجارو” مقالًا يدعو إلى ملاحقته قضائيًّا، فيتمُّ تقديم الشَّاعر والنَّاشر إلى المحاكمة بتهمتـيْنِ؛ فتطالبه النِّيابة العامَّة بحذف ستِّ قصائدَ بدعوى انتهاك الأخلاق العامَّة، وأربع قصائدَ بدعوى انتهاك الأخلاق المسيحيَّة، ثمَّ أصدر طبعته الثَّانية سنة (1861م)، مراعيًا استبدال القصائد المحذوفة بغيرها ومضيفًا إليها قصائدَ أخرى.

     واتَّخذتْه سوزان برنار نقطة الانطلاق للتَّـأصيل لقصيدة النَّثر الحديثة في أوروبا، فمنذ أن أصدرتْ كتابها: “قصيدة النَّثر من بودلير إلى أيَّامنا”، وقد أحدث صدًى نقديًّا على الصَّعيد العالميِّ، ثمَّ توالتْ ترجمته إلى العربيَّة([ii])، فأحدث حِرَاكًا نقديًّا في مصرَ والعالم العربيِّ، وظـلَّتِ الأبحاث والدِّراسات تتوالى مُوَاكِبَةً الزَّخَمَ الإبداعيَّ لنصوص قصيدة النَّثر، حتَّى وجدنا الباحثين يضعون هذه النُّصوص على مَحَكِّ النَّـقد، في ضوء المناهج النَّـقديَّة الحديثة والمعاصرة، والَّتي كان من أحدثها كتاب: “قصيدة النَّثر: دراسةٌ تفكيكيَّةٌ بنيويَّةٌ”، وبعدما تَـأَنَّتِ الجامعة في طرح قصيدة النَّثر للبحث والدَّرس، فقد اقتحمتْه مؤخَّرًا بعض رسائلها الأكاديميَّة كما ضمَّنـتْها بعض مقرَّراتها الدِّراسيَّة.

     إنَّ كلمة “قَصِيدَةٍ” مؤنَّث “قَصِيدٍ”، على زِنَةِ “فَعِيلٍ”، بمعنى “مَفْعُولٍ”، وتعني لغةً: الكلام المقصود، وتعني اصطلاحًا: الكلام الموزون المقـفَّى، المعبِّر عن الأفكار والمشاعر، المحمَّل بالمعاني الجماليَّة، والشِّعر بذلك يخالف النَّثر؛ لأنَّ النَّثر ليس موزونًا أو مقـفًّى، وإن كان النَّثر إبداعًا يتَّـفق مع الشِّعر في أنَّه معبِّرٌ عن الأفكار والمشاعر، ومحمَّلٌ بالمعاني الجماليَّة، وهنا تواجهنا إشكاليَّة مصطلح “قصيدة النَّثر”؛ لأنَّه يجمع بين كلاميْنِ اتَّـفقـا في المعاني الجماليَّة، واختلفا في الوزن القافية وجودًا وعدمًا، وعليه فأرى أنَّنا في حاجةٍ إلى مصطلحٍ يعبِّر عن فنِّ “قصيدة النَّثر” وِفْـقًا لجماليَّاتها الحداثـيَّة، دون تسميته “قصيدة نثرٍ”؛ حتَّى لا تُوجد شُبْهَةُ تَـنَاقُضٍ، مصطلحٌ أَشْبَهُ بـ“الشِّعر غير الموزون”.

     ومازلنا نخلط بين مصطلحات “الشِّعر المنثور” و“النَّثر الشِّعريِّ” وغيرهما، ولم يكن التَّحرير الاصطلاحيُّ وافـيًا لدرجةٍ قد تجعل العنوان يجمع بين الضِّدَّيْنِ “الشِّعر” و”النَّثر”، سواءٌ في المركَّب الوصفيِّ “الشِّعر المنثور”، و”النَّثر الشِّعريِّ”، أم في المركَّب الإضافيِّ “قصيدة النَّثر”، ممَّا حدا بالكثيرين إلى استخدام المصطلحات من قَبِيلِ التَّرَادُفِ.

     وبشيءٍ من البرِّ بتراثنا العربيِّ فيمكن أن نبحث عن جذور قصيدة النَّثر الحداثـيَّة في طيَّاته، وفي العصر الحديث نَتَـلَمَّسُ جذور قصيدة النَّثر العربيَّة منذ نهاية القرن التَّاسع عشر الميلاديِّ من شعراءَ مصريِّين وَمُتَمَصِّرِينَ، وعلى غرار كتاب سوزان برنار الَّذي أَرَّخَتْ فيه لقصيدة النَّثر الغربيَّة بدءًا من شارل بودلير -وكما بُحث من قَـبْلُ في ريادة يعقوب صَنُّوع للمسرح المصريِّ مثلًا- فيمكننا البحث في بَوَاكِيرِ “الشِّعر المنثور” و”النَّثر الشِّعريِّ”، لدى أمين الريحانيِّ (1876- 1940م)([iii])، ومصطفى صادق الرافعيِّ (1880- 1937م)([iv])، وجبران خليل جبران (1883- 1931م)([v])… وغيرهم، ومقالاتهم الَّتي طَغَتْ عليها الشَّاعريَّة ممَّا يُعَدُّ من جذور قصيدة النَّثر، بخلاف قصيدة

النَّثر المعاصرة إذا طَغَتْ عليها المباشَرة فَشَابَهَتِ المقالَ يُعَدُّ عيبًا، ولعلَّ الملامح الشِّعريَّة البادية في كتابات جبران هي ما دَفَعَتْ فاطمة قنديل إلى أن تُعِدَّ رسالتها للدُّكتوراه عن “شعريَّة الكتابة النَّثريَّة عند جبران خليل جبران”، واليوم بعد أن شاعتْ قصيدة النَّثر العربيَّة، فنجد نصوص الرُّوَّاد يُعاد طبعها ونشرها محقَّـقةً وَمَشْكُولَةً للقارئ العربيِّ المعاصر، ممَّا يمكِّنه من الموازَنة الأدبيَّة للبحث عن القيم الجماليَّة لقصيدة النَّثر الحداثـيَّة.

     ويرى الشَّاعر محمَّد آدم أنَّ قصيدة النَّثر العربيَّة هي الأسبق وجودًا من القصيدة العموديَّة([vi])، واحتجَّ بما في الكتب المقدَّسة من نصوصٍ أقرب إلى الشَّاعريَّة، في رأيٍ نادرٍ يخالف العرف العامَّ الَّذي يرى فيها تجليَّات الحداثة وما بعدها خَلَفًا للقصيدة الكلاسيكيَّة عامَّةً، بينما نرى أنَّ استهلالات القصص القصيرة والمشاهد الرِّوائيَّة لدى كبار الرِّوائيِّين، أمثال: نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القـدُّوس ويحيى حقِّي ويوسف إدريس ويوسف السِّباعيّ… وغيرهم، لا تخلو من شاعريَّةٍ تدخلها في تَضَاعِيفِ قصيدة النَّثر من حيث البناء الفـنِّيُّ، وهذا الرَّأي ليس يتوقَّف على النَّصِّ القصصيِّ والرِّوائيِّ، فقد يسحب على نصوص الكتب المقدَّسة أيضًا.

     ولا يفوتنا تداخُـل الأجناس الأدبيَّة ولعلَّ أظهرها تضافُر “الشِّعر” و”السَّرد”، فكما كنَّا نطالع الشِّعر القصصيَّ عند أمير الشُّعراء أحمد شوقي وغيره، فقد طالعنا قصيدة النَّثر الْمُـفْعَمَةَ بالسَّرد لدرجةٍ أَصابتِ المتلقِّي بالخلط بين الجنسيْنِ الأدبيَّيْنِ؛ لغياب العنصر الموسيقيِّ الماثل في الوزن والقافية والَّذي يمنح القصيدة التَّـقليديَّة شكلها المعتاد، ممَّا يدفع شعراء قصيدة النَّثر إلى استغلال فضاءات الكتابة، فوجدنا بعضهم يُطَعِّمُ نصَّه بالأشكال والرُّسومات والأيقونات والرُّموز، مثل: الشَّاعر رفعت سلَّام وغيره، أو أن يستثمر الشَّاعر موهبته كفنَّانٍ تشكيليٍّ في تصميم أغلفة دواوينه وصوره التَّوضيحيَّة، مثل: الشَّاعرة مَيْسُون صقر القاسميِّ وغيرها، وربَّما نجد لذلك جذورًا في أعمالٍ رائدةٍ، مثل: ديوان “المواكب” لجبران خليل جبران، والكلمات وَخَوَارِجُ النَّصِّ لاشكَّ يشملها التَّـأويل النَّـقديُّ؛ لأنَّ الجهة ليستْ مُنْـفَـكَّةً فصاحب اللَّفظ هو ذاته صاحب الرَّسم.

     أمَّا الجانب الموسيقيُّ في قصيدة النَّثر، فلا يعني عدم اعتدادها بالوزن والقافية -كما هي الحال في عَروض الخليل- أنَّها تفتقر إلى الموسيقى بوجهٍ عامٍّ؛ فمن جهةٍ نلمس فيها الموسيقى الدَّاخليَّة الَّتي لمسناها من قَـبْلُ في القصيدة التُّراثـيَّة، ونصَّتْ عليها البلاغة العربيَّة، مثل: حسن التَّـقسيم، واستيفاء الأقسام، والتَّـفصيل بعد الإجمال، والإرصاد والتَّسهيم، وردُّ الأعجاز على الصُّدور، والتَّسبيغ، والتَّوازي… وغيرها، ومن جهةٍ أخرى فقد رأى بعض النُّـقَّاد أنَّ لقصيدة النَّثر موسيقاها الخاصَّة، وما زالتِ الدِّراسات النَّـقديَّة قاصرةً في الكشف عن ذلك.

     وفي رأيي أنَّ أسخف ما تطالعه عين القارئ العربيِّ من تراثه الأدبيِّ هو “سَجْعُ الْكُهَّانِ”، الَّذي أسرف في التَّـزيُّن والتَّصنُّع حتَّى أصبح مُضْحِكًا حال قراءته، وكأنَّه يُروى على لسان دَجَّالٍ يُحَضِّرُ أرواحًا وَيُعِدُّ أعمالًا، كما أنَّ أجوف شعرٍ لا يغادر شكله إلى مضمونٍ ذي بالٍ هو الكثير من الشِّعر المملوكيِّ والعثمانيِّ، حتَّى غدا الشِّعر أحد الألعاب اللُّغويَّة، حيث يتبارى شعراؤه في التَّـلوين اللَّفظيِّ، كالبهلوان الَّذي يعبث بالألوان، وكالسَّاحر الَّذي يُظْهِرُ الأشياء وَيُخْفِيهَا في آنٍ واحدٍ، ممَّا يُبْهِرُ المشاهِد ابتداءً ثمَّ ما يلبث أن يَمَلَّ من تكرار المشاهدة؛ لأنَّها مَظْهَرٌ بَارِقٌ وَمَخْبَرٌ بَاهِتٌ!

     ولعلَّ هناك علاقةً جدليَّةً بين الشِّعر والتَّرجمة، فتارةً نلقى الشِّعر في لغته الأصليَّة موزونًا، وتفقده التَّرجمة وزنه، فكأنَّه تحوَّل من قصيدةٍ عموديَّةٍ أو تفعيليَّةٍ إلى قصيدة نثرٍ، وتارةً يحرص المترجِم على نقل الشِّعر الموزون في لغته الأصليَّة إلى شعرٍ موزونٍ في اللُّغة الثَّانية، لكنَّه في حقيقة الأمر لا ينظم الشِّعر ذاته حال التَّرجمة، بل ينظم نصًّا موازيًا للنَّصِّ الأوَّل؛ ربَّما كان الغرض الأصيل هو الحفاظ على ما بين النَّصَّيْنِ من آصرة الوزن والقافية، ولعلَّني ألحُّ على أنَّ النَّصَّ الشِّعريَّ المترجَم هو نصٌّ موازٍ؛ لأنَّ المترجِم إمَّا أن يكون شاعرًا فيضع بصمته الأسلوبيَّة الَّتي تغاير بصمة الشَّاعر المنشِئ، أو ألَّا يكون شاعرًا وإنَّما لديه معرفةٌ بالعَروض والقافية ويحسن النَّظم من خلالها، ومنها تجربة توفيق عليّ منصور حيث ترجم كتاب “مختاراتٌ شعريَّةٌ مترجَمةٌ من الإنجليزيَّة- شعرًا بشعرٍ”، ويحوي في جزأيْه قصائد لـ: وليام شكسبير وجون دن ووليام بليك وبروس نيلان وإليوت… وغيرهم.

     كذلك نجد بعض النُّـقَّاد يَدْلِفُ إلى تحليل قصيدة النَّثر بالآليَّات ذاتها الَّتي يحلِّل بها القصيدة العموديَّة أو القصيدة التَّـفعيليَّة، رغم أنَّه قد اختلفتِ الذَّائقة والأداة معًا باختلاف الزَّمن بمعطياته وتجلِّياته، وإن كان من الجائز أن تتلاقى القصيدتان من النَّاحية الجماليَّة بوصفهما شعرًا، وليس تحت أيدينا من الدِّراسات التَّـنظيريَّة ما هو كَافٍ؛ ليساعد على خلق نظريِّةٍ نقديِّةٍ أو بلورة وجهة نظرٍ متكاملةٍ لتحليل كلٍّ على حِدَةٍ.

     فقصيدة النَّثر العربيَّة لا تتأبَّى على التَّـأطير والتَّـنظير، ولكن تفتقر بعض دراساتها إليه، فيوضِّح صلاح فضل بعض أبعادها الجماليَّة، قائلًا: “إنَّ قصيدة النَّثر الَّتي تستحقُّ أن يُطلق عليها هذا المصطلح، لابدَّ أن تتوافر لها الشُّروط الجماليَّة التَّـالية؛ أوَّلًا: ينبغي أن تكون وحدةً عضويَّةً مستقلَّةً، بحيث تقدِّم عَالَمًا مكتمِلًا، يتمثَّـل في تنسيقٍ جماليٍّ متميِّزٍ، يختلف عن الأشكال النَّثريَّة الأخرى.. ثانيًا: يتعيَّن أن تكون وظيفتها الأساسيَّة شعريَّةً، بمعنى أنَّها تعتمد على فكرة اللَّازمنيَّة، بحيث لا تتطوَّر نحو هدفٍ معيَّنٍ، ولا تعرض سلسلة أفعالٍ أو أفكارٍ منتظِمةً، مهما استخدمتْ من وسائلَ سرديَّةٍ ووصفيَّةٍ.. ثالثًا: أن تتميَّز بالتَّـكثيف والتَّركيز، وتتلافى الاستطرادات والتَّـفصيلات التَّـفسيريَّة”([vii]).

     وقصيدة النَّثر لا تخلو من المجاز، كما يزعم الكثيرون خلوَّها، ولكنَّها تحوي مجاز العصر الَّذي تحياه، والَّذي يأبى تمثيله الرَّجعيُّون، كما أنَّ قصيدة النَّثر تُعَدُّ تمثيلًا للحياة اليوميَّة بتفصيلاتها المعيشة، خاصَّةً ما كان صاحب النَّصِّ عنصرًا فاعلًا فيها، كذلك فإنَّ قصيدة النَّثر تُـيَمِّمُ وجهها شطر المهمَّشين والمطحونين والَّذين يعيشون في الظِّلِّ، فيما يُعَدُّ تغريدًا لشعرائها خارج السِّرب بالرَّفض الضِّمنيِّ لما هو تقليديٌّ أو رسميٌّ.

     ولكن يبدو أنَّ الأيديولوجيا هي الَّتي تتحكَّم في نشر نوعيَّة الشِّعر العربيِّ، سواءٌ الدَّواوين الكاملة في سلاسلَ تُعْنَى بنشر كتب الإبداع العربيِّ([viii])، أم القصائد المفرَدة في مجلَّاتٍ ثقافيَّةٍ وأدبيَّةٍ([ix])، لكنَّني أرى ألَّا يُستبعد نصٌّ شعريٌّ لتصنيفه ابتداءً، وإنَّما يخضع النَّصُّ للتَّـقييم الجماليِّ بمعايير نقد الشِّعر، بين الشِّعر الموزون وقصيدة النَّثر من جهةٍ، وبين شعر الفصحى والعامِّـيَّة من جهةٍ أخرى… وغيرها. وقد تكون الذَّائقة العربيَّة المعاصرة تـتَّـفق وقصيدة النَّثر، فنحن لا نغفل ما قدَّمتْه مجلَّة “شعرٍ” اللِّبنانيَّة لقصيدة النَّثر العربيَّة، حيث تبنَّـتْها فأحالتْها إلى توجُّهٍ متَّبعٍ، وصارتْ ملفَّاتها وثائق تنمُّ عن الرِّيادة والتَّطوُّر، وعلى أيَّة حالٍ فالمعيار الأصيل في النَّشر يجب أن يكون جماليًّا، حتَّى لا تستبدَّ الأيديولوجيا فتفسد الذَّائقة.

     ويميل شعراء قصيدة النَّثر المحدثون إلى تطارُح الأفكار -وأحيانًا إلى تصارُعها- حتَّى تحدث المفارَقة الشِّعريَّة، بدلًا من استعراض الزُّخرف اللَّفظيِّ والمعنويِّ حتَّى يُمثَّـل البديع في النَّصِّ الشِّعريِّ، فهولاء الشُّعراء يميلون إلى إعمال العقل ممَّا يجعل قصائدهم فكريَّةً ذات طابعٍ كتابيٍّ، وليستْ قصائدَ غنائيَّةً ذات طابعٍ شفاهيٍّ؛ لذا فهي قصائدُ لا تتطلَّب شاعرًا يُلْقِي لجمهورٍ، وإنَّما تتطلَّب قارئًا متأمِّلًا لنصوصٍ، وإن غلبتِ المباشَرة على الكثير من القصائد حتَّى حَاكَتِ القصيدةُ المقالةَ، وإلَّا فالجانب الشَّكليُّ الَّذي طغى عليه الزُّخرف والتَّحسين والصَّنعة والزِّينة قد ورد في فنونٍ نثريَّةٍ تراثـيَّةٍ، مثل: المقامات والرَّسائل والخطب، ورقائق المتصوِّفة وتأمُّلات الفلاسفة… وغيرها، أكثر ممَّا ورد في قصيدة النَّثر المعاصرة.

     إذن فيمكننا القول بأنَّ قصيدة النَّثر غرضها التَّـفكير وليس التَّـطريب، فبعض شعرائها مثَّـلتْ قصائدُهُ ثقافتَهُ ممَّا ناسب تحليلها في ضوء مناهجَ بعينها كالنَّـقد الثَّـقافيِّ، وإن أسرف الكثيرون من شعرائها في استعراض قراءاتهم في تَضَاعِيفِ قصائدهم، حتَّى مسَّها الإبهام والغموض فافتقرتْ إلى وضع الشَّاعر هوامش وحواشٍ ممَّا شَوَّشَ على الخطاب الشِّعريِّ بين الشَّاعر والمتلقِّي.

     ولقد أخلص عددٌ من الشُّعراء والنُّـقَّاد في مشروعهم حول قصيدة النَّثر، منهم الشَّاعر والنَّاقد شريف رزق (1965- 2017م)، ممَّا حدا بمجلَّة “الشِّعر” أن تُعِدَّ ملفًّا عنه، كما كرَّمه المؤتمر العامُّ لأدباء مصر عن النُّـقَّاد([x])، ولاشكَّ أنَّه اعترافٌ بقصيدة النَّثر وتقديرٌ لها، إذ ينقسم مُنْجَزُهُ فيها إلى مجاليْنِ (بعضه أُعيد طبعه)؛ نصوصه الشِّعريَّة: “عُزْلَةُ الْأَنْقَاضِ” سنة 1994م، و”لا تطفئ الْعَتْمَةَ” سنة 1996م، و”مَجَرَّةُ النِّهايات” سنة 1999م، و”الجثَّة الأولى” سنة 2001م، و”حَيَوَاتٌ مفقودةٌ” سنة 2003م، و”أنتَ أيُّها السَّهو، أنتَ يا مَهَبَّ العائلة الأخيرة” سنة 2014م، و”هواء العائلة” سنة 2014م، وهو ديوانٌ مُـنْـفَـتِـحٌ على سيرته الذَّاتيَّة. ودراساته النَّـقديَّة: “شعر النَّثر العربيُّ في القرن العشرين” سنة 2010م، و”قصيدة النَّثر في مشهد الشِّعر العربيِّ” سنة 2010م، و”آفاق الشِّعريَّة العربيَّة الجديدة في قصيدة النَّثر” سنة 2011م، و”قصيدة النَّثر المصريَّة: شعريَّات المشهد الجديد” سنة 2012م، و”الأشكال النَّثرشعريَّة في الأدب العربيِّ” سنة 2014م.

     وبالبحث عمَّا يمكن انْضِوَاؤُهُ تحت قصيدة النَّثر ككتاب “فقه الحبِّ”([xi])، فقد غلب التُّراث الصُّوفيُّ على مؤلِّفه يوسف زيدان؛ تأليفًا وشرحًا وتحقيقًا وفهرسةً، فأصبحتْ أدبيَّات التَّصوُّف في مُتَخَيَّلِهِ، ولمَّا تَمَثَّـلَهُ جيدًا كتب عن تجلِّياته في هذا الكتاب، الَّذي خرج في ألفاظٍ دالَّةٍ، وجملٍ موجزةٍ، وعباراتٍ مكثَّـفةٍ، كما خرج كلُّ نصٍّ على حِدَةٍ كقصيدة نثرٍ مِلْؤُهَا شاعريَّة هذا الفنِّ، والسُّؤال الَّذي يُطرح في هذا المقام: هل كتب يوسف زيدان كتابه هذا كتأمُّلاتٍ صوفيَّةٍ فحسب، ولم يَدْرِ أنَّه يكتب قصيدة نثرٍ؟ أم أنَّه يكتب قصيدة نثرٍ بوعي شاعرها دون أن ينصَّ على ذلك؟

     وفي رأيي أنَّ “فقه الحبِّ” أَدْخَلُ في قصيدة النَّثر، وِفْـقًا لمعايير كتابتها؛ فالكتاب عَالَمٌ شعريٌّ مكتمِلٌ، يتميَّز بوحدةٍ عضويَّةٍ مستقلَّةٍ، وتنسيقٍ جماليٍّ متفرِّدٍ، ووظيفته الأولى شعريَّةٌّ فالقيم الجماليَّة لنصوصه يمكن أن تضفي ظلالها على أكثر من موضوعٍ دون التَّــقــيُّـد بالأحداث والأشخاص، وإن كان في بعض حناياه يَفْتَـرُّ عن تجربته الصُّوفيَّة الخاصَّة، من قَبِيلِ “مَنْ ذَاقَ عَرَفَ، وَمَنْ عَرَفَ اغْتَرَفَ”، وهذا أيضًا لا يخالف معايير قصيدة النَّثر؛ لأنَّها تبحث في الحياتيِّ واليوميِّ والمألوف لدى كاتبها، ورغم الحسِّ الرِّوائيِّ لزيدان فلم يَطْغَ الاستطراد السَّرديُّ على نصوصه لتتمتَّع بتكثيفها الشِّعريِّ.

     ووجدنا بعض الشُّعراء يقتحمون النَّصَّ القرآنيَّ بإنشاء بعض المعارضات له([xii])؛ بحجَّة أنَّه نصٌّ نثريٌّ، وتناسوا أنَّه نصٌّ إلهيٌّ، ممَّا يُحْدِثُ جلبةً حول هذه المعارضات، ويظنُّ الشَّاعر أنَّ ذلك يُعَدُّ حِرَاكًا فـنِّـيًّا وفكريًّا حول نصِّه الشِّعريِّ، ومعظم مَنْ يقومون بذلك من أدعياء الـفنِّ وأنصاف المواهب والتَّــوَّاقين إلى الشُّهرة، والشَّاعر الحقيقيُّ يعتمد في إبداع شعره على موهبته، وما أصقلها من أدواتٍ ومعارفَ وخبراتٍ، وإن تماسَّ مع التُّراث فعن طريق التَّماسِّ المشروع؛ بالاقتباس والتَّـناصِّ والاستدعاء والاستلهام والتَّوظيف. وقديمًا وجدنا مَنْ يدَّعون النُّبوَّة كـ”مسيلمةَ” و”سجاحٍ” وغيرهما يعارضون آيات القرآن، ممَّا دفع المؤمنين به إلى تكفيرهم لاختراقهم هالة القداسة حوله، ودفع المهاجمين له إلى تشجيعهم للنَّسج على منوالهم إمعانًا في السُّخرية منه، وكان الدَّافع من جرَّاء هذه الجلبة أن تُــلْـفَـتَ الأنظار إلى مَنْ يدَّعون النُّبوَّة، ويطوي التَّاريخ صفحات المـدَّعين ومعارضاتهم، ويظلُّ النَّصُّ القرآنيُّ غَضًّا لا يَخْلَقُ على معاودة التَّرديد؛ لجمال جَرْسِهِ، ودقَّة لفظه، وحسن نَظْمِهِ، وعمق دلالته، وإبهار بلاغته، وكلُّها لإلهيَّة مصدره.

     وفي العصر الحديث فإنَّ أصحاب معارضات القرآن قد جنحتْ بهم فرس الشُّهرة الَّتي لم تجد لها لِجَامًا من الموهبة، ولكي يلفتوا الأنظار إلى نصوصهم الشِّعريَّة، فإنَّهم يلجأون إلى حيلٍ تخرج عن فنِّ الشِّعر، منها: معارضة نصِّ القرآن، ودسُّ مغالطاتٍ تاريخيَّةٍ، وإقحام ألفاظٍ جنسيَّةٍ، أو ألفاظٍ فَجَّةٍ هي أَدْخَلُ في باب القذف واللَّعن والسَّبِّ والشَّتم، وهذا كلُّه أَمْعَنُ في وَضَاعَةِ اللَّفظ، وَفَجَاجَةِ المعنى، ويثور الخلاف بين فريقٍ مؤيِّدٍ للحرِّيَّة إلى ما لا نهاية، يصل إلى انتهاك هالة القداسة حول النَّصِّ القرآنيِّ دون تَـوَرُّعٍ، وفريقٍ آخَرَ متحفِّظٍ إلى ما لا نهاية، يصل إلى وصف ذلك بالكفر الْبَوَاحِ، وسرعان ما تنطفئ جذوة الخلاف؛ لأنَّها قضيَّةٌ مفتعلَةٌ، والمحصِّلة أنَّ الفنَّ لم يَجْنِ شيئًا ذا بالٍ!

     والحاجة لازالتْ ماسَّةً إلى البحث عن التَّـأصيل الموضوعيِّ والجماليِّ لقصيدة النَّثر، من خلال تشجيع الإبداع الحقيقيِّ القائم على فكرة الابتكار والأصالة وليس التَّـقليد والمحاكاة، فقديمًا وجدنا شعر البهاء زُهَيْرٍ معبِّرًا عن الرُّوح المصريَّة، حتَّى غدا شعره وثيقةً للتَّعبيرات المصريَّة الدَّائرة على لسان المصريِّين أو العبارات الْمَسْكُوكَةِ لديهم، فإعادة اكتشاف الموروث الشَّعبيِّ المصريِّ باستلهامه وتوظيفه في قصيدة النَّثر المعاصرة لدى المفكِّر والمثــقَّـف، وبمستوييْها الفصيح والعامِّيِّ، ممَّا يعزِّز الرَّوافد الحضاريَّة المصريَّة من فرعونيَّةٍ وقبطيَّةٍ وإسلاميَّةٍ…، ولا حَجْرَ على رَأْيٍ أو مُصَادَرَةَ لإبداعٍ، مادمنا نحافظ على أركان الْهُوِيَّةِ، وإن تَدَثَّـرَ الشَّاعر بِعَبَاءَةِ التَّمرُّد والثَّورة، وفتح لنصِّه باب التَّـأويل على مصراعيْه، معتدِلًا كان تأويله أم مُفْرِطًا، مقبولًا كان تأويله أم مَرْذُولًا، فثقافة قبول الآخَرِ تتبـنَّى سَعَةً تجعل من الاختلاف أصلًا، قد يحيل الطَّرف المرجوح راجحًا، باعتباري (الزَّمان) و(المكان)، أو الطَّاقات الكامنة في اللُّغة الَّتي تحوِّلها من لغةٍ عاديَّةٍ غرضها التَّواصُل، إلى لغةٍ فـنِّـيَّةٍ تبحث في مُنْعَطَفَاتِ الجمال البلاغيِّ.

     وعلى حدِّ قول الخليل بن أحمد الفراهيديِّ (ت 170هـ/ 786م): “الشُّعراء أمراء الكلام، يَصْرِفُونَهُ أنَّى شاءوا، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللَّفظ وتعقيده، ومـدِّ المقصور وقصر الممدود، والجمع بين لغاته، والتَّـفريق بين صفاته، واستخراج ما كَـلَّـتِ الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقـرِّبون البعيد، ويبعدون القريب، ويُحتجُّ بهم ولا يُحتجُّ عليهم، ويصوِّرون الباطل في صورة الحقِّ، والحقَّ في صورة الباطل”([xiii]).

     ولم يكن بناء الشُّعراء على صدقٍ وإنَّما على تخييلٍ، والخليل لم يُوقِفِ الشَّاعريَّة على الوزن والقافية، وهو مكتشِف عَروض الشِّعر العربيِّ، في لمحةٍ دالَّةٍ قد تجعل قصيدة النَّثر أَدْخَلَ في جنس الشِّعر، ولمَّا لم يكن بناء الشُّعراء على صدقٍ –إذ ليسوا مؤرِّخين- وإنَّما على تخييلٍ، ففي رأيي أنَّ الخيال هو وقود الإبداع الشِّعريِّ الْمُتَجَاوِرِ لكلِّ الأجناس الأدبيَّة، وسواءٌ كان الشِّعر عموديًّا أم تفعيليًّا أم نثريًّا، فالإبداع الحقيقيُّ النَّاهض على التَّميُّز والابتكار وَالْـفَـرَادَةِ، هو ما نسعى جاهدين أن يَمَسَّ أقلامنا المبدِعة والنَّاقدة جميعًا.

     ويعلِّق حازم القرطاجنيُّ (ت 684هـ/ 1386م) على مقولة الخليل، قائلًا: “فلأجل ما أشار إليه الخليل -رحمه الله- من بُـعْـدِ غايات الشُّعراء وامتداد آمادهم في معرفة الكلام، واتِّساع مجالهم في جميع ذلك، يُحتاج أن يُحتال في تخريج كلامهم على وجوهٍ من الصِّحَّة، فإنَّه قـلَّ ما يخفى عليهم ما يظهر لغيرهم، فليسوا يقولون شيئًا إلَّا وله وجهٌ، فلذلك يجب تَـأَوُّلُ كلامهم على الصِّحَّة، والتَّـوقُّـف عن تخطئتهم فيما ليس يَلُوحُ له وجهٌ”([xiv]).

     ورغم وضوح كلمة الخليل فإنَّـني أرى أنَّها هي الَّتي أَلْهَمَتْ سيبويهِ (ت 180هـ/ 796م)؛ لينهج سبيل الكشف عن الأسلوب المائز للشِّعر، قائلًا: اعلم أنَّه يجوز في الشِّعر ما لا يجوز في الكلام”([xv])، حين أنشأ بابًا في كتابه سمَّاه “باب ما يحتمل الشِّعر”، وفيه وضع القانون العامَّ الَّذي ألمح من خلاله إلى التَّـفرقة الجماليَّة بين الشِّعر والنَّثر.

     ويضع محمَّد القاسميُّ كتابًا عن قضايا النَّـقد الأدبيِّ المعاصر([xvi])، ويعقد فصلًا عن القراءة والتَّـأويل، ثمَّ يتفـرَّع منه عنوانٌ عن الضَّرورة الشِّعريَّة عند الخليل بن أحمد الفراهيديِّ، ويوضِّح القاسميُّ أَنَّ الضَّرورة الشِّعريَّة شكَّلتْ مدخلًا أساسيًّا للتَّمييز بين اللُّغة الشِّعريَّة واللُّغة النَّـثريَّة، حيث حاول النُّحاة منذ البداية الكشف عن أشكال الاختلاف بين الجملة في الشِّعر والجملة في النَّـثر، ممَّا يحيل إلى التوقُّف على خصائص اللُّغة الشِّعريَّة، كما رأى القاسميُّ أنَّ الخليل وضع قانونًا نقديًّا منذ القرن الثَّـاني الهجريِّ في اللُّغة الشِّعريَّة عامَّةً والضَّرورة الشِّعريَّة خاصَّةً.

     ولقد ألَّف سامي عوض في تبيين مفهوم الضَّرورة عند الخليل([xvii])، فقد أدرك الخليل خصوصيَّة اللُّغة الشِّعريَّة، وتميُّزها عن لغة النَّـثر؛ لأنَّ بناء الكلام في النَّـثر يخضع للقواعد، سواءٌ في ترتيب الكلمات أم في تركيب الجمل واستعمالهما، فبيَّـن الخليل الرَّكائز الَّتي اعتمدها في تحديد معنى الضَّرورة، إذ جعل ما يجوز في الشِّعر والضَّرورة من مستويات التَّـقعيد الشِّعريِّ، وفي رأيي أنَّ الخليل أسَّس لما يمكن أن يمثِّـل منطلَـقًا جماليًّا لقراءة النَّصِّ الشِّعريِّ، بما حمله النَّصُّ في ثناياه من انحرافٍ عن المعيار أو كسرًا للنَّسق؛ لتحصيل قيمةٍ جماليَّةٍ. والسُّؤال الَّذي يتبادر إلى الذِّهن: هل يمكن قبول قصيدة النَّثر المعاصرة بوصفها شعرًا، والنَّظر إلى ما طرأ عليها فأفضى بها إلى الغموض أو الإبهام من قبيل الضَّرورات الشِّعريَّة؟!

     ودفعتْ عبقريَّة الشَّاعر والنَّاقد والمفـكِّر عبَّاس محمود العقَّاد (ت 1383هـ/ 1964م) إلى تلخيص قضيَّة الشِّعر، في بيتٍ شعريٍّ واحدٍ، فحين تَـأَمُّلِي نسيجه وجدتُهُ يُـلْمِحُ في شطره الأوَّل إلى الموهبة، قائلًا: “الشِّعْرُ مِنْ نَـفَسِ الرَّحْمَنِ مُـقْـتَـبَسٌ”([xviii])، وَيُـلْمِحُ في شطره الثَّاني إلى التَّـمـيُّز، قائلًا: “وَالشَّاعِرُ الْـفَـذُّ بَيْنَ النَّاسِ رَحْمَانُ”، فـ(الشَّاعر) المتفـرِّد صاحب البصمة الأسلوبيَّة بين جمهور الشُّعراء، كـ(الرَّحمان) بين سواد العباد، إذ هي صفةٌ لا تُطلق إلَّا عليه ومكانةٌ لا يرتقيها غيره، ممَّا دفعني إلى كتابة الأولى بالحركة القصيرة (رَحْمَنُ) وِفْـقًا للرَّسم القرآنيِّ؛ لأنَّها وردتْ صفةً لله –تعالى- وكتابة الثَّانية بالحركة الطَّويلة (رَحْمَانُ) وِفْـقًا لِلْعُرْفِ الإملائيِّ؛ لأنَّها وردتْ صفةً للبشر من قَبِيلِ المشابهة.

     أيضًا فقد عاصرنا مشروعًا أدبيًّا ونقديًّا جادًّا هو “مؤتمر قصيدة النَّثر المصريَّة”([xix])، الَّذي قام على فكرته وإعداده وانعقاده كَوْكَبَةٌ من شعراء قصيدة النَّثر الفصحى المصريَّة، الَّذين يمارس معظمهم النَّـقد ممَّا يعني تَـوَاشُجَ الحسِّ الشِّعريِّ مع الرُّؤية النَّـقديَّة، لعدَّة دوراتٍ في عدَّة محافظاتٍ للبعد عن المركزيَّة، واتَّخذ المؤتمر شعارًا دائمًا هو “في الإبداع مُتَّسَعٌ للجميع”، كما أصدر كتبه الَّتي تُعَدُّ مختاراتٍ شعريَّةً، تحمل شعارًا هو “ينابيعُ تصنع نهرًا”، وأصدر أوَّل كتابٍ للأبحاث في دورته الأخيرة، يحمل شعارًا هو “شجرٌ ينبت على ضفَّتي النَّهر”، والمؤتمر بدعمٍ ذاتيٍّ لذا يُوصف بأنَّه كيانٌ خارج المؤسَّسة الرَّسميَّة.

     وبعد عرض تلك الآراء المنفرِدة، وما عساه أن ينضمَّ بعضه إلى بعضٍ؛ ليشكِّل رؤًى متماسَّةً لقربها واتِّـفاقها، أو متوازيةً لبعدها وافتراقها، ومازال الْحِرَاكُ النَّـقديُّ حول قصيدة النَّثر محلَّ أخذٍ وردٍّ، فربَّما وصلنا إلى رؤًى متقاطعةٍ لتكاملها، حتَّى تشكِّل العربيَّة نظريَّتها الخاصَّة، ولعلَّنا مازلنا إزاء قصيدة النَّثر العربيَّة في المرحلة الكمِّـيَّة الَّتي تعتمد الجانب التَّـاريخيَّ الاستقصائيَّ، الَّذي من خلاله يكون البحث عن بَوَاكِيرِ قصيدة النَّثر العربيَّة لدى روَّادها، ثـمَّ التَّمييز بين جيد الشِّعر ورديئه ممَّا تحت أيدينا من شعرٍ حديثٍ ومعاصرٍ، وتجنيب الَّذين كتبوا قصيدة النَّثر استسهالًا أو هروبًا من قيودٍ فـنِّـيَّةٍ؛ كعدم إتقانهم الوزن والقافية وعدم قدرتهم على توظيف المجاز وصدِّهم عن معايير البلاغة والنَّـقد بدلًا من إعادة اكتشافها، ومثل هؤلاء مدَّعوون يجب ألَّا يلتفت إليهم النُّــقَّاد، ونحن في طريقنا إلى المرحلة الكيفـيَّة الَّتي تعتمد الجانب الوصفيَّ التَّحليليَّ، الَّذي من خلاله يكون البحث عن جماليَّات قصيدة النَّثر العربيَّة وخصائصها لدى أعلامها؛ للوصول إلى نظريِّةٍ نقديِّةٍ عربيَّةٍ لقصيدة نثرٍ عربيَّةٍ، وإلَّا ظلَّ إبداعنا صدًى للتَّرجمة، وظلَّ نقدنا محض انطباعٍ.

(2)

فلسفة الحياة وما ينقضها (في ديوان: لعناتٌ هادئةٌ):

     هي تجربةٌ تمتاز بقدرٍ كبيرٍ من النُّضج الفنِّيِّ في كتابة قصيدة النَّثر الفصحى الحداثـيَّة، ففي ديوان “لعناتٌ هادئةٌ”([xx])، أوضحَتِ الشَّاعرة هبة مصطفى([xxi])، أنَّها كتبَتْ قصائده خلال الفترة من 1993م إلى 1999م، أي: أنَّها رصدَتْ فيه تجربتها الشِّعريَّة وهي مازالَتْ طالبةً في الجامعة، والدِّيوان يتكوَّن من قصيدةٍ طويلةٍ تنقسم إلى (خمسةٍ وأربعين مقطعًا) وتشكِّل ثلثي الدِّيوان، وفيها أسقطَتِ العناوين وأثبتَتِ التَّرقيم، يتلوها قصائدُ قصيرةٌ تبلغ (إحدى وعشرين قصيدةً) وتشكِّل ثلث الدِّيوان.

     تسرد الشَّاعرة آلام الحياة وعذاباتها فيها، من خلال عددٍ من الحقول الدِّلاليَّة المتنوِّعة، كالآلام والذِّكرى والموت، فتـتَّخذ من لفظة (الدَّم) موضعًا ذا ثقلٍ تكراريٍّ، وتخرج الزَّفرات تعبيرًا عن موجة الغضب الَّتي تحسُّها، وتذكر الملائكة كرمزٍ للطُّهر، وتجعل من الأمِّ منبرًا تبثُّ منه شكواها، وكثيرًا ما تتحدَّث عن المسافات والفراغات الَّتي تجعلها توَّاقةً إلى المعرفة، حتَّى تصلها بالحنين إلى الماضي من جهةٍ وبمجاهيل الموت من جهةٍ مغايرةٍ، وفي رحلتها لأجل فلسفة الحياة الَّتي تحياها والموت الَّذي ينقضها، نجدها تتناصُّ مع تراثها الدِّينيِّ وتوظِّف الطُّقوس والأساطير، وتفيد من التَّجربة الصُّوفيَّة الموروثة، كالرَّبط بين بحثها عن المجهول والإشراق الصُّوفيِّ، كما تنحو ناحية ابتكار الصُّور الشِّعريَّة الَّتي غالبًا ما يكتنفها الغموض.

     وتعمد الشَّاعرة إلى سرد مفردات البيئة المعيشة على مدار الدِّيوان، لكنَّها تنطلق من الحياتيِّ واليوميِّ إلى المجازيِّ والغامض لتفتح به باب التَّـأويل، فتقول: “عَطَنُ البيوتِ/ رائحةُ الزَّنجبيلِ/ حينَ صَرَعَنِيَ الموجُ/ الْـقُـبْـلَاتُ مذبوحةٌ فوقَ نافذتِي/ والبلادُ مصلوبةٌ أعضاؤُهَا/ فِي كَمَائِنِي الصَّغيرةِ”([xxii])، وتقول: “كانَ عليْنَا أنْ نبرزَ بطاقةَ الْهُوِيَّةِ لِلنَّادِلِ/ لجميعِ السُّوقَةِ فوقَ طوابيرِ الأسفلتِ/ كانَ عليْنَا أنْ نبرزَهَا/ حينَ فَاجَأَنَا الدِّفْءُ/ لحظةَ أنْ ذُبْـنَا/ ارتحالُكَ فِي الرُّوحِ صعبٌ/ والنَّسيمُ الَّذي هزَّ السَّنابلَ/ ينشجُ”، وتقول: “النَّهرُ ينسابُ فوقَ أسطحِ البيوتِ/ ينفلتُ مِنْ عَصَا التَّاريخِ فِي الحقولِ/ والبلادُ الَّتِي تعشقُ القهرَ/ ذَاهِلٌ أمامَ بلاهةِ العيدانِ/ والطِّينِ المشروخِ/ النَّهرُ جَوَّالٌ/ وآفةُ عشقِهِ محفورةٌ/ فِي وجوهِ الفلَّاحينَ/ المساءُ المشبَّعُ بالألمِ/ وموتٌ بلَا ثمنٍ/ الجدرانُ الَّتِي عاندَتِ الغزاةَ مؤرَّقةٌ/ والنَّحيبُ الْمُقَطَّرُ مِنْ ألمٍ/ يغنِّي”.

وتحرص الشَّاعرة على استعمال ألفاظٍ فصيحةٍ مازالَتْ تُستعمل في اللَّهجة العامِّـيَّة، ممَّا يعمل على تداول النَّصِّ الشِّعريِّ لدى قاعدةٍ أكبرَ للمتلقِّي العربيِّ، فتقول: “كُنْتِ تشبِّينَ لأعلى الشِّبَّاكِ/ تبصِّينَ علَى الطُّرقاتِ/ متشبِّثةً بالضَّلفةِ/ ومحاولةِ خلخلةِ القدميْنِ الحافيتيْنِ/ كُنْتِ تبصِّينَ/ وكانَ العالَمُ يتهاوَى/ مِنْ تحتِكِ/ ونداؤُكِ يترنَّحُ/ قبلَ الطَّيرانِ”، وتقول: “ترتعدُ الوحشةُ/ ونساءُ الصَّحراءِ يُجَرْجِرْنَ الشَّجْوَ/ كَضَفَائِـرَ مِنْ تعبٍ”، وتقول: “كطفلٍ سيعاودُ الدَّقَّ علَى نافذتِي/ أَرُشُّهُ بالغناءِ/ فيعاودُ الدَّقَّ”.

     فمن تجلِّيات آلام الحياة وعذاباتها، تقول الشَّاعرة: “أنَا الَّتِي تهزُّنِي البذاءاتُ/ والكوابيسُ الدَّمويَّةُ”، وتقول: “العتمةُ تَـئِنُّ/ وَالصَّخَبُ الرَّاكضُ فِي صدرِي/ يفزعُنِي/ تلكَ مناطقُ مشتعِلةٌ/ تذكاراتُ الْهَوَسِ/ جنونُ اللَّحظاتِ/ لنْ يتأخَّرَ القتلُ/ أيُّهَا السَّيِّدُ افتحِ الْجُرْحَ/ لا تَـتَـقَـيَّأْ بداخلِهِ أغنياتِكَ”، وتوضِّح كأنَّ الألم يحرِّك مصائر الأشخاص والأشياء، فتقول: “كُنْتُ أعيدُ الدِّفْءَ لأطرافِيَ الباردةِ/ بلَا ذاكرةٍ ولَا أسفٍ ولَا بَاعَةَ يَانَصِيبٍ/ الألمُ خارطةٌ لأشياءَ شتَّى/ والأوجاعُ حامضةٌ/ تفاصيلُ صغيرةٌ لامرأةٍ مثلِي/ تمعنُ فِي الغيابِ”.

     ومن عذابات الحياة تـتَّخذ الشَّاعرة من لفظة (الدَّم) ومشتـقَّاتها وتقاليبها موضعًا ذا ثقلٍ تكراريٍّ، فتقول: “الموتُ يطعنُ أسئلتِي/ فِي فراغِ البناياتِ/ تـتـفتَّتُ خلايَايَ/ وبقعةٌ كبيرةٌ مِنَ الدَّمِ/ تشبهُـنِي”، وتقول: “البياضُ فِي الأفقِ/ عصفورٌ مرتعِشٌ/ دَمُ العشقِ مسفوحٌ/ علَى جدرانِ البناياتِ/ الَّتِي تسكنُهَا الوحشةُ/ وقتَ يقصينَا بعيدًا/ أوطانٌ مذعورةٌ/ وملامحُ مسجاةٌ/ فوقَ جسدِ الأرضِ”، وتحاول الشَّاعرةُ الجمعَ بين المختلِفات حتَّى تُحْدِثَ تناقُضًا ظاهريًّا، فتقول: “ترويعٌ آمِنٌ جميلٌ/ وَاجِدُونَ يقذفُونَ شراراتِهِمْ فِي دمِي”([xxiii])، فـ(مَانْـيَا) تعني الجنون أو الْمَسَّ، ولغلبة هذه الحالة فقد جمعَتْ بين التَّرويع والأمن، وبين حال الْوَجْدِ الَّذي يفيد هَدْأَةَ النَّفس وقذف الشَّرَرِ.

     وكثيرًا ما تضيف الشَّاعرة لفظة (الدَّم) بصيغة المفرد إلى ضمير (ياء المتكلِّم)، فتقول: “قبلَ أنْ يَلُوكَنِيَ الوقتُ/ رغيفًا طَازَجًا/ متمرِّغًا فوقَ أنسجتِي/ عابثًا بدمِي/ ضامرًا مثلَ قُـبْـلَةِ الخطيئةِ”، وتقول: “أنتَ الصَّفِيُّ/ تقدَّسَ السِّرُّ المسافرُ فِي دمِي/ يَا واحدِي شَكَّلْتَـنِي/ لغةً ومواجعَ/ سَمَّيْـتَـنِي نسرينةً/ كانَ دِفْءُ المساءِ مختلِطًا بدمِي/ والجحيمُ الَّذِي أشعلْتَهُ مَدًى/ فاصطفيْتُـكَ لِي”، وتقول: “إنَّهُمْ يقتاتونَ دمِي/ بلَا نزيفٍ فادحٍ/ أموتُ”، وتقول: “شمسٌ ترثِي أسماءَهَا/ ورعاةٌ هابطونَ فِي دمِي/ ربَّمَا أَخْمِشُ أرديتِي/ أمارسُ النَّزفَ الاعتياديَّ/ أمنحُ أعضائِي فُسْحَةً مِنْ رثاءٍ”، كما توضِّح أنَّها تستمدُّ العشق من دمها، فتقول: “أُضَفِّرُ العشقَ جَدَائِلَ مِنْ دمِي/ حينَ يفيضُ النَّهرُ عميقًا/ دافقًا… الوقتُ جاثمٌ علَى رِئَتِي/ البلادُ تخطَّفَتْ أعضائِي/ والطُّيورُ هاجرَتْ دمِي/ مُخَلِّفَةً مَفَازَاتِ ارتحالِكَ”([xxiv]).

     ولأنَّ الآلام شتَّى فقد أضافَتِ الشَّاعرة لفظة (الدِّماء) بصيغة الجمع إلى ضمير (ياء المتكلِّم)، فتقول: “كانَ الشَّارعُ عاريًا مِنْ وجودِكَ/ الغيمُ طاردَ كلَّ العصافيرِ/ فاختبأْتَ فِي دِمَائِي/ إنَّهُ حارٌّ جدًّا”، كما تقول: “أغنِّي لأوقاتٍ ثَمِلَةً/ مازالَتْ تعبثُ فِي دمائِي/ أيُّهَا الدِّفْءُ لَا تبتعدْ”([xxv]).

     ممَّا يستدعي إخراج الزَّفرات تعبيرًا عن موجة الغضب الَّتي تحسُّها الشَّاعرة صوب آلام الحياة، فتقول: “هذَا زمنٌ مذهولٌ/ طرقاتٌ أودعُهَا لحظاتِي/ وأوزِّعُ أنفاسِي لعناتٍ هادئةً”، وتقول: “عاريةٌ أَلْعَقُ الوجعَ الضَّارِي/ أُمَاطِلُ النَّزْفَ المستبدَّ/ ثُـمَّ أبحثُ عنْ خيمةِ أكسجينَ/ أدخلُهَا/ وأتركُهُمْ خارجَ شهيقِي”، وتقول: “كانَتِ البنتُ تصعدُ دَرَجًا ذَاهِلًا/ وفضاءً مزدحمًا بالفضوليِّينَ/ تَدُسُّهُمْ فِي صدرِهَا المتعَبِ/ وكانَ الولدُ يَخُطُّ التَّذكاراتِ علَى حيطانِ الشَّارعِ/ مشتبِكًا بالفراشِ المشاكِسِ حولَهُ”، وتقول: “ونساءٌ كُنَّ يُدْلِينَ الآهةَ فِي صدرِي/ تحترقُ طيورُ الطُّفولةِ/ فِي الباحةِ شهقاتُ أنثَى/ وأنَا ميراثُ خساراتٍ/ هلْ مِنْ وهداتِ العشقِ يكونُ التَّسبيحُ؟”، وغير خافٍ على المتلقِّي عَنْوَنَةُ الشَّاعرة ديوانها بـ”لعناتٍ هادئةٍ”، من خلال المقطع الأوَّل لهذا الاقتباس الَّذي انتظمَتْهُ فكرة الْبَوْحِ.

     والذَّات الشَّاعرة عندما يجثم الحزن على صدرها، فإنَّها لا تبحث عن الخلاص إلَّا لها، ممَّا يدفعها إلى أن تستكثر من استعمال ضمير المتكلِّم (أَنَـا)، في مظهرٍ لا يخلو من الأنانيَّة (أو الْأَنَوِيَّةِ) والتَّمحور حول الذَّات، فتقول: “وجهٌ مِنَ النَّعْـنَاعِ لِي/ وحدِي/ أنَا الَّتِي أَحْبُكُ الوجعَ/ فيرسمُ للقلبِ/ خَطَّ النَّجاةِ الوحيدَ”، كما تصف نفسها بالوحدة، وتذكر (الْـبُومَ) بما نُسج حوله من أساطيرَ حُمِّلَتْ بدلالة التَّـشاؤُم، فتقول: “لَا زهرَ فِي الحديقةِ/ وَلَا ثمارَ/ وحدَهُ الْـبُومُ/ احتلَّ الواجهاتِ الخضراءَ/ الطُّيورُ الَّتِي تحلِّقُ مبتعِدةً/ لَا يمكنُـنَا سَحْقَ أمنياتِهَا/ الغربةُ أيضًا ممكِنةٌ/ وأنَا وحيدةٌ”([xxvi]).

     بينما نجدها في موضعٍ آخَرَ تنفض عنها رداء الذَّاتيَّة، وتفتح السَّبيل للآخَرِ ليشاركها التَّجربة، فتقول: “والبحرُ ومَا رَفْرَفَ فِي الصَّدرِ/ علَى شاكلةِ الموجِ/ ضلوعُكَ تسترُ عُرْيِي/ ودماؤُكَ تملأُ كلَّ فضاءاتِ الرُّوحِ/ فَاسْتَـلْقِ علَى كَتِفِي/ وَبُحْ لوريدِي/ نعشقُ تجوالَ الرِّيحِ/ يمامَ الطُّرقاتِ/ ونسَّاقطُ عشقًا/ كلُّ فضاءاتِ الرُّوحِ تؤوبُ لعينيْكَ/ فأسَّاقطُ/ وحدِي”.

     ولعلَّها اتَّخَذَتْ من (العصافير) معادلًا موضوعيًّا للذَّات الشَّاعرة المعذَّبة، فتقول: “فزعٌ ومدائنُ غربةٍ فِي دمِي/ وحدِي أعرفُ كَمَّ سكونِي بينَ يديكَ/ فلَا تجرحِ الآنَ/ أفئدةَ العصافيرِ”، كما تستشعر الغموض بين حَنَايَا الرُّوح ومجاهيل البحر، وتنسج من اغتراب العصافير عالَمها المادِّيَّ والعلويَّ، فتقول: “وجوهٌ تَـشِي بعمقِ المسافةِ/ مَا بينَ رُوحِي والبحرِ/ نَـتُوهُ علَى عتباتِ الجنونِ/ بوجوهٍ ممسوخةٍ/ ناسجينَ مِنَ اغترابِ العصافيرِ/ مُدُنًا وسماواتٍ”([xxvii]). كذلك أنزلَتِ الشَّاعرةُ الأطفالَ منزلة العصافير، فتقول: “العصافيرُ الَّتِي نبتَتْ فِي حِجْرِ أمِّي/ لَمْ تغادرْنِي”([xxviii])، وشبَّهَتِ البنات الباحثات عن أمَّهاتهنَّ بالعصافير، فتقول: “البناتُ الصغيراتُ يَلُذْنَ بِي/ يُـفَـتِّـشْنَ عنْ أمَّهاتهنَّ بينَ أعضائِي/ وانقباضاتِ فمِي/ يندفعْنَ كالعصافيرِ ثمَّ يَسْكُنَّ”([xxix]).

     كما اتَّخذَتِ الشَّاعرة من (الفراشات) معادلًا موضوعيًّا للذَّات أيضًا، فتقول:”لماذَا تموتُ الفراشاتُ وحيدةً؟/ ولماذَا لَا يموتُ المحبُّونَ كلُّهُمْ؟”، فقد استكثرَتِ العذاب الَّذي أضنى الذَّات حتَّى قضى عليها، فتمنَّت أن لو قضى على كلِّ المحبِّين.

     ولأنَّ الملائكة رمزٌ للطُّهر والنَّـقاء والشَّفافية، فإنَّ الشَّاعرة تعبِّر عن معاناة الملائكة في تلك الحياة القاسية، ولعلَّها اتَّخذَتْ من الملائكة معادلًا موضوعيًّا للذَّات الشَّاعرة الَّتي أَضْنَاهَا الدَّهر بتصاريفه، فتقول: “وجهُ القبحِ عارٍ كالفضيحةِ/ إنَّهُمْ يذبحونَ الملائكةَ”، وتقول: “افتقادُكِ حنانَ أمِّكِ/ لا يعنِي/ أنَّكِ الملائكيَّةُ الوحيدةُ/ الَّتِي ليسَ لهَا غيرُ مخلبٍ صغيرٍ/ وعينيْنِ جميلتيْنِ”.

     وتجعل الشَّاعرة من الأمِّ منبرًا تبثُّ منه شكواها، فتقول: “اغفرِي لِي يَا أمِّي/ سيغرقُنِي مَرَّةً أخرَى دِفْءُ عينيْهِ/ كأنَّهُ بالرُّغمِ مِنِّي/ أموتُ”، وتقول: “ليسَ الفتَى حجرًا/ وليسَتِ الْأَيَائِلُ منذورةً للوجعِ/ ولَا أمِّي تصنعُ العجينَ/ أمِّي الَّتِي لَا أشبهُهَا/ وتمنحُنِي ملامحَهَا عبرَ قَـبْوٍ ممتلئٍ بالعفاريتِ”، وتقول: “الموجُ طَازَجٌ/ رغمَ احتمالِ التَّمَزُّقِ/ فهلْ يعرفُهَا مثلَ أمِّهِ؟/ ربَّمَا يسكنُ المساءُ جثَّةً/ أوْ ضريحًا”، كما تناجي الشَّاعرةُ أمَّها الَّتي ربَّما غيَّبها الموت، فتقول: “آهِ يَا أمِّي/ مازلْتِ تَرْقُـبِـيـنَـنِي/ رغمَ بُعْدِ المسافةِ/ واستحالةِ المجاوزةِ”([xxx]).

     وتتوقَّف الشَّاعرة عند قضية الموت توقُّـفًا مِلْؤُهُ التَّـأَنِّي، فتقول في تعريفه: “إنَّه الموتُ متَّسعٌ جدًّا/ فاجمعُوا بينَكُمْ جُثَّـتِي/ واقتلُونِي”، وترى أنَّ الخوف من الموت يُعَدُّ ذنبًا؛ ربَّما لأنَّه خوفٌ يجافي الحقيقة الكبرى في الحياة، وهو ما ينقضها أي: الموت، فتقول: “قدْ تموتُ أحلامُكَ المشتهاةُ/ تعودُ طفلًا/ تَمْقُتُ قسوةَ أمِّكَ/ تَـتْـفُـلُ حزنَكَ/ تتركُ غرفتَكَ الضَّيِّـقَةَ/ وتبكِي/ ربَّمَا الآنَ/ قدْ يغفرُ الرَّبُّ/ خوفَكَ القديمَ مِنَ الموتِ”، وترى الشَّاعرة أنَّ الخوف يأكل أحلام الصِّغار، وهو بمنزلة الموت الَّذي يواجهونه بالدَّهشة، فتقول: “الصِّغارُ يغرقُونَ فِي بحارِ الدَّهشةِ/ يُلْـقُونَ أحلامَهُمْ عندَ أكبرِ البحيراتِ/ كَيْ يأكلَهَا الخوفُ/ وتزكمَ أنوفَهُمْ روائحُ الموتِ”([xxxi]). بينما ترى أنَّ الموت هو المجهول الَّذي بتحقُّـقه تُملأ فراغات النَّصِّ، فتقول: “لَا تنحتِي فِي ضلوعِ الحكاياتِ/ ذلكَ الموتَ/ الَّذِي يصبغُ نوافذَ البيوتِ/ ويملأُ المساحةَ البيضاءَ/ فِي دفاترِ البناتِ”([xxxii])، وَتَخْلُصُ في النِّهاية إلى حقيقةٍ مؤدَّاها أنَّ رَكْبَ الحياة يمضي غير عَابِئٍ بِمَنْ يسقط في الطَّريق، فتقول: “ماذَا سيحدثُ للحياةِ لوْ تركْتُهَا؟ لنْ يحدثَ شيءٌ/ ستمضِي!”([xxxiii]).

     ولعلَّ الشَّاعرة تستلهم التُّراث الدِّينيَّ على اختلاف الرِّسالات السَّماويَّة؛ لِمَا أحسَّتْ فيه من طوق النَّجاة للإنسانيَّة المعذَّبة، فقد حاولَتِ استلهام معجم الألفاظ الدِّينيَّة وتوظيفه توظيفًا مغايرًا حتَّى يصطبغ بِالطَّابَعِ الإنسانيِّ، فهي ترى أنَّ الرَّبَّ واهب كلِّ جميلٍ، فتقول: “الرَّبُّ غادرَ المملكةَ/ مخلِّفًا وراءَهُ فاقدِي الإيمانِ/ والتَّـنَعُّمِ الجميلِ/ إنَّه الرَّبُّ الَّذِي تشتاقُهُ الرِّيحُ/ ويشرقُ اللَّيلُ مِنْ سلطانِ عينيْهِ دهورًا/ وصباحاتٌ نبيلةٌ/ موفورةُ التَّبتُّـلِ”، وفي مناجاة الإله تقول: “ناحيةٌ معتَّـقةٌ بالأحاديثِ/ مدينةٌ ملآنةٌ بالأغانِي/ يَا إلهَ السَّماواتِ/ كَمْ أحببْتُ عينيْهِ”.

     وتبحث الشَّاعرة عن الطُّمأنينة، فتقول: “كيفَ إذَا يمنحُنِي الكاهنُ هَدْأَةَ رُوحِي؟”، وتنشد الخلاص، فتقول: “أرضٌ كجثَّةٍ/ وبلادٌ لَا يملكُهَا غيرُ الرَّبِّ/ أتفتَّتُ وأسيلُ/ ولمَّا يمنحْنِي الكاهنُ/ صَكَّ الغفرانِ”، وتسعى إلى التَّـقرُّب، فتقول: “ألعقُ المساءَ/ شاهقًا كالحنينِ/ ومتَّسعًا كالمسافة بيننَا/ أضيئُ شمعةً للعذراءِ/ فِي انتظارِ مباركةٍ لَا تجيئُ/ ميديَا تحبُو علَى ركبتيْهَا/ فِي انتظارِ عفوِ الآلهةِ الذُّكورِ/ الخوفُ يرقصُ علَى الأرصفةِ/ فأركلُ كلَّ البوَّاباتِ”، وتقدِّم القرابين، فتقول: “ليتَ بناتِ الحيِّ/ يؤرِّخنَ تفاصيلِي/ المماليكُ مشاغبُونَ/ وبناتُ العامَّةِ فِي الأسواقِ يُؤَطِّرنَ الرَّغبةَ بِأَقَانِيمِ الخبزِ”، وتتلو التَّرانيم، فتقول: “أنمُو علَى عتباتِ البيوتِ وداخلَهَا/ كنباتٍ وحيدٍ/ الأرضُ حارقةٌ كاشتعالِي/ والملائكُ فِي الصَّدرِ تغنِّي/ تتلو ترانيمَهَا للبعيدِ/ نسوةٌ بائداتٌ يرتِّـلنَ أوجاعَهُنَّ”.

     وكثيرًا ما تتحدَّث الشَّاعرة عن المسافات والفراغات والشَّوارع والطُّرقات والميادين، الَّتي تجعلها توَّاقةً إلى المعرفة، فتربط مسافات المعرفة بأقصى مجهولٍ ننظره وهو السَّماء، وأقصى مجهولٍ ننتظره وهو الموت، فتقول: “لَمْ أستطعْ أنْ أصيرَ رمادًا/ صِرْتُ محشوَّةً بالوجعِ/ عينايَ راحلتانِ/ ولَا وطنَ يملكُ يشترينِي/ فباعِدْ بينَ عينيْكَ وبينِي/ واشترِ الفراغَ فِي السَّماءِ/ السَّماءُ يقطنُهَا الْمُـتْعَـبُونَ/ شوارعُهَا واسعةٌ وفسيحةٌ/ السَّماءُ مَطْوِيَّةٌ ومحجوبةٌ عنْ عيونِ الْعَسَسِ”، وتقول: “شوارعُ دهشاتٍ/ يرتادُهَا الْعَسَسُ/ فيهربُ النَّسيمُ/ شوارعُ تؤسِّسُ الخرابَ لغةً/ وتبتنِي مِنْ أضلعِي أوجاعًا وأرصفةً/ فينثرُ المساءُ ظِلَّهُ علَى دَمِي/ أَرَى فِي الأفقِ/ نيرانًا تَـتَـثَاءَبُ”، وتقول: “الميدانُ الفارغُ يحتسِي غربتَكَ/ لَا يَعِي عواءَ الأماكنِ/ شظاياكَ الَّتِي تتناثرُ تشبهُ قوقعةً/ أوْ جسدًا رِخْوًا”([xxxiv]). ولأنَّ المعرفة لا حدود لها فقد جعلَتِ الشَّاعرةُ الطُّرقاتِ لا نهاية لها، واتَّخذَتْ من عدم محدوديَّة الهدف عدم محدوديَّة الوسيلة، فتقول: “أرتجفُ مِنْ شَتَاتِيَ المرتعِدِ/ بينَ يَدَيْ سلطانِهِ الْغَضِّ/ وَحُلْمِهِ المجنونِ/ الطُّرقاتُ مفتوحةٌ نهاياتُهَا”([xxxv])، وأخيرًا نجدها تجمع بين الغيبيَّات؛ بدءًا بالسَّماوات مرورًا بالفراغ ختمًا بالموت، فتقول: “أمامَ نفسِ السَّماواتِ/ سوفَ نخطئُ مَرَّةً أخرَى/ نبكِي أشباحًا غابرينَ/ نصارعُ آهاتِـنَا فِي الفراغِ/ نقلبُ أوقاتَـنَا إلَى حرائقَ/ ثمَّ نصطنعُ السَّعادةَ/ كأنَّمَا لنْ نموتَ أبدًا”([xxxvi]).

     وفي رحلة البحث عن الحقيقة تُلَازِمُ الشَّاعرة التَّـذَرُّعَ بالسُّؤال، لاسيَّما المجازيَّ، أو الاستنكاريَّ تحديدًا؛ لِمَا تحسُّه من مشاهداتٍ تدفع بها إلى الدَّهشة؛ لذلك فكثيرًا ما تسأل عن السَّببيَّة أو الْعِلِّـيَّةِ باستخدام الأداة (لماذَا)، وتُوجد لديها مقاطعُ شعريَّةٌ بناؤها على الاستفهام الاستنكاريِّ، فتقول في غير موضعٍ: “لماذَا لَا أصرخُ مِنْ أنوفِ البعضِ؟ لماذَا لَا أتقيَّأُ الملائكةَ؟ لماذَا لَا نغنِّي لحسراتِنَا؟ لماذَا لَا تعوزُنَا البراءاتُ؟ لماذَا لَا يؤوبُ الموتَى للمضاجعِ والدِّفءِ؟ لماذَا لَمْ أَعُدْ أحملُكَ داخلَ جلدِي؟”.

     وكثيرًا ما تسأل عن المكان أو الجهة، تقول: “فَمِنْ أيِّ كهوفِ الجحيمِ تقطرُ الذَّاكرةُ مشاهدَ وتفاصيلَ؟ مِنْ أيِّ الأساطيرِ يطلعُ الوهمُ؟ مِنْ أيِّ الأماكنِ تراوغُ الآنَ شهيقِي؟”([xxxvii]).

     وتحاول الشَّاعرة نُشْدَانَ ضالتها في الماضي الَّذي فارقها بحكم المنطق، ولم تفارقه هي بحكم النُّوستالجيا (أو الحنين إلى الماضي)، فتبحث في صندوق الملابس القديمة، علَّها تقع على احتباس ظِلِّهَا في صورة طفولتها، أو تنبش في ذاكرة الأساطير السَّحيقة، علَّها تجد ذاتها في إحدى الحكايات، بدلًا من الاغتراب الَّذي يكسو حياتها سكونًا، فتقول: “ملامحُ مشتعلةٌ أهربُ مِنْهَا كفأرٍ عجوزٍ/ فتفجؤُنِي شفرتُهَا السِّرِّيَّةُ/ فِي خَزَانَةِ الملابسِ القديمةِ/ رِيحٌ تُـفَـتِّتُ بكارةَ العشبِ الطَّرِيِّ/ أوقاتٌ مكلَّلةٌ بالغربةِ/ وتصاويرُ غامضةٌ/ موتٌ كقصَّةِ التِّمساحِ ذِي العينِ الواحدةِ/ وهدوءٌ يغلِّفُ الألمَ السَّاكنَ/ فِي القاعِ”، وبعينيْنِ مشوقتيْنِ تنظر بهما إلى الماضي، فتقول: “عيناكِ بسمتانِ/ أُطِلُّ مِنْهُمَا علَى حريقِي/ فأطالعُ سِرْبًا طويلًا مِنَ الذِّكرياتِ/ امرأةٌ صغيرةٌ تدلفُ داخلَ الْبِرْوَازِ/ تفتِّـشُ داخلَهُ عنْ حنينٍ غامضٍ/ ومساءاتٍ دافئةٍ كالصَّلصالِ/ نفسُ المرأةِ/ الَّتِي خَلَّفَتْ وراءَهَا/ مجموعةً مِنَ المشاعرِ المدمَّرَةِ/ وراءَ الإطارِ”([xxxviii]).

     وتفيد الشَّاعرة من التَّجربة الصُّوفيَّة الموروثة، كالرَّبط بين بحثها عن المجهول والإشراق الصُّوفيِّ، وتعبِّر عمَّا بينها وبين الحقيقة بالمسافة الممتدَّة، فتذكر حال العشق والصَّبابة وَالْوَجْدِ والسُّكْرِ، وتعبِّر عن حضور القلب وأنَّها تستشعر الوحشة والرِّعْدَةَ في رحلتها، وتذكر هيئة الإمام أو القطب وخلفه المأمومون أو المريدون، وتتماسُّ مع أحد أعلامهم وهو النِّـفَّرِيُّ([xxxix])، وتصل في نهاية التَّجربة المعرفيَّة إلى الْفَيْضِ والنُّور الَّذي يمثِّـل الكشف أو الإشراق، فتقول: “المسافةُ تمتدُّ/ فيرتعدُ الصَّخَبُ/ حولِي تَـئِنُّ الأماكنُ/ أرتعدُ الآنَ/ أُولِي القلبَ قُـبْلَتَهُ/ ينامُ/ لَا توقظُهُ الحكاياتُ/ يسكنُ/ والهواءُ يداعبُ ضلفةَ الشِّبَّاكِ/ تنداحُ الأغانِي/ تستولدُ الرِّيحُ حزنِي/ فأستوحشُ بالقربِ كلَّ الخلائقِ/ هَلِ اللهُ أورثَـنَا العشقَ يَا نِفَّرِيُّ؟/ نَرْفُو بِهِ القلبَ/ أَوْقَـفَـنَا والإمامُ فِي الصَّلاةِ/ أهالَ علَى الكلِّ جمرَ التَّمَزُّقِ/ فينبعثُ الصَّدْرُ مِنْ دخانِهِ/ أغيبُ وللحبِّ سكراتُهُ/ فاستقيمُوا/ ينفتحُ البابُ لِلصَّبِّ/ ينهلُّ جمرُ الصَّبابةِ/ يفيضُ/ يستزيدُ/ يعتصمُ الآنَ بالنُّورِ/ يشرقُ”، وتقول مفتتِحةً بالسُّؤال ومختتِمةً به: “كيفَ أَلْتَمِسُكَ؟/ الوجودُ متَّسعٌ جدًّا/ والعناوينُ غائبةٌ/ وجهِي لَا تألفُهُ الشَّوارعُ/ أوْ بوَّاباتُ اللُّـقْـيَا/ وحشةٌ ساريةٌ/ كلَّمَا فاضَتْ باحَتْ/ لهَا وجعُ الوقتِ/ ودفءُ أعضاءٍ تغيِّبُهَا نشوةُ الْوَجْدِ/ لماذا طاردْتَـنِي بالغيابِ؟”.

     وتستلهم الشَّاعرة حالًا من أخصِّ أحوال الصُّوفيَّة، ومن تجلِّيات شطحاتهم، هي (الحلول والاتِّحاد) -بعيدًا عن الاختلاف بين رأي مؤيِّدٍ ومعارضٍ وأنَّ الذَّات الإلهيَّة تتنزَّه عن ذلك- فالمحبُّ يحلُّ في جسد حبيبه ويتَّحد به، فيصيرا واحدًا بعدما كانا اثنيْنِ قبل هذه الحال، فتقول: “نفسُ النَّارِ الَّتِي مَحَتْ حروفَكَ/ مِنْ كتابِ الغيبِ/ حلولُكَ مؤلمٌ/ سريانُكَ فِي دمِي/ مُتَّـقِدٌ وعميقٌ/ وأنَا ساريةٌ/ علَى خطِّ انتحارِي”، وتقول: “ليتَ لِي وجهَ عاشقةٍ/ فأحيلُ المسافةَ جحيمًا حقيقيًّا/ أزرعُهُ بالبيوتِ القديمةِ والعشقِ/ أمنحُهَا سندسَ الرُّوحِ/ حلولَكَ فِي القلبِ/ فتورقُ الرِّيحُ وجعًا وعذاباتٍ”.

     ولعلَّ الشَّاعرة نجحَتْ في استخلاص فلسفة تجربتها تجاه الحياة وما ينغِّصها وما ينقضها، في عباراتٍ تـتَّسم بشدَّة الإيجاز، أشبه ببيت الشِّعر أو شطره الَّذي يسير بين النَّاس مسير الْمَثَـلِ، منها في مواضعَ متفرِّقةٍ: “الموتُ يطعنُ أسئلتِي”، و”السَّماءُ يقطنُهَا الْمُتْعَبُونَ”، و”تستولدُ الرِّيحُ حزنِي”، و”السُّكونُ يقتلُ العواصفَ”، و”ارتحالُكَ فِي الرُّوحِ صعبٌ”، و”قدْ تموتُ أحلامُكَ المشتهاةُ”، و”دمُ العشقِ مسفوحٌ”، و”الوقتُ هَوْدَجٌ مستباحٌ”، و”علَى مَدَدِ الرُّوحِ فراشٌ يتألَّقُ”، و”يصنعُ مِنْ عينيْهِ نَدَاوَةً تؤرِّقُنِي”، و”تبعثرُ خوفَ ملامحِهَا”، و”الفقدُ أسطورةُ الشَّوقِ”، و”ضلوعُكَ تسترُ عُرْيِي”، و”الحواديتُ لَا تنتمِي للمقدَّسِ”، و”للحزنِ طقسُهُ الموسميُّ”، و”الغيابُ مُمَدَّدٌ فِي الفراغِ”، و”الأحياءُ مواسمُ للموتِ”.

     وهي عباراتٌ اسْتَـلَـلْـتُهَا من صورها الفنِّـيَّة؛ لتمثِّـل عباراتٍ مسكوكةً تكشف عن بصمتها الأسلوبيَّة، ومثل هذه العبارات يحار المتلقِّي أمامها، إذ تبدو في الظَّاهر تقريريَّةً مباشرةً، بينما تضرب بسهمٍ وافرٍ في عمق التَّخييل، ممَّا يوظِّفها في مجازاتٍ متعدِّدةٍ تفتح آفاق التَّـأويل، فتقول: “الرُّوحُ خاويةٌ والعتمةُ تهدمُ الحوائطَ”([xl])، ويمكن تأويلها بأنَّ الرُّوح إذا ما خَوَتْ من نور المعرفة فستكون الحوائط (أي: الأجساد) عرضةً للهدم، وتقول: “الحنينُ ينمُو علَى بقايَا التَّـذَكُّرِ”([xli])، وكأنَّ الذِّكرى هي الأرض الخصيبة الَّتي عليها ينمو نباتٌ هو الحنين، وتقول: “ربَّمَا يطفئُ القمرُ جَذْوَتَهُ هذَا المساءَ”([xlii])، فالقمر من علامات الاستهداء، وَجَذْوَتُهُ هي المعرفة الَّتي تتشوَّف النَّـفس إليها، وتشرق تجلِّياتها في القلب، ولكن في لحظة الكرب أو التَّـأمُّل الَّتي عبَّرَتْ عنها بالمساء قد يَضِنّ القمر بالإلهام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1])) أدلى الباحث الفولكلوريُّ مسعود شومان بهذا الرَّأي مشافهةً، في أثناء عرضه بحثه: “تنوُّع الأشكال الشِّعريَّة الشَّعبيَّة وتشكيل النَّماذج الإنسانيَّة”، في الجلسة البحثيَّة الثَّالثة، صباح اليوم الثَّاني، للمؤتمر السَّابع عشر لإقليم القاهرة الكبرى وشمال الصَّعيد الثَّـقافيِّ: “أثر الأدب على الْهُوِيَّةِ المصريَّة بين الحضور والتَّغييب”، المنعقد في دار المركبات 9- 11/ 4/ 2017م، وحضرتُ الجلسة بحكم عضويَّتي في أمانة المؤتمر ورئاستي لجنة الأبحاث.

)2) كتاب “قصيدة النَّثر من بودلير إلى أيَّامنا”، لسوزان برنار، ترجمتْه راوية صادق، وراجعه وقدَّم له رفعت سلَّام، وطبعتْه دار شرقيَّات، في القاهرة، سنة 1419هـ/ 1998م، كما ترجمه زهير مجيد مغامس، وراجعه عليّ جواد الطَّاهر، وطبعتْه الهيئة العامَّة لقصور الثَّـقافة، سلسلة “آفاق التَّرجمة”، في القاهرة، سنة 1420هـ/ 1999م.

ولأهميَّة شارل بودلير فقد قام على ترجمة أعماله الشِّعريَّة الكاملة والتَّـقديم لها رفعت سلَّام، وطبعتْه الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، سنة 1437هـ/ 2016م، وانظر: المقدِّمة، ص 8، 13، 18، 23.

ولعلَّ كتاب “ثورة الشِّعر الحديث”، للـدُّكتور عبد الغفَّار مكَّاويّ، من أهمِّ المراجع العربيَّة عن الحداثة الشِّعريَّة في أوروبَّا، ممَّا دفع إلى توالي طبعاته؛ فطبعتْه الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، سنة 1972م، ثم دار أبولُّو، سنة 1998م، وأخيرًا الهيئة العامَّة لقصور الثَّـقافة على هامش أحد مؤتمراتها.

أمَّا كتاب “قصيدة النَّثر: دراسةٌ تفكيكيَّةٌ بنيويَّةٌ”، فتأليف الـدُّكتور سلمان كاصد، وطبعتْه مؤسَّسة أَرْوِقَةٍ، في القاهرة، سنة 1437هـ/ 2016م.

)3) أمين الرَّيحانيُّ (1876- 1940م): من أشهر أدباء المهجر، تحلَّى بالرُّوح الثَّوريَّة، فوضع كتابه: “نُبْذَةٌ عن الثَّورة الفرنسيَّة”، وهو من أشهر الدَّاعين إلى تحرير الشِّعر العربيِّ من أَسْرِ الأوزان والقوافي، ووضع ديوانه: “هتاف الأودية” من الشِّعر المنثور، سنة 1910م.

)4) مصطفى صادق الرَّافعيُّ (1880- 1937م)، أعماله الفكريَّة: “تاريخ آداب اللُّغة العربيَّة” سنة 1911م، و”إعجاز القرآن والبلاغة النَّبويَّة” سنة 1912م، و”تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد” لمناقشة كتاب طه حسين “في الشِّعر الجاهليِّ” والرَّدِّ عليه، و”وحي القلم” مقالاته، وأعماله الشِّعريَّة: “ديوان الرافعيِّ” (في ثلاثة أجزاءٍ)، وديوان “النَّظرات”، و”العبرات”، أمَّا أعماله الإبداعيَّة في النَّثر الشِّعريِّ فـ: “أوراق الورد: رسائلها ورسائله” سنة 1923م، و”رسائل الأحزان” سنة 1924م، و”السَّحاب الأحمر” سنة 1924م، والثَّلاثة في فلسفة الحبِّ والجمال وتعبيرًا عن حبِّه للأديبة ميِّ زيادة، و”المساكين”، و”حديث القمر”، و”كلمةٌ وَكُلَيْمَةٌ”.

وقد صدرتْ أعمال الرافعيِّ عدَّة طبعاتٍ ككتبٍ متفرِّقةٍ، وطبعتْها على هيئة الأعمال الكاملة دار التَّـقوى ودار العلم والمعرفة، في القاهرة، كأحدث طبعاتها: “إعجاز القرآن”، سنة 1435هـ/ 2014م، و”تحت راية القرآن”، سنة 1436هـ/ 2015م… إلخ.

)5) جبران خليل جبران (1883- 1931م) زعيم شعراء المهجر، أعماله بالعربيَّة: “الموسيقى” سنة 1905م، و”عرائس المروج” سنة 1906م، و”الأرواح المتمرِّدة” سنة 1908م، والثَّلاثة مقالاتٌ وقصصٌ، و”الأجنحة المتكسِّرة” قصصٌ سنة 1912م، و”المواكب” ديوانٌ بالشِّعر والرَّسم سنة 1913 أو 1919م، و”دمعةٌ وابتسامةٌ” مقالاتٌ سنة 1914م، و”العواصف” سنة 1920م، و”البدائع والطَّرائف” مقالاتٌ سنة 1921 أو 1923م. أمَّا أعماله بالإنجليزيَّة فدواوين: “المجنون” سنة 1912 أو 1918م، و”السَّابق” سنة 1920م، و”النَّبيُّ” سنة 1923م، و”رَمْلٌ وَزَبَدٌ” سنة 1926م، و”يسوع ابن الإنسان” سنة 1928م، و”آلهة الأرض” سنة 1931م، وكلُّها صدرتْ في حياة جبران وبتعريب أنطونيوس بشير، أمَّا “التَّائه” سنة 1932م، و”حديقة النَّبيِّ” سنة 1933م، فصدرا بعد رحيل جبران وبتعريب عبد اللَّطيف شرارة.

وبعدما أصدرتْ دار الجيل في لبنان أعمال جبران، فقد صدرتْ له طبعتان حديثتان؛ الأولى: الأعمال الشِّعريَّة الْمُعَرَّبَةُ (مجلدٌ واحدٌ)، حقَّـقها ودرسها سمير إبراهيم بسيونيّ، وطبعتْها مكتبتا الإيمان وجزيرة الورد، في القاهرة، سنة 1410هـ/ 2009م، والثَّانية: الأعمال الكاملة (ثلاثةَ عشرَ جزءًا)، راجعها وضبطها إبراهيم محمَّد صقر، وطبعتْها دار العلم والمعرفة، في القاهرة، سنة 1432هـ/ 2011م.

وانظر: “شعريَّة الكتابة النَّثريَّة عند جبران خليل جبران”: رسالة دكتوراه للباحثة فاطمة قنديل، كلِّـيَّة الآداب، جامعة حلوان، سنة 1406هـ/ 2005م.

)6) أدلى الشَّاعر محمَّد آدم بهذا الرَّأي في مداخلته المطوَّلة على الجلسة البحثيَّة الأولى الَّتي أدرتُها، في مؤتمرِ قصيدة النَّثر بقصر ثقافة بني سويف 8- 9/ 12/ 2016م.

)7) أساليب الشِّعريَّة المعاصرة: د. صلاح فضل، سلسلة كتاباتٍ نقديَّةٍ، طبعة الهيئة العامَّة لقصور الثَّـقافة، القاهرة، سنة 1417هـ/ 1996م، ص 439.

)8) من منظور تجربتي كفاحصٍ في بعض سلاسل النَّشر التَّابعة لوزارة الثَّـقافة، وجدتُ أنَّ لقصيدة النَّثر القدح المعلَّى في حظِّ النَّشر، فمثلًا: سلسلة “آفاقٍ عربيَّةٍ” الَّتي تُعْنَى بالنَّشر للمبدعين العرب، وتصدرها الهيئة العامَّة لقصور الثَّـقافة، فخلال أكثر من ثلاث سنواتٍ (2013- 2016م)، نجد معظم الدَّواوين الشِّعريَّة الَّتي صدرتْ تندرج تحت قصيدة النَّثر، وندر ما اندرج تحت قصيدة التَّـفعيلة، وخلتِ الإصدارات من ديوانٍ عموديٍّ، فيما قد يعبِّر عن الذَّائقة العربيَّة تجاه الشِّعر المعاصر.

فمن دواوين شعر التَّـفعيلة للشُّعراء العرب في هذه السِّلسلة: ديوان “لا تجرح الماء” للشَّاعر السُّعوديِّ أحمد قرَّان الزَّهرانيِّ، وديوان “حكايا راحلةٌ” للشَّاعر الفلسطينيِّ عبد الرَّحيم الشَّيخ، بينما كانتْ معظم الإصدارات لدواوين قصيدة النَّثر، مثل: ديوان “ليلٌ يستريح على خشب النَّافذة” للشَّاعر المغربيِّ حسن نجمي، وديوان “رَغْوَةُ القلب الفائضة” للشَّاعرة الإماراتيَّة مَيْسُون صقر القاسميِّ، وديوان “انكسرتُ وحيدًا” للشَّاعر السُّعوديِّ محمَّد حبيبي، وديوان “أحبُّكِ من هنا إلى بغداد” للشَّاعرة العراقيَّة دنيا ميخائيل، وديوان “سرابٌ مختلِفٌ ألوانه” للشَّاعر الكرديِّ خالد عليّ سليفانيّ، وديوان “تعدينَ أذن بقرةٍ” للشَّاعر اليمنيِّ هاني جازم الصِّلويّ، وديوان “لئلَّا ينتبه النِّسيان” للشَّاعر السُّعوديِّ محمَّد خضر… وغيرها.

)9) بالمتابعة والاستقراء فهناك من المجلَّات الثَّقافيَّة والأدبيَّة ما يتوجَّه توجُّهًا شديد التَّـقليديَّة فلا يُصْدِرُ إلَّا الشِّعر العموديَّ ولا يعترف بقصيدة النَّثر، وكأنَّهم يتَّهمون غيرهم بالتَّغريب، مثل: مجلَّة “الأزهر” و”الوعي الإسلاميِّ” و”الأدب الإسلاميِّ” و”التَّصوُّف الإسلاميِّ”، ومعظمها ذو طابعٍ دينيٍّ ويهتمُّ بشعر المناسبات. وهناك من المجلَّات الثَّـقافيَّة والأدبيَّة ما يتوجَّه توجُّهًا شديد الحداثيَّة فلا يُصْدِرُ إلَّا قصيدة النَّثر ولا يعترف بالشِّعر العموديِّ، وكأنَّهم يتَّهمون غيرهم بالرَّجعيَّة، مثل: مجلَّة “الثَّـقافة الجديدة” و”أدبٍ ونقدٍ” و”إبداعٍ” و”الشِّعر”، ولعلَّ معظمها متأثِّـرٌ بالشِّعر المترجَم. وهناك فريقٌ ثالثٌ من المجلَّات الثَّـقافيَّة والأدبيَّة ما ينوِّع في إصداراته جامعًا بين الشِّعر الموزون (العموديِّ منه والتَّـفعيليِّ) وقصيدة النَّثر، مثل: مجلَّة “العربيِّ” و”البحرين الثَّـقافيَّة” و”العربيَّة” و”الهلال”.

)10) أعدَّتْ مجلَّة “الشِّعر” ملفًّا عنوانه: “شريف رزق وحَيَوَاتُهُ المفقودة”، ص93- 133، في العدد (161)، فصل ربيعٍ/ أبريل، سنة 1437هـ/ 2016م. وكرَّمه عن النُّـقَّاد المؤتمر العامُّ لأدباء مصر، في المنيا 21- 24/ 12/ 2016م.

[1])1) كتاب “فقه الحبِّ”، للدُّكتور يوسف زيدان، طبعة الرُّواق، القاهرة- مصر، سنة 1436هـ/ 2015م.

تـنـوَّعتْ مؤلَّفات زيدان وتحقيقاته، وتعلَّق بعضها بالتُّراث الصُّوفيِّ، وظهرتْ تجلِّياته في “فقه الحبِّ”؛ فمؤلَّفاته: “التَّصوُّف”، و”المتواليات: دراساتٌ في التَّصوُّف”، و”شعراء الصُّوفيَّة المجهولون”، و”عبد الكريم الجيليُّ فيلسوف الصُّوفيَّة”، و”الفكر الصُّوفيُّ عند عبد الكريم الجيليِّ”، و”عبد القادر الجيلانيُّ، باز الله الأشهب”، و”الطَّريق الصُّوفيُّ وفروع القادريَّة بمصر”. وتحقيقاته: “المقدِّمة في التَّصوُّف” لأبي عبد الرَّحمن السُّلميِّ، و”فواتح الجمال وفواتح الجلال” لنجم الدِّين كُبْرَى، و”شرح مشكلات الفتوحات المكِّـيَّة” لعبد الكريم الجيليِّ، خاصَّةً ما تعلَّق بالشِّعر الصُّوفيِّ، مثل: “ديوان عبد القادر الجيلانيِّ”، و”ديوان عفيف الدِّين التِّـلمسانيِّ”، و”قصيدة النَّادرات العينيَّة للجيليِّ، مع شرح النَّابلسيِّ”.

)12) انظر: معارضة القرآن: اختلاق أدبٍ أم اختراق قداسةٍ؟!: د/ أحمد تمَّام سليمان، مجلَّة “فكر” الثَّـقافيَّة، الرِّياض- السُّعوديَّة، العدد (23)، يونيو- سبتمبر 2018م.

(13) زهر الآداب وثمر الألباب: أبو الحسن عليُّ بن عبد الغنيِّ الحصريُّ القيروانيُّ (ت 488هـ/ 1095م)، تحقيق/ عليّ محمَّد البجاويِّ، طبعة دار إحياء الكتب العربيَّة، القاهرة- مصر، ط1، 1372هـ/ 1953م، ج2/ ص633.

(14) منهاج البلغاء وسراج الأدباء: أبو الحسن حازم بن محمَّدٍ القرطاجنيُّ (ت 684هـ/ 1386م)، تحقيق/ د. محمَّد الحبيب بن الخوجة، طبعة دار الغرب الإسلاميِّ، بيروت- لبنان، ط2، 1402هـ/ 1981م، ص143- 144.

(16) الكتاب: أبو بِشْرٍ عمرو بن قَـنْـبُـرٍ المعروف بسيبويهِ (ت 180هـ/ 796م)، تحقيق/ عبد السَّلام محمَّد هارون، طبعة الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب (سلسلة تراثنا)، القاهرة– مصر، ط2، 1397هـ/ 1977م، ج1/ ص26.

(17) انظر: قضايا النَّقد الأدبيِّ المعاصر: د. محمَّد القاسميّ، طبعة دار يافا العلميَّة، عَمَّان- الأردن، ط1، 1430هـ/ 2010م، ص160.

)18) انظر: مفهوم الضَّرورة الشِّعريَّة عند أهمِّ علماء العربيَّة حتَّى نهاية القرن الرَّابع الهجريِّ: د/ سامي عوض، بحثٌ في مجلَّة: دراساتٌ في اللُّغة العربيَّة وآدابها، جامعة تشرين (سورية)، وجامعة سمنان (إيران)، السَّنة (2)، العدد (6)، صيف 2011م، ص48.

)19) انظر: ديوان “من دواوين” (مختاراتٌ): الشَّاعر عبَّاس محمود العقَّاد (1383هـ/ 1964م)، طبعة مؤسَّسة هنداوي للتَّعليم والثَّـقافة، القاهرة- مصر، ط1، 1433هـ/ 2013م، ص38، والبيت من قصيدة “الشِّعر”، في ديوان “خواطرُ وتأمُّلاتٌ”.

(20) انعقدتِ الدَّورة الأولى لمؤتمر “قصيدة النَّثر المصريَّة” في القاهرة 21- 23/ 12/ 2014م، وستشكِّل فعَّاليَّاته موسوعةً متكاملةً؛ فقد صدرتْ أعمالها الشِّعريَّة في كتابٍ هو الجزء الأوَّل سنة 1435هـ/ 2014م، فالدَّورة الثَّانية وصدرتْ أعمالها الشِّعريَّة في كتابٍ هو الجزء الثَّاني سنة 1436هـ/ 2015م، ثمَّ الدَّورة الثَّالثة وصدرتْ أعمالها الشِّعريَّة في كتابٍ هو الجزء الثَّالث سنة 1437هـ/ 2016م، وكتابٍ آخَرَ هو كتاب الدِّراسات النَّـقديَّة، وقد تكـفَّـلتْ بطبعهما الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، فيما يُعَدُّ اعترافًا من المؤسَّسة الرَّسميَّة بكيانٍ أدبيٍّ وثقافيٍّ مستقلٍّ، كما كانتِ “المغرب” ضيف الشَّرف وشارك بعض شعرائها في هذه الدَّورة، ثمَّ الدَّورة الرَّابعة سنة 1438هـ/ 2017م، وضيف الشَّرف “تونس”، وأخيرًا الدَّورة الخامسة سنة 1439هـ/ 2018م، وضيف الشَّرف “ليبيا”.

([1]2) ديوان “لعناتٌ هادئةٌ”: للشَّاعرة هبة مصطفى، سلسلة النَّشر الإقليميِّ، الهيئة العامَّة لقصور الثَّـقافة، القاهرة- مصر، الطَّبعة الأولى، 1438هـ/ 2017م.

(22) الشَّاعرة المصريَّة “هبة مصطفى أحمد”: من مواليد محافظة بني سويف، في العام 1974م، خرِّيجة قسم اللُّغة العربيَّة بكلِّـيَّة البنات بجامعة عين شمس 1995م، تعمل في مجال التَّدريس، ديوانها الأوَّل “مَشَاهِدُ مِنْ طَلَـلٍ وافتقادٍ”، طبعة النَّشر الإقليميِّ بالهيئة العامَّة لقصور الثَّـقافة عن بني سويف 2001م، حاصلةٌ على المركز الثَّـاني لشِّعر الفصحى في المسابقة المركزيَّة بالهيئة العامَّة لقصور الثَّـقافة 2017م، وديوانها “لعناتٌ هادئةٌ” ضمن قصيدة النَّثر الفصحى.

(23) قصيدة “لعناتٌ هادئةٌ”: الشَّاعرة هبة مصطفى، ص11. اكتفى الباحث بتوثيق الاقتباس الأوَّل من هذه القصيدة؛ حتَّى لا يثقل على القارئ، والقصيدة تقع في الدِّيوان (من ص5 إلى ص59)، مقسَّمةٌ على (خمسةٍ وأربعين) مقطعًا شعريًّا.

(24) قصيدة “مَانْـيَا غامضةٌ”: ص85.

(25) قصيدة “وأنتَ أبعدُ مِنْ طولِ احتمالِي”: ص79- 80.

(26) قصيدة “كُنْتُ أُخَبِّئُ الأحلامَ”: ص67.

(27) قصيدة “لَا زهرَ فِي الحديقةِ”: ص68.

(28) قصيدة “أَيَّتُهَا الرِّيحُ”: ص63.

(29) قصيدة “أفقٌ بعيدٌ”: ص71.

(30) قصيدة “البناتُ الصغيراتُ”: ص65.

(31) قصيدة “أفقٌ بعيدٌ”: ص71.

(32) قصيدة “الصِّغارُ”: ص64.

(33) قصيدة “أَيَّتُهَا الرِّيحُ”: ص63.

(34) قصيدة “فِي العامِ القادمِ”: ص76.

(35) قصيدة “الصِّغارُ”: ص64.

(36) قصيدة “مِنْ أيِّ الأساطيرِ يطلعُ الوهمُ؟”: ص81.

(37) قصيدة “أمامَ نفسِ السَّماواتِ”: ص84.

(38) قصيدة “مِنْ أيِّ الأساطيرِ يطلعُ الوهمُ؟”: ص82.

(39) قصيدة “بِرْوَازٌ”: ص72.

(40) محمَّد بن عبد الجبَّار بن الحسن النِّـفَّرِيِّ (ت 354هـ/ 965م): أحد أعلام التَّصوُّف الإسلاميِّ، أشعريٌّ من أهل السُّـنَّة، وُلد في العراق، ببلدة نِفَّرٍ وإليها نُسب، وعاش في عصر الدَّولة العبَّاسيَّة، وتُوفِّي في مصر، وكان يؤلِّف كتبه شفهيًّا لمريديه، فهي أشبه بالأمالي، وله أقوالٌ شهيرةٌ أهمُّها: “كُلَّمَا اتَّسَعَتِ الرُّؤْيَةُ ضَاقَتِ الْعِبَارةُ”، ومن أشهر كتبه “المواقف” و”المخاطَبات”، حيث انتظمتهما ثنائيَّاتٌ ضدِّيَّةٌ، مثل: (الله والسِّوَى، الحياة والموت، الجمع والفرق، القرب والبعد، الظَّاهر والباطن، النَّار والماء، النُّور والظَّلام، المعرفة والجهل…)، وبعد مقابلة سبع نسخٍ بتصحيح وعناية أرثر يوحنَّا أربري من جامعة كمبردج، طُبعا للمرَّة الأولى بدار الكتب المصريَّة بالقاهرة، سنة 1352هـ/ 1934م.

(41) قصيدة “اصطيادُ الأمومةِ”: ص66.

(42) قصيدة “رغبةٌ أوْ حُلْمٌ”: ص78.

(43) قصيدة “ربَّمَا تَـنْـبُتُ فِي القلبِ نَـبْـتَةٌ”: ص86.

*****

د. أحمد تمَّام سليمان

كلِّـيَّة الآداب-  جامعة بني سويف-  مصر

قام بالتدريس في كليات: الآداب والتربية وعلوم ذوي الاحتياجات الخاصة والألسن وبرنامج الترجمة، وبرنامج الدراسات الدولية.

شارك في عدد من المؤتمرات في مصر وخارجها مث الجزائر المغرب.

نشر دراسات ومقالات في عدد من المجلات العربية والمصرية.

……………………………..

*تنشر هذه الشهادة بالاتفاق مع مؤتمر قصيدة النثر المصرية ـ الدورة السادسة

مقالات من نفس القسم