“نصف عين” رواية تكسر سياج الصمت حول المهمشين

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مجدي محمود جعفر

هذه هى الرواية الأولى لنجلاء علام ، التى إعتمدت فى تقنياتها على "تيار الوعي " الذى شاع فى كتابات جيل الستينات ومن تلاهم ، ونجلاء اعتمدت على الزمن كعنصر أساسي فى بناء وتشكيل روايتها ليس الزمن المطرد من ماض إلى حاضر فمستقبل ولكنه الزمن المتداخل مما يؤكد وعي الكاتبة بمفهوم الزمن - الزمن الأدبي والنفسي والفلسفي ويرى د. مراد عبد الرحمن مبروك أن الذاكرة والديمومة عاملان مشتركان بين الأزمنة الثلاثة ، ويضيف " إذا كانت الديمومة هى السيلان المستمر للزمن فإن الذاكرة ليست سوى مستودع أو خزان للسجلات والآثار الثابتة للأحداث الماضية " وقد اعتمدت نجلاء علام على سيلان الزمن وتقطيعه وتداخله ، وعلى التذكر أو الذاكرة ، فأختارت " نور " توأم ليلى شخصية محورية وفي خلال يومين فقط هما زمن الرواية الداخلى .. استخدمت التداعي النفسي ، والمناجاة والمونولوج ، والصور الحلمية ..الخ ، "فليلى " توأم "نور" ماتت إثر اجتياح صدام العراق للكويت حيث كانت تعمل هناك مع زوجها سعيد وفى رحلة الهروب عبر الصحراء نزفت وهى حامل فى الشهر الخامس ، وماتت ودفنت فى الصحراء ليعود سعيد بطفلته لبنى حزينا مكتئبا بلا مال وبلا زوجة .

ونجلاء فى سردها -لا تسير على خط مستقيم -ولكنها تسير على خطوط متعرجة أو منحنيات مستخدمة أسلوب القفزات الزمنية والمكانية وتستخدم اللوحه التشكيلية أو المشهدية المكانية بلغة السينما ، فالرواية مدى وامتداد على حد تعبير د. أمينه رشيد بمعنى أن الرواية فضاء زماني وفضاء مكاني ، والمكان على محدوديته فى رواية نجلاء علام ، إلا أنه يلعب دورا مهما ..فمن خلال إقامة نور فى مكان متواضع ]حجرة فوق سطوح العمارة الضخمة ملحق بها حمام صغير ، بالحجره بوتاجاز مصانع شعلتان ، واحدة منهما -دائما- تهبب الحلل ،وحوض صغير فوقه صنبور حزين لأنه دائم التدميع [ بهذه الكلمات القليلة عكست نجلاء حالة الفقر التى تعيشها نور وعكست أيضا الحالة النفسية التعسة للبطلة ، فسعيد يطلب من نور أن تكون أما ” للبنى ” وزوجة له ، وهذا المطلب يفجر مشاعر نور ويثير شجونها وذكرياتها فعلى مدى يومين احتضنت فيهما نور الطفلة لبنى – لتختبر مدى تقبلها لها كأم ، تغوص فى الماضي ،وتجتر الذكريات من خلال أشياء بسيطة ولكنها معبأة بالذكريات ومشحونة بالدلالات مثل الكرسي الهزاز ، واللوحات المعلقة على الحائط والكليم المفروش على الأرضية والعبارات المدونة على جدران الغرفة ..وتبدأ عملية الاسترجاع والتقطيع “الفلاش باك ” وتقدم من خلال الماضي لقطات مركزة ومكثفة لا تغنى فيها بالترتيب أو الربط تاركة للمتلقي فضاءات واسعة ومساحة كبيرة للتأويل ، وأشياء كثيرة مسكوت عنها ، ليعمل فكره وخياله ويتفاعل بإيجابيه مع النص ..واختارت نجلاء “التوأمان ” المتماثلان ، نور و ليلى ، “فوله وانقسمت نصفين ” وهذا هو التعبير الشائع لكل من يراهما ولكن هل هذا التماثل فى الشكل يقابله تماثل فى الطبع . أم أن لكل منهما شخصيتها من خلال سرد نور للذكريات وممارسة الفعل ورد الفعل للتوأمين . نستشف أن ليلى تميل إلى الإنطواء ونور تميل إلى الإنطلاق فليلى تلم شعرها فى ضفيرة واحدة إلى الوراء ونور تقص شعرها، وليلى مطيعة وقنوعة ونور متمردة وطموحة ، فليلى تقنع بالإلتحاق بمعهد التمريض ونور تصر على الإلتحاق بأداب القاهرة ولو كلفها عنادها واصرارها النهر والضرب من أمها .

… واعتمدت الكاتبة نجلاء علام فى روايتها على مجموعة أساسية من الرواه : فايزه ” الأم ” عبد الراضي ” الأب ” حسن ” زوج الأم ” سعيد ” زوج ليلى ” وهناك شخصيات أخرى احتلت مساحة أقل ولكنها تركت آثار وذكريات فى نفس نور مثل حماده ونديم وغيرهما .. ونجلاء اختارت شخوصها من الهامشيين والبسطاء الذين يكابدون وتؤرقهم الحياة المعيشية بمتطلباتها اليومية قد يكون هؤلاء أنا وأنت أو غيرنا ، نراهم يوميا وحولنا ولانلتفت إليهم ، فجاءت نجلاء علام – لتكسر سياج الصمت المضروب حولهم ، وتكتب عن أحلامهم وهمومهم ، وتطلعاتهم وانكساراتهم وقد تضطر ظروف الحياة الخانقة البعض إلى التحايل لكى يعيشوا ، فنرى حماده ونور يبيعان الصابون السايل والشامبو والمسحوق المغشوش والمضروب !! .. وبالرغم من ظروف الحياة الصعبة – فأبطال نجلاء لا يستسلمون لليأس والإحباط فنديم خريج العلوم المتعطل -يجابه الظروف والمواقف الحياتية القاسية بالتهكم والسخرية ، والسخرية أسلوب حياة – يمارسه قطاع عريض من الشعب المصري حتى لا تنكسر النفوس وتشيخ الأرواح ..ويجد نديم الحل فى السفر إلى أوروبا ، حتى وهو فى أوروبا التى أستهوته كما يبدو من خطاباته لنور .. لم يتخل عن الدعابة وروح الفكاهة والسخرية ،  والسفر إلى الخارج والحصول على عقد العمل كان هاجس وحلم سعيد أيضا – شأنه شأن معظم الشباب المصري – فى الثلاثين عاما الأخيرة – للتغلب على مشاكل الوظيفة والزواج  ومتطلبات الحياة ، ونجح سعيد فى الحصول على عقد عمل بالكويت ، ثم السعودية .

وإذا كانت كل شخصيات الرواية إيجابية وفعالة – بإستثناء شخصية حسن زوج الأم ” فايزه ” والذي بموتها ينسحب من الحياة ويذهب عنه العقل ، وشخصية فايزه ” الأم ” رسمتها الكاتبة بمهارة ودقة ، فلم يمنعها موت زوجها عبد الراضي المراكبي من ممارسة حياتها مرة أخرى مع حسن لتشبع حاجتها الجسدية والنفسية ولم تنسها هذه الإحتياجات حبها لإبنتيها نور وليلى والحرص على تعليمهما ، والمحافظة على ثمن المركب – إرثهما من أبيهما – وهذه الفائزه تنقلب إلى نمرة شرسة إذا دعت الضرورة وتجلى هذا فى مواجهتها لاعمام البنات لإستخلاص حقهم فى المركب ، ومواجهتها لحسن الذى رغب فى تزويج البنت دون أن تتم تعليمها ومواجهتها له أيضا وهو يحاول الإحتيال – ليأخذ إرث البنات يمارس به التجارة ، ولأن الرواية كما قلت تعتمد في تقنياتها على تقنيات رواية “تيار الوعى ” فنجد الصورة الحلمية مبثوثة فى ثنايا الرواية ووظفتها الكاتبة توظيفاً فنياً ونفسياً جميلا ، كما وظفت الأمثال الشعبية والأغنيات ، فأغناها هذا التوظيف عن الثرثرة ، ومن ثم كانت الرواية مكتنزة ، قليلة الحجم ، حيث خلصت السرد من الحشو والزوائد .

.وﻷن الرواية في مجملها اعتمدت على استرجاع الماضي ، وربما يكون هذا الماضي هو العقبة الكؤود – فى طريق نور- نحو المستقبل ، فنور محاصرة بوجه ليلى ، ووجه فايزه ، فهل تستطيع أن تنزع من ركام الذكريات – كل هذا التاريخ الطويل ” فنور معبأة بكل هذا الماضي  ، وسعيد يعطيها البوم صور ليلى -فى اشارة واضحة وحاسمة منه – فى أنه تخلص من هذا الماضي – ويلح عليها فى سرعة القرار – هل تستطيع أن تتخلص نور مثله من هذا الماضي ) عقد من الحرير حول رقبتي، عقد من الحرير تدلى بنعومه ، ماذا يعنى خفق القلب الآن ..( قد نعتقد أن نور نجحت فى إتخاذ القرار ، وتخلصت من الماضي فتضيف ) يدي تتأرجح وقد تعلقت بها يد لبنى ،وحولنا ضجيج بلا داع ابتسم واحرك رأسي يمينا ويسارا( ونكتشف بعد قليل أن هذه صورة حليمة للمستقبل – ومن الصعب أن تتحقق – لا فى الزمن الحاضر ولا حتى فى المستقبل ، فتفاجئنا بلغة صارمة ) وبقوة القصور الذاتي أسير ..( ..أى أنها تحركت قليلا نحو المستقبل بفعل هذا القانون الفيزيائي الرياضي ، فالنفس قد اكتسبت حركة الماضي وتشبعت به ولا يمكن أن تسير نحو الحاضر والمستقبل إلا خطوات قليلة جدا بفعل قانون القصور الذاتي ، ونكتشف بعد أن تبطل حركة القانون وتتعطل أنه ) لا موسيقى ..ولا إيقاع ( وأن الرؤية للمستقبل قاتمة ، فتتبدل الصورة الحلمية المشرقة إلى صورة ضبابية ..) فقط مجرد وشيش بعيد ..ودخان يتصاعد إلى السماء وكأنه نذير (..وإذا كان عالم نجلاء علام – فى رواية نصف عين من الصعب تناوله في هذه المساحة الضيقة ،فإني أرجو أن أكون قد اقتربت منه في هذه العجالة ، ونثرت ولو قليل ضوء .

نجلاء علام كاتبة موهوبة وجادة ونعتقد أنها فى السنوات القليلة القادمة ستكون صاحبة تجربة روائية متميزة وقادرة  أيضا على التجديد والإضافة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الأهرام المسائي ، بتاريخ : 3 / 7 / 2001 م .

 عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم