“أشباح الحواس” .. عندما يتخلى جيل التسعينات عن القضايا الكبيرة

"أشباح الحواس" .. عندما يتخلى جيل التسعينات عن القضايا الكبيرة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إدوار الخراط

إبراهيم فرغلي كاتب ينتمي إلى ما يسمى عادة جيل التسعينات - أو الحركة - الظاهرة أو اتجاه الكتابة التسعينية، وما بعدها. وفي كتابته تتضح ملامح هذه الكتابة، إن سلباً وإن إيجاباً على السواء، في الرؤية أو في الصوغ، وهل ثمة تفرقة ممكنة بينهما، ولكن له بطبيعة الحال فرادته وتميّزه.

 

نشر إبراهيم فرغلي رواية بعنوان “كهف الفراشات” في طبعة خاصة ومحدودة سنة 1998 وسبقتها مجموعة قصصية بعنوان “باتجاه المآقي” سنة 1997 ثم مجموعة قصصية بعنوان “أشباح الحواس” سنة 2001.

وفي تقديري أن ثمة وشائج وثيقة تربط بين هذه الأعمال الثلاثة، وكانت إحدى قصص له “باتجاه المآقي” وهي “فراشات” بذرة جنينية لروايته الأولى. إلا أنني سأتناول مجموعتيه القصصيتين باعتبارهما تدوران في سياق واحد. وهو سياق رؤية قصصية لقطاع معاصر شديد الراهنية ومغلق على ذاته إلى حد كبير. ولعلها مما يدخل في إطار ما سُمي اصطلاحاً محدثاً كتابة الجسد حيث تقوم الحسية بدور له وطأة رازحة، وإن كان الحس بالقهر – أو الإحباط – الاجتماعي ماثلاً في خلفيّة هذه الرؤية مثولاً لا يمكن إغفاله من دون أن يكون له مكان الصدارة أو المباشرة، بل له مكانة الإشارة أو المداورة. أما الإحباط الحسيّ فهو الذي يغتصب ساحة المسرح الأمامية وإن تخفَّى تحت قناع التحقق.

ومن ملامح هذه الرؤية – أيضاً – أنها رؤية الغرابة، أو الغرائبية المأخوذة مأخذ الأمر المسلّم به، العادي تماماً، أي عن طريق تقنية تحويل الغرائبي أو الخارق إلى يومي مبذول، مألوف مُزجى به على قارعة الطريق، سواء كان الطريق في الشارع أو في الكافيتريا التي تصدح فيها أغانٍ شبابية أميركية أو كان في الغرفة المغلقة على ذاتها، حيث يمتزج الشبق والعنف والشجن، من غير ميلودرامية.

هي رؤية يمكن أن نسميها، على غرار الأغاني التي تتردد فيها أصداؤها، رؤية شبابية، إذ تدور حول مغامرات غرامية، أو شبقية، أو وجودية، قد تكون لها مسحة صبيانية أحياناً ص 51 يقوم بها الراوي الذي هو من الواضح أنه شابٌ يافع يتلمس، ربما بنوع من الهوس الكتابيّ أي النصي، شيئاً من متعة عابرة ربما، وشيئاً من حنان نادر، ربما، وشيئاً من عزاء عن شجن مخامر ومراود طول الوقت يفضي به، كثيراً إلى اندفاعات بكاء، ودموع تنسكب مدراراً أو تغلْق “باتجاه المآقي” يستسلم لها ولكنه يسخر منها سخرية هيّنة في الوقت نفسه.

الشخصيات أو على الأرجح الشخوص، في هذه الكتابة، إذا أمكن عزلها عن السياق السرديّ بفعل التحليل النصي يمكن أن نقطّرها في الأمور الآتية:

أولاً: هذا الراوي الصبي أو الشاب في بكورة الصبا يبحث عن حنان مفقود، ومفتقد، من خلال تماسّات شبقية عابرة غير مقيمة وغير راسخة الجذور.

ثانياً: فتاة أو امرأة من النوع الذي يطلق عليه في العرف الشائع، بابتذال، وصف متحررة أو ربما منحلة وهي أوصاف ليس لها أدنى أثر في نصوص الكتابة هي في الغالب طالبة جامعية – مثلاً – من الطبقة الوسطى لا يشير الكاتب إلى هويتها الاجتماعية إلا أهون إشارة لكنْ هذه الهوية تتضح من سلوكها وأسلوب كلامها الشبابي الذي يوشك أن يكون “مستهتراً” كما يقال اجتماعياً وإن كان النص وكاتبه يقبلانه على علاته من دون أدنى تقويم خلقي أو اجتماعي، وهي في الغالب جسد مشوب بذلك الحبوط الذي يسري في الكتابة كلها، ويمكن أن تكون لها فجأة تجليات غرائبية كأن تصبح بومة أو فراشة ويمكن أن تكون لها علاقة مع كائنٍ من عالم آخر، هو القمر مُجسداً أو الجنيّ المتنكر.

ثالثاً: الشخصية الثالثة المتكررة هي بائعة جسد، تكون في الغالب قد داخت في معترك اجتماعي قاهر وفي الغالب تجد في التماسّ الشبقي مع الشاب لحظة عابرة من الحنان.

إلى جانب الشخوص المساندة التي تبقى في الظل من نحو الصديق أو الزميل أو غيرها. ولكن الشخصية الماثلة أو المؤثرة بغيابها في الوقت نفسه في كلّ الكتابات هي شخصية نورا الحبيبة التي خانت عَهْد الشابّ وتزوجت غيره وأصابته بذلك الإحباط والفقد الذي لا يريم، ومع تحررها وشبابيتها المعاصرة، وهي مع غيابها الماثل وتجليها الخاطف، تبدو مسيطرة، وكأن فيها مسحة جوكاستا أو جرترود ملكة الدنمرك.

ولكن الشخوص الرئيسة الثلاثة ليست مع ذلك قالبية مصمتة، ففيها ظلّ إنساني مكبوت أو سافر، لكنها تقع على حافة إطار نمطي يتكرر في عمل هذا الكاتب حتى الآن، على نحوٍ يهدد بإفقار ما، إن لم يتداركه.

ومن الملحوظ مع ذلك تراسل هذه الشخوص في فَلـَك عريض تبرق فيه اسماؤها أو صفاتها، متكررة، من دون أن تتكون من ذلك وحدة سردية بالمعنى التقليدي، فما زالت الرؤية متقطعة في شظايا قصصية لكل منها استقلالية معينة. أما الاتساق فهو الذي يتأتى – بالضبط – من هذه الرؤية الفنية المتراسلة أو المتساوقة.

من اللافت أيضاً أن هذا الراوي الشاب لا نكاد نعثر على اسمه إلا عَرَضاً ولكن اسمه غير المدقق يتراسل مع اسم الكاتب، إذ ان الاسمين يتكونان من حروف سبعة، دعك من تراسل صفات أو ملامح أو سمات الراوي والكاتب من دون أن نزعم فيها تطابقاً، ومن دون أن تكون لهذا التراسل في النهاية أهمية، فإنما نحن نعني بالنص ولا شأن ولا حقَّ لنا في تقصي قسمات أو أحداث خاصة بالكاتب، فهو تقصّ يفتقر في النهاية إلى حس الذوق إن لم يوشك أن يكون مسعىً بوليسياً تقريباً.

* * *

أعود فأبرز ملمحاً أراه أساسياً في هذه الرؤية القصصية، وهو نبرة الشجن والإحباط المتصلة وراء تفاصيل المشهد اليومي أو المشهد الحسي سواء، وهي قضية كبيرة. على عكس ما يبدو أنه مانيفستو الكتابات القصصية عند جيل أو ظاهرة التسعينات وما تتلوها، أي المانيفستو الذي يقول إن لا أهمية للقضايا الكبيرة بل كل الأهمية للتفاصيل الصغيرة ولما هو جسداني وحسيّ، وكأنما نحن هنا بإزاء شعار آخر يقول إنه لا صوت إلا للجسد في مقابل الشعار القديم: “لا صوت إلا صوت المعركة“.

وقال إن صوت الجسد – وهنا في حال إبراهيم فرغلي بالتحديد صوت الشجن وراء الجسد – وهو شبح الحسية – إنما يشي بقضية كبيرة مضمَرة وإن كانت تجلياتها النصية كثيرة: أن الوجود – أو على الأقل الحياة الآن كما نعرفها يبطنها الشجن والإحباط معاً، الجليّ الآخر هنا أن “العناق مدخل إلى راحة الروح. الجسدان المثقلان بعوالمهما البعيدة، يأتلفان” “باتجاه المآقي” ص 67 بل إن تقديم تلك المجموعة بشعر صلاح جاهين فيه أكثر من الإيحاء، والشواهد كثيرة ولكن الأهم من الشواهد النصية ما نستشفه طول الوقت كأنه تيار نحتيّ يسري في الكتابة “في محاولة لقمع الأصوات التي راحت تصطخب في أعماقي تدريجياً” “اشباح الحواس” ص 17.

في قصة “جين… تونيك” إذ يرفض الراوي – مرتبكاً – أن يلبي نداء حبيبته، وهي ستظلّ تذكره بهذا النكوص – وإن كان حرصاً منه عليها في تقديره – سيظل هذا النكوص أو الحبوط جرحاً لا يندمل. ولكن السخرية من الإحباط هي التي تعدل الميلودرامية وربما الرومانسية التي يخشاها الراوي أو المؤلف خشية الموت. وحتى آخر القصة وهي جناح من أيقونة ثنائية تمضي السخرية من الموقف حتى مداها، تمضي محاولة قمع الغصة حتى مداها.

لعل الملمح الثاني في هذه الرواية، وهو ملمح شديد الوضوح، هو ما يمكن أن أسميه ملمح الغرائبية، أو تجلي الكائنات الغرائبية. في قصة “أبيض.. أحمر” تتحول الطيور الأليفة المحبوبة إلى كائنات وحشية، الحمامة البيضاء المعشوقة ممزقة تماماً “في موضع خصوبتها” وقد تخضب أبيضها بالأحمر القاني، أما العاشق فقد كان وجهه مشوهاً وقد “ظهرت بعض من عظام الرأس الذي تخضب بالدماء.. وكأن الطيور قد نهشته تماماً“.

وفي هذه القصة كما في الكتابة القصصية كلها تقريباً عند إبراهيم فرغلي، تستحيل نغمة السرد الدارجة أو حتى الوادعة إذا صح القول حتى تبتعث صورة من العنف تومئ إلى غدر كامنٍ تحت الجمال وتحت قناع الحب. وفي قصة “للصمت عبق” يمكن حبيبة الراوي أن تسمع ما لم يسمعه هو نفسه كأننا نحن في قلب غرائبية ما وراء الواقع. وقد يتماس العالم الواقعي مع عالم ما وراء التعقّل قصة “ملكوت” إذ نجد المجذوب الذي يجلس عارياً أمام الترعة، ويقهقه ثم يبكي، ويذهب إلى المقابر و”يبدأ في طرق كوة المقبرة بكلتا يديه“.

معظم قصص الكاتب فيها هذا التماس بين عالم دارج شائع مألوف وعالم مما وراء التعقْل، وفيها أيضاً هروب من هذا التماس نفسه. وفي قصة “فراشات” أو رواية “كهف الفراشات” نجد هذا التماس أو التداخل بين العالمين طول الوقت. المرأة العجوز تتحول إلى شجرة، والمحبان يتحولان إلى فراشتين جميلتين.

في قصة “الصورة” “باتجاه المآقي” سوف نجد اللحظة الجنسية الملتبسة المألوفة والمحبطة على رغم ما يبدو من تحققها ظاهرياً إذ تأتي صورة ونظرة من أولاد المرأة وزوجها لتهزم أية نشوة محتملة أو ممكنة “كنت أعرف أنني لن أستطيع مقاومة التقلصات هذه المرة، وكأن الألم في أحشائي يحتشد” ص42. وفي “توحد” “كنت أعرف أن آخر ما تحتاج إليه هو الكلام.. وأن رغبتها في سماع صوتي هي جزء من الرغبة الأكبر في الهروب إلى أحضاني، تماماً كما أحاول بدوري أن أفعل” ص 59. هل هو الهروب بالشبق، أم الهروب من الشبق؟

في “الغرفة الخضراء” وعلى رغم ما يبدو لي افتعالاً في نهاية هذه القصة من محاولة جعل كل شيء أخضر، نجد الومضة الدالة: “كان عناقاً مروعاً كأننا نحتضن كل أولئك الذين لن نستطيع رؤيتهم إلى الأبد” ص 34 “أشباح الحواس

وفي نهاية هذا التحليل أجد أنه على رغم الحسية المغرقة بل لا يكاد يشارف حد الهوس الجنسي- من غير أي تهوين أو تهويل، ومن غير تمجيد بل بما يشبه التحييد، فإن الحسية ليست كاملة ولا متحققة، هي دائماً “أشباح للحسية“.

أقدّر أن الحنان، قوام ذلك المفهوم الذي هو الحب، الحنان هو وحده الذي يكسب الحسية كمالها وتمام تحققها.

لكن الحنان في كل كتابات إبراهيم فرغلي مفتقد.

ليس مفقوداً، على العكس هناك دائماً نزوع إليه وهناك دائماً ايحاءٌ به، بل هو مفتقد، بمعنى أن المنشود دائماً والمطلوب دائماً والإحساس دائماً بالحرمان منه، هو ذلك الحنان الغامر.

مصداق ذلك أن التعامل مع الجنس في كل كتابات إبراهيم فرغلي، خصوصاً الجنس عند “بائعات الجسد” أياً كان نوعهن، يجري ببساطة واعتيادية تامة. ولكن حاشية اللقاء الجنسي دائماً هي الشجن، والبكاء من غير ميلودرامية، كأن البكاء نفسه واقعة أرضية عادية عابرة، مثله مثل اللقاء الشبقي ولكن المفتقد هو الحنان الروحي والجسدي معاً. بعبارة أخرى تكاد توحي أنها عبارة مبتذلة ولكنها حقيقية إلى آخر مدى – فإن الجانب الروحيّ ضروريّ لاكتمال الحسية وإكسابها معنى.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم