طارق إمام يقتنص غرائبية اللغة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ديمة الشكر

للغة في الرواية، كما في الشعر، درجاتها وأطوارها التي تجعلها مسبوكة، ملتحمة السياق، كما لو أنها قدّت في قالبٍ مخصوص فتن كاتبها، ذاك الذي فكّر أوّلاً وقبل أي شيء؛ أيّ من درجات اللغة جديرة بالاقتناص؟ ولا يتمّ الأمر غبّ البدايات التي غالباً ما تكون عفويةً منطلقةً لا تتبع إلا حساسيّة الموهبة الغضّة، بل يتمّ آن يدرك الكاتب أن حرفة الرواية تعني تجريب ركوب أمواج مختلفة وترويض الحساسيّة والإصغاء إلى الحدس الشخصي وهو يشقّ طريقه نحو التراكم وبناء التجربة. هذا التمهيد يبدو ضروريّاً عند النظر في رواية طارق إمام الجديدة «ضريح أبي»، الصادرة عن دار العين في القاهرة. إذ يبدو أن الروائي الشاب وضع نصب عينيه - أو قلمه- اقتناص الدرجة الغرائبية في اللغة، واختار لها رتبة سوداء قاتمة. روايةٌ قوامها التنقّل بين المقدّس والدنيوي، والبقاء على حافّة مخاتلة قرب الموت لا باعتباره فناءً جسديّاً، بل باعتباره منطويّاً على معان تحتمل التفسير والتأويل والترميز. فالموت هو الحاضر الأكبر في مدينة جبل الكحل التي ولدت حول الضريح، وكذلك في حياة الشخصية الرئيسة؛ الابن الذي يقطع الطريق - أو الطريقة- بين ضريح أبيه ومقبرة أمّه، ويروي حياته - مصيره، من خلال ما يتذكره ويكتشفه عن حياتيهما.

لا يكتفي الابن بالروايّة التي تبدو أقرب إلى السيرة الذاتية، بل إن حضور المقدّس في «ضريح أبي» يفرض عليه أن يكتب مرتين: مرّة أولى حياة أبيه ذي الضريح والمنامات والميتات اللامتناهية والمدن المتعدّدة، ومرّة ثانية حياته هو الناجمة من ذاك القِران الغريب العجيب بين أب لا يملك شيئاً من صفات الأبوة خلا التناسل، وأمّ تعذّب ابنها بغياب صورتها وبما يروى عنها من قصص فهي الفقيرة المتهمة بالزنا. وإن كان الأب يتحكّم عبر سلطة المقدّس بحياة ابنه وحياة أهل جبل الكحل وغيرهم، فإن للأمّ سمات «فرعونية»، فهي صانعة تماثيل لـ «حيوانات وطيور رجال ونساء وأطفال، مدينة كاملة»، تصنع التماثيل وتدفنها. وسيفرض سياق الرواية لهذه الكتابة المزدوجة إضفاء أهمية على دلالة «المخطوط»، باعتباره لبّ الرواية وبنيتها الرئيسة، وكذلك باعتباره مدوّنة لسيرتين: «كنتُ الشخص المكلّف بكتابة حياة أبي….لكنني بدلاً من ذلك ..جعلتُ من المخطوط الغامض مكاناً لكتابة حياتي».

وإذ خدش الابن المحرّم، فإن ذلك لم يعفه من كتابة ثانية: «أن تعيد نسخ الحكاية المكتوبة في المخطوط الأول في المخطوط الثاني». تتعاكس السيرتان «شكليّاً» إن جاز التعبير، ذلك أن طارق إمام اختار تغيير الخطّ على إيقاع تغيّر الراوي، واختار أيضاً أن تنقص الأوراق أو تمحى الكلمات، أو ترسم بخطّ متقّن. ليس هذا فحسب، بل اختار إمام للابن المعذّب ذي الحياة الهشّة، رفيقةً للكتابة، هي نعمة خادمة أبيه الأخيرة. وخلافاً لمعنى اسمها، فإن تلك الشخصيّة تبدو أقرب إلى النقمة إذ هي التي أوّحت إليه بكتابة حياته، وهي التي لا تكفّ عن تشكيكه بموت أمّه وبما يروى عن حياة أبيه الغامضة. وفي كلّ مرّة تكسر نعمة لمحات اليقين الواهية لدى البطل، لا بل إنها تحبل منه، ما يدفعه لارتكاب معصية جديدة: أن يفكّر في قتلها، بعد أن رأيناه طفلاً يكذب، ويافـعـاً يدخّن في أيام الصوم.

وفضلاً عن هذه الشخصيّات الأربع الرئيسة في الرواية: الأب والأمّ والابن ونعمة، ثمة شخصيّات غرائبيّة أقرب إلى عجائب المخلوقات، منها: المقرئة الضريرة، والإسكافية، وقائدة جيش الورق، وامرأة جبل الكحل ذات العين الواحدة، والعرافة وبائع المعجزات والعاهرة وغيرها. ولكلّ منها مكان سيمّر الابن فيه تِباعاً في طريقه في كتابة السيرة المزدوجة، وفي طريقه إلى أمّه ومقبرتها. ولن تكون تلك الأماكن – المدن، أقلّ غرائبية، وأسّها ضدّ أي منطق: مدينة المقابر، مدينة الحوائط، مدينة الظلال ومدينة السرابات. تتناسل الحكايات الغرائبيّة وتبدو مثل عتبات لا تنتهي لامتحانٍ وجودي للابن ذي الحياة الهشّة.

وبالطبع فإن حشداً مماثلاً من الغريب والعجيب للشخصيّات والأمكنة على حدّ سواء، يثقل الرواية من حيث تغدو ملعباً غير متناهٍ للرموز والنماذج العليا وكلّ ما يخطر في بال القارئ من إحالات ومرجعيات دينية ووثنية وثقافية وتراثيّة متنوعة. وإن كان طريق الابن المتدرّج من مدينة لأخرى، ومن شخصيّة لأخرى، يرسم ما يشبه العتبات في القراءة، إلا أنّ ذلك لا يخفّف من وطأة المتاهة الناجمة من تضافر أمرين: درجة اللغة الغرائبية الصعبة التي اختارها طارق إمام من جهة، وقوّة الترميز بالشخصيّات والأمكنة من جهة أخرى. لن تسمح هذه المتاهة للقارئ بالاسترخاء، ولعلّها تشير من طرف خفّي إلى أن الروائي فكّر كثيراً وكان وعيه في أوّج الرقابة والصرامة عند الكتابة. كما لو أنّه هندسَ بدقّة لا حدّ لها، كلّ تفصيل في الرواية، فبدت مثل عمل مركب ومحضّر، الأمرُ الذي منع إمام من إطلاق خياله على عواهنه، بعيداً من الصنعة التي لجمت قدرة الروائي على الإصغاء والتأني عند درجة الشاعرية التي وصل إليها في الكتابة الغرائبية: «كان يمكن لشخصٍ يقف في نافذة، أن يرى المدينة كلّها تغرق في حلمٍ متكرر. لكني كنت أطلّ على الطريق البعيد». إطلاق الخيال على عواهنه يصفّي اللغة، إذ له تلك القوّة التي تلهبها وتجعلها شفيفة رقيقة :«يتطاير الناس من النوافذ عندما يقررون الخروج للتجول أو للذهاب إلى العمل ويتسلقون الجدران لكي يعودوا إلى غرفهم». فهذه المقاطع الجميلة قليلة الورود في هذه الرواية التي تنطوي على شرّ مطلق وعنفٍ مشهديّ، لكأنّ الشرّ هو سياقها الرئيس، ومبرّر أحداثها ومصير الابن المعذّب بلا هوادة.

في غمرة انشغال طارق إمام بركوب الصعب من درجة اللغة الغرائبية وما تفرزه من نماذج عليا وشخوص قابلة للتأويل والتفسير، نسي نفسه وأهمل مقول القول إن جازَ التعبير، فالرواية تنتهي بصورة عبثيّة بعد رحلة عسيرة في المكان وفي الكتابة للابن: سليل زواج المقدّس بالمدنس. رحلةُ محتشدةُ بالأحداث التي يحفّ بها الغرائبي والعجيب. وإن كان طارق إمام قد كتب على لسان البطل:«لقد وصلت بألم ذكرى مبدّدة لقناعة مفادها بأن القداسة لا تتحقق دون قدر كاف من الخيال»، فقد كان عليه أن يطلق خياله لا باتجاه رسم الشخصيّات والمدن – كما فعل باقتدار- بل أيضاً باتجاه تلك الرقابة الصارمة في هندسة رواية كابوسية محكمة، ليخفّف من وطأة متاهة الشرّ المطلق ويصغي أكثر إلى تلك الدرجة الشفيفة من الشاعرية التي يملكها.

 

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم