إني لأَجدُ رِيحَ الحياة.. لولا أن تفنِدُونِ

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نسمة سمير 

سأنظر فى عينيك الصغيرتين وأخبرك بذلك، فتومىء برأسك لتخبرني إنى فعلتها، وتشد على يدي ثم تحتضنني بعض دقائق قبل أن أتركك وأرحل، تلك النهاية التى أريدها لقصتي، لا أريد نهاية روتينية وبكاء وعويل، "امرأة حاولت إعادة هيكلة العالم.. طحنت قلبها للعصافير ثم خبزت قلبًا جديدًا"

 

 أريدك أن تكتب تلك الكلمات على شاهد قبري عند انتقالي من هذا الكون لكون آخر، فأنت تعلم أني لا أبالي حتى ولو اتهمني الجميع بالجنون والفشل، تتذكر كيف كانت سعادتي عندما ينعتني الناس بأني غريبة الأطوار، حقًا أنا مختلفة كما يقولون، لم يخلقني الله لأكون نسخة من قوالب يسكبنا المجتمع فيها رغمًا عنا، جميع من تركوا بصماتهم على وجه التاريخ كانوا غير طبيعيين، تحملوا الانتقادات لإيمانهم بأنفسهم، أو بمعنى أصح، رفضوا أن يكونوا إمعة، مجرد وعاء ناقل لثرثرة الآخرين، لنقف أنا وأنت فوق ذلك الجبل الذى كنا نهرب إليه ونصرخ: “أيها العقلاء تركنا لكم المنطق وراقصنا الحياة”.

“خذ من الحياة ما تمنحه لك”، أكثر الجمل التى تثير غضبي منذ كنت فى السادسة من عمري، وكانت تجعل وجهي يحمر غضبا، حتى العقد الرابع من عمري مازال وجهي يشبه الفراولة كما تخبرني دائمًا،  لأني أؤمن أن الله قذف بي إلى هذه الأرض حتى آخذ حقي من الحياة عنوة وليس منحة تمن بها علي، جئت لأصنع اختلافا فى هذا العالم البائس، لأضع حجرا فى سور التاريخ وأدون اسمي بحبر جريء فى سجل الوافدين، ثم انتقل لكون آخر، أرى جميع ما يقال لي من – اتهامات بالجنون وعدم الواقعية والنفخ فى قِرَب مثقوبة-، مجرد هرطقة وأضغاث حياة، جميعنا نتأرجح بين القيل والقال يرانا البعض ماجنين والبعض الآخر يرانا متشددين، لمَ يريدنا الناس أن نصبح حجرا يركلوه بأقدامهم؟، هل لا يحق لنا أن نكون سنابل قمح نصنع خبزَا للعابرين؟.

في إحدى المرات  قلت “سأحرر الأندلس”، فخيم الصمت على المكان ثم انفجر الجميع ضحكًا، يتهامسون “ربما ذهب عقلها.. يتملكها الغرور..  تردد كلاما لا تفهم معناه”، وأنا أجلس مكاني أضع طرف قلمي فى فمي وأترنح خفيفا بالكرسي وعلى وجهي ابتسامة باردة تشبه ابتسامة تشرشل فى البرلمان البريطاني، وفجأة خرجت أنت من بينهم تمسح بيدك على لحيتك التى أحبها كثيرا، قائلا: ألم يغير مكيافيللي وجه تاريخ العالم، وماركس نشر الشيوعية، وآدم سميث لعب بالخريطة الاقتصادية، وأصبح ابن خلدون رجل تاريخ لا يكتبه فقط بل يصنعه، وتفاحة نيوتن استحضرت الجاذبية، و تحرر العبيد من كوخ العم توم ، ورأينا أحلامنا أمامنا فى إمبراطورية فرويد،  لمَ تتعجبون أنها سوف تحرر الأندلس يومًا ما؟!.

لم أراك رجلًا يغازل امرأة، رأيتك محاربا خرج لي من بين كتبي وأوراقي، بطلًا يشبه أبطال حكاياتي، ولكن تختلف عنهم قليلًا لأنك أكثر نبًلا منهم وأشرس غضبًا، مازلت أنظر لك تلك النظرة التى تحبها ولكن أتعمد الكذب عليك بأنك لا تدهشني، فى إحدى نوبات يأسي صرخت فى وجهك لماذ يسخر منا العالم؟ صمت لحظات قليلة تجمع كلماتك كما تفعل دائما، ثم وضعت يديك على كتفي قائلا بصوت هاديء يشبه خطاب الزعماء فى أوقات الأزمات “لأننا ندرك أين نقف من التاريخ، ندرك ما نريده، ندرك من نحن، و يريد الفاسدون جعل الباطل حقًا، والعاهرات يحكمن العالم بجثث الفضيلة، تُنعت الأفكار بالكفر، والأحلام بالجنون، يضاجعون عقولنا كل ليلة ليجعلونا نحمل في أمراضهم وعفنهم .

أحب طريقتك فى إقناعي والجهد الذى تبذله لتجمع ثرثرتي وتكون منها القصة، لذلك أردت المناقشة تستمر وقتًا أطول، فسألتك بشغب طفلة وما مصير كل من يخالفهم؟ أغمضت عينيك قائلا: يلقى مصير هيباتيا التى لم يبقى منها إلا مأساتها، نتحول إلى جرح غائر فى قلب الحياة ينضح بالقيح حتى يسرى السم في الجسم كله وتلتهمه فئران الواقع، ثم يقومون ببيعنا قطعًا صغيرة فى سوق اليأس، يقيدوننا بصعوبة الطرق لنرى أن الانسحاب دائما هو الحل النموذجي، ولكن فى حقيقة الأمر نحن نختار الموت الأقل صخبًا، نتعامل مع مشاعرنا كأنها نكتة سخيفة ، ونرتضى بنوع واحد من النصيب وهو الذى يصيبنا دون سعي، ولكن النوع الثاني الذى يحتاج منا خوض المعارك ننبذه ونقول لأنفسنا “لو كان خيرًا لأتى”، نحن من نسخر من أنفسنا ياصغيرتي.

وفى ليلة كنا نتشاجر وقررت أنت الانسحاب، وقتها غضبت منك بشدة وسألتك: لماذا نتسامح مع قسوة الألفاظ  تحت قدسية النصح؟، نقبل بأحقر الاختيارات تحت حجة الظروف، نقتل حميمية أحلامنا هروبًا من مواجهة المجتمع والتقاليد، نترك ساحة البطولة للمدعين خوفًا من عدم تصديقنا، نفلت جميع من يتشبثون بنا ونقنع أنفسنا أنهم يستحقون أفضل منا رغم أننا خلقنا لهم، نضحك على ما نتمناه ومرارة الأسى عالقة بحلوقنا قائلين “أحلام أطفال تشبه فقاعات الصابون سرعان ما تنفجر”، نخنق شغفنا ببلادة الروح، نبرر الاستغلال والاضطهاد والعنصرية رافعين رايات المصلحة، ندعي القوة فى أشد لحظات الضعف، نرتدى مئات العباءات لنلائم من يعيشون حولنا، نحول حياتنا إلى كشف إنتاج نقدمه لرؤساءنا فى العمل نهاية كل شهر،  نتحايل على أنفسنا لنسير فى درب الأغلبية، فأجبتنى بصوت مبحوح “هكذا تريدنا مدينتنا”.

لم أتوقع أن يتمكن اليأس من رجل مثلك، أنت من علمتني أن أحب نفسي بجنونها وعفويتها وجموحها، لذلك أيقن أنك ستنهض من جديد ، لنركض في ليل ديسمبر تحت المطر دون أن تؤرقنا نظراتهم، وأمضي الليل أحيك حكايات تداوي قلوب الوحيدين لتستيقظ فجرًا تلملمني من على الأريكة لأغفو بجوارك في وطني الكائن بين ذراعيك،  تعلم أني سأصنع نظرياتي الخاصة عن الكون ، دائما كان يروق لك طريقة إصلاحي للأمور التى يرى العالم أنها فسدت  هكذا علمتنى جدتي الفاكهة التى أوشكت على العطب بإمكاننا إنقاذها وتحويلها إلى عصير شهي، لا استسلم لأى تدفق عارم من أفكارهم البالية، لا أتعامل بهذه الجدية التى يبدون عليها مع الحياة، جئت هنا لأمرح كثيرًا.

أنت تعلم، إني لا أشبه السياسيين الهادئيين الذين يحسبون كلماتهم بالحرف، ثائرة احترق من أجل ما أريد، أعدك لن أخشى تلطخ حذائي بالطين فى طريق الحلم،  ولن أتحاشى المعارك لأجلس بأريحية فى مقاعد الجمهور، لن أكره الأوغاد لأنهم يجعلون الحياة أكثر إثارة هكذا تعلمت منك، ولن أخفي مشاعري لأتقمص دور الخجل الزائف، سأقبلك على قارعة الحياة ونجلس سويًا في الكلاسيكية القديمة نتجادل حول صاحب حصان طروادة، سأعيش لحظات ضعفي بصدق لأتمكن من الفرح مجددا، سأناقش كل العفن والظلم والألم المسكوت عنه ربما أتمكن ذات ليلة من رسم نظرة انتصار فى عيون طفلة، لأرى الفخر يعلو ملامحك بكوني منك ولك وأنت تخبر أحفادنا أن جدتهم امرأة انتصرت فى معركة كان يراهن الجميع على خسارتها، امرأة حررت الأندلس .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصريّة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون