إجهاد المواد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن
وكأنما فجأة، أضحى كل ما ظل يخشاه واقعاً. لملم زياد أشياءه؛ تقدم باستقالته إلى الشركة الأمريكية التي يعمل بفرعها الإقليمي بالقاهرة، أنهى كل الإجراءات، الإدارية والأمنية، المعقدة المطلوبة، حصل على تأشيرة “الشنجن” مطبوعة بجواز سفره، حجز تذكرة طائرة الصباح التالي إلى مطار فرانكفورت، ثم جلس يوصيه على صغيره.

لم يجد لديه ما يقوله، وبقي متصنماً على كرسيه، القديم المريح، ينصت لكلمات ووصايا ولده، الأخيرة المتعثرة، ويحدق، بوجوم ذاهل، في قسماته، عارفاً أنها المرة الأخيرة التي ستصافح فيها عيناه هذا الوجه الحبيب، ومن بعيدٍ بعيد، راح شئٌ، باهت مائع كالكلمات، يطرق بوابات الأذن:
– سنة، على أكثر تقدير، وأعود للاطمئنان عليكم واصطحاب الولد، لن أغيب للأبد.
لم يقل له إنه يصدق أنه لن يغيب للأبد، ولا إنه يعرف أن من سيغيب، للأبد، على الأغلب، هو المعود، لا العائد. لم يقبل أن ينحط إلى ذلك الدرك، المبتذل المترع بالإشفاق على الذات، من العاطفية الأبوية. هز رأسه ببطء، وكافح كي يداري تسحب دمعة كادت تفضح عاطفة المقاتل القديم الذي كانه.
– ودَعت أمك؟
– أغلقتْ باب غرفتها على نفسها، تبكي وترفض أن تسلم، أرجوك حاول أن تخفف عنها.
– سنكون بخير؛ أنا وهي وتميم، اهتم بنفسك، وطمئنا عليك.

عندما يكون لديك شيٌ، غالٍ ثمينٌ، لتخسره، فأنت، بطبيعة الحال، لن تمضي أيامك في أسعد حال، ولعل الحل الوحيد المتاح، لتلك المعضلة الوجودية، هو أن تقضي سنوات عمرك تدرب نفسك على قبول قدر الفقد والخسران، فلربما تتعاطف مع ضعفك ومخاوفك، بطريقةٍ أو بأخرى، تلك القوى، المتعالية الصماء، وتهبك بعض القدرة على الاحتمال أو النسيان، وعليه سيتوجب عليك أن تخوض حربك، الخاسرة حتماً، على جبهتين متصاديتين، وبهدفين متعارضين، في ذات الوقت، وبقلبك الواحد الموزَع، سيتوجب عليك أن تبقى هناك، وترحل إلى هنا، ألا تنشغل، في حقيقة الأمر، بما هناك أو بما هنا، وأن تشحذ كامل انتباهك، أقصى عنايتك، تمام يقظتك، لكل ما يُخايل في الهُناك وفي الهُنا، ذاك خلاصُك، وتلك ملهاتُك، فتلهى.

استدعوه للسؤال. طلبوا منه، بحزم، ترك هاتفه وبطاقة تحقيق الشخصية على البوابة، الثقيلة المصفحة والمخفورة بمكعبات خرسانية ضخمة. أدخلوه إلى تلك الغرفة المعهودة نفسها، التي طالما مر عبر العديد من مثيلاتها، بأثاثها القليل المتقشف، وجدرانها العارية الجرداء، وسقفها العالي، وهوائها المشبع بروائح الرطوبة المخزونة والهمس المسحوق. جلس ينتظر دخول “القائد”، بين لحظة وأخرى، متشاغلاً بالتحديق في داخله. يُدرك أنهم يراقبونه الآن بدقة، محاولين استخلاص أية استخلاصات عميقة، من تلك التي يبرعون، كل البراعة، في استخلاصها، من حركاته وسكناته، من شهيقه وزفيره، ومن نظرات عينيه وطرقعات براجمه. أخيراً، أهلَ عليه “القومندان”. بدا له شاباً وسيماً في أربعينياته الأولى، أو ربما أواخر ثلاثينياته، بشارب صغير مشذب، وابتسامة خفيفة تعلو الشفتين الرقيقتين الشهويتين. لم يكن يخشى من ملامح أي “قومندان” يصادفه ما هو أكثر من ذلك الشارب وتلك الشفتين، فبكيفية ما، كان قد اكتسب خبرة قراءة مزاج وطبع الشخصية من خلالهما، بالذات، وهي الخبرة التي لم تخذله مرَة واحدة في حياته، فآمن أن اللقاء لن يمر بشكل سلمي، تماماً، مع ” قومندان” بشاربٍ صغير مشذب، وشفتين رقيقتين شهوانيتين تعلوهما ابتسامة خفيفة.
– أهلاً سعادة السفير.
– خير إن شاء الله.
– خير. فقط أحببت أن أطمئن على نجلكم الباشمهندس.
باغته، قليلاً، سؤال “القومندان”. الحقيقة أن السؤال، في ذاته، لم يفاجئه بالمرة، بل إنه كان يتوقع كونه سبب الاستدعاء، الرسمي الخشن، لسفير، عجوزٍ متقاعد، من قِبل جهاز من أجهزة الأمن الوطنية الساهرة، بكل يقظة، على أمن وأمان الوطن، وإنما المفاجأة كانت في طرحه عليه، هكذا؛ مباشرة، وبكل فجاجة، ومنذ اللحظة الأولى. حاول أن يخمِن الدافع الخفي لدى مستجوبه في تغيير الاستراتيجية، المعتمَدة دوماً، في مثل تلك المناسبات، فلم يفلح.
– ما له؟
– لماذا ألمانيا الآن؟
– لماذا؟! للدراسة والعمل، إن أمكن. أنا متأكد أن سيادتك تعرف لماذا.
ردَ بغيظٍ مكبوح، مسدداً نظرة مباشِرة إلى عيني مستنطقه الذي انصرف عنه بالتشاغل في تقليب بعض الأوراق، فوق المكتب، أمامه.
– لا أسألك عما أعرف، سعادة السفير، بل عما لا أعرف.
– بالتحديد سيادتك، فلتسألني بالتحديد، ما الذي تريد معرفته؟
حط صمت ثخينٌ، مرويٌ ببغضاء تنهل من نبع الخرس والشكوك والحيرة، قبل أن يشقه الصوت الآمر العليم الواثق:
– أرجو أن يكون الأمر على نحو ما تقول يا سعادة السفير، وألا يكون الباشمهندس متورطاً في مغامرة أخرى ما. صدِقني، سأكون سعيداً جداً بذلك.
– اطمئن، لا مغامرات أخرى، الولد تعب. قال إنه يرغب في أن يعيش حياته في مكان، جديد بعيد، كآدمي.
– شكراً سعادة السفير، شرفتُ بلقائك.
نهض من على مقعده،مادَاً يده بالسلام، وضاغطاً على يد العجوز، المعروقة المهتزة بأثر “الباركنسون”، ضغطة قوية مقصودة، وكأنه يُبرم معه اتفاقاً مُضمَراً وغير لفظي. شعر الرجل بغثيانٍ خفيف يصَاعد في جوفه، فسحب يده المريضة، وولاه الدبر.

اصطحب تميم، ابن الأعوام السبعة، إلى مخازن ألعاب الأطفال الكبرى بالمنشية. أراد أن يشتري له دراجة، حديثة أنيقة، تشبه تلك التي اشتراها لأبيه، ذات يومٍ بعيد، قبل أكثر من ربع قرن. يتذكر أن الإبن كان مغرما،ً حينها، بالطائرات، لا بالدراجات، ولا حتى بالسيارات. منذ طفولته وهو يحلم بالطيران، ويتعالى على الأرض. بذل معه مجهوداتٍ جبارة كي يعلمه كيف يطامن من حلمه:
– الأرض هي العالم، الوطن والسكن، المهد واللحد، فلتجتهد للوقوف عليها بقدمين ثابتتين.
– الأرض مجرد ذرة رمل،ٍ تافهة وضائعة، على شاطئ محيط لانهائي الأبعاد، يا أبي، ومن لا يعرف كيف يطير سيظل محشوراً فيها، مع النمل والحشرات.
– نحن بشرٌ يا بني، ولسنا مجرد هوام.
شرد الإبن لثوانٍ، مستطلعاً، بنظرة بدت للأب قاسية في عطشها لانتهاب المجهول كله، أفقاً لعله لا ينكشف إلا لعينيه الشابتين، ثم همس:
– أو لعلنا لا نزال في الطور الحشري للوجود البشري، يا أبي!

من زاويةٍ، بعينها، للنظر، ستلوح لعينيه، المغرورقتين بدموعٍ تافهةٍ لا ضرورة لها، حياته كهرجة بائسة، قياساً إلى الوجود الرائع الرهيب. يبدو الزمن لا نهائياً، فيما ينسرب العمرُ القصير كالومضِ الخاطف. أجل، كم هو قصيرٌ قصير؛ هذا العمر، العزيز الغالي، أقصر من وعدِ النهار، وأطول من مزحة ثقيلة. يتذكر مزحة زمانية أخرى، ظل يعاينها كل صباح عند ولوجه مكتبه بمقر الخارجية القديم بميدان التحرير. كان تمثال السيد عمر مكرم، أمام الجامع الكبير المسمى باسمه، حارساً برونزياً وشاهداً على تلك المزحة. أما مضمون المزحة، فيمكن تلخيصه بالقول إن وجود السيد نقيب الأشراف في هذا الموقع قد جاء بمصادفة تاريخية، استثنائية، لا تشبه أي شئ سوى الهرج الزماني العتيد، حيث أن الجامع، الذي كان يحمل في الأصل اسم “الشيخ العبيط” أو “محمد المجذوب”، كان فاروق، ملك مصر والسودان، قد قرر توسعته، وإعادة بنائه وتزيينه، ليحمل اسم جلالته، قبل أن يتدخل القدر، ويأتي ضباط يوليو ليزيحوا اسم فاروق، من فوق المملكة كلها ، ومن فوق جامع الشيخ محمد العبيط مع باقي المملكة المصرية، بطبيعة الحال. إذاً، فما الضير في أن يحلم ابنه بالطيران إلى خارج نطاقات الكون، بل وإلى حدود الأكوان الافتراضية الموازية؟ ما الضير في أن يرفض دراسة القانون والعلوم السياسية والمنصب الوراثي بالخارجية، ويصرُ على تعلم الفيزياء النووية ولغة الطبيعة الكونية وشفرتها المذهلة؟ أوليس ذلك أكثر معقولية، أو أقل هزلية، أو كما تشاء القول، من اعتلاء نقيب الأشراف قبر ومنبر الشيخ العبيط، بديلاً عن فاروق حفيد محمد على باشا الكبير، عدو نقيب الأشراف اللدود؟.

كان قد حذًر، وبمنتهى العصبية، من أن ما جرى قبل سنوات، مع سابقه، هو أمر غير قابل للتكرار، معه شخصياً، أبداً، متحدياً “إياهم” أن يجربوه!.
لكن، ما الذي جرى، بالضبط، قبل سنوات، مما يدعوه لتهديدهم من مغبة محاولة تكراره؟ ربما لم يحدث أي شئ، اللهم إلا ذلك التجلي الفيزيقي، العابر، لتلك الهرجة التاريخية، المستدامة، فلسنواتٍ، وقرون، عاش الملايين، ملايين الملايين، من عبيد الأرض، في ظلام عبوديتهم الدامس، في صحراء جوعهم القاحلة، وفي الحر اللافح لعطشهم لنيل يجري من تحت أقدامهم، لا يجرؤون على الحلم، مجرد الحلم، بولوج بستان الخبز والسمن والعسل الذي احتجنه الحراس والتجار والكهنة، يموت ملكٌ ليعيشَ ملكٌ جديد من بعده، ويسقط فرعون ليعلو، فوق الرقاب، الفرعون، فيرتوي تراب الأزقة، وأسفلتُ الميادين بالدم والعرق، بدموع الثكلى، وبالرحيل اللا اختياري.
– ماذا تقول قوانين الطبيعة التي تدرسها في كتبك عن ذلك، يا باشمهندس؟
– حتى الطبيعة، يا سعادة السفير، ُتنكر على البشر كل ذلك الصبر، كل تلك الانتظارات. هل سمعت يا أبي، من قبل، عن ظاهرة إجهاد المواد؟
– أظن أني سمعت بذلك في مكان ما.
تابع الإبن شرحه، قاصداً إشراك أبيه في تأملاته العلمية:
– الموضوع، وباختصار، أن لكل مادة حدوداً لا يمكن تخطيها في احتمال الإجهاد، أو الضغوط، وإلا تغيرت طبيعتها، وأن ثمة منحنى خاص لكل مادة يوضح العلاقة بين الإجهاد، وبين الانفعال، الذي تظهره المادة.
– ثم؟
– هناك، أيضاً، ما يُسمى بحد المرونة، ويتم تعريفه بكونه الإجهاد المُسلَط على المادة بدون إحداث ضرر دائم، أما الحد النسبي فهو الإجهاد الذي يبدأ عنده منحنى الإجهاد/ الانفعال بالانحراف.
– هل هذا كل شئ؟
– تبقى أمامنا نقطتان؛ الأولى نقطة الخضوع، والتي تشير إلى أنه عند تجاوز المادة لهذه النقطة، خلال المنحنى، فلن يكون ممكناً استعادة هذه المادة لشكلها وحجمها الأصليين.
– والثانية؟
تمهل الإبن للحظات، أخذ يلاحق، خلالها، أنفاسه المتسارعة، قبل أن يواصل بثبات:
– نقطة الانهيار، وهي النقطة التي تنكسر عندها المادة، وذلك بعد بلوغها أقصى انفعال ممكن.
– فهمت.
فهل فهم حقاً؟ أو فلنقل، هل فهم حقاً وفي الوقت المناسب، قبل أن تضطرب الميادين بمئات الألوف من الأجساد الشابة المتوترة، وقبل أن تهتز جنباتها بهتافات الحناجر الغاضبة، بل قبل أن يرتوي أديمها بدماء رفيقة ولده وأم حفيده، الرقيقة كفراشة حقل مُستَلبٍ بعيد، وتغفو، بعد أن عبرت ذاك الباب المفتوح على الحياة/ الوعد؟

على كورنيش الإبراهيمية، رافق الجد حفيده المنهمك، باستمتاع وجدية بالغة، في قيادة دراجته الصغيرة الحديثة. كانت الشمس تشرف على المغيب، هناك، خلف قلعة قايتباي، لكن صُبحاً جديداً سيأتي، حتماً، من الجهة المقابلة بعد بضع ساعات، لا غير. رفع عينيه يتابع، بصمتٍ وحنو، زحف الطائرة السابحة في الفضاء، وئيدة، صوب الغرب، فيما راح يستمع، بأذن قلبه، إلى موسيقى الوجود العابرة للزمن، وللمسافات.

 

                                                                     سبتمبر 2018

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون