حميمية العالم في أفيال صغيرة لم تمت بعد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. سيد البحراوي

" هل أصبحنا كالأفيال الصغيرة تفاجأ بثقلها حين الولادة فترتمي على الأرض ، تدرك حينها أن الراحة موت وأنها لا بد أن تنهض إذ تتوسل عيون الأمهات لها ، أفيال صغيرة تعرف أن لها لحماً وعظاماً وجلداً سميكاً يضغط الرئة فتتهشم ، تتعلم أن تقف على قوائمها وتواجه هواءً بارداً وغابة بلا نهاية " (ص64) 

يكاد رمز الأفيال الصغيرة يكون الرمز الوحيد في مجموعة نجلاء علام الأولى ” أفيال صغيرة لم تمت بعد ” ، وهو يرد في القصة التي تحمل هذا الاسم ، وحملته المجموعة كلها ومع ذلك ، فإن هذا الرمز الوحيد بدلالات الصراع والحميمة التي يحملها هذا الفيل الصغير ، يمكن أن يكون مفتاحاً لتجربة المجموعة كلها . مفتاحاً للمعاناة الحميمة التي يعيشها البشر ” الصغار ” المهمشون المستضعفون في مواجهة ضرورات الحياة وقمعها وبرغم ذلك ، فإن هؤلاء البشر يمتلكون من مقومات بشريتهم ومن انتمائهم إلى العالم ، ما يجعلهم قادرين على المقاومة والمواجهة والانتصار ، أحيانا ، وإن لم يكن في معظم الاحيان . ومن هنا تأتي نهاية المجموعة معبرة عن حيرة تنبع من السؤال الأخير في القصة الاخيرة : اللون ” ماذا يكون اللون ؟ ماذا يكون ؟! ” ( ص 84 ) . وهي حيرة تجيب عنها القصة نفسها . فأيا كان اللون فإنه لا بد أن يكون قاتماً ، لأن ألوان العالم جميعها قاتمة .

وفي تقديري ، أن ما يمنح هذا العالم القاسي والقاتم طزاجته وألوانه البهيجة ، برغم القتامة ، هو أليات السرد التي تتمتع بها الكاتبة ، بدءا من منظورها وانتهاء بطرق بنائها للقصص ، مرورا بلغتها الدقيقة التي تجيد الالتقاط والوصف .

إن أهم ما يميز نجلاء علام على صغر سنها ، هو الخبرة العميقة والممتدة بالحياة ، تلك التي منحتها عينا بصيرة ونفاذة ، قادرة على أن تلتقط بدقة التفصيلات الصغيرة التي تميز منحنيات شديدة الأهمية والدلالة ، في عالم القصة وفي بنائها ، من هذه التفصيلات ، مثلا ” السلمة المكسورة ” في قصة ” الظل ” ، ومنها في القصة نفسها، تلك الصورة البليغة التي تنتهي بها ” ويمتد ظلي فيفرش أرض الحجرة الضيقة ” ، وكلتاهما تقدم التوقع في بداية القصة وتحققه رمزياً في نهايتها ، ومن نماذج هذه الدقة في الوصف – مثلا – الفقرة الأخيرة في قصة ” هكذا ” ” أحضرت الأكواب والسكر ، وبحثت عن كيس الشاي ، تسربت رائحة الغاز فأدركت أنني لم أغلق المفتاح ، دق جرس الباب فتحركت ببطء كما اعتدت في الأيام الأخيرة ، وفتحت الباب ثم أخذت وصل النور من البواب – تحاشيت النظر إلى الاسم المكتوب – جعلته ينتظر ثم عدت إلى المطبخ ورفعت الغطاء ثم حملت البراد إلى الحوض وأفرغت معظم ما به من ماء – لقد نسيت أنني سأشرب الشاي وحدي – ثم وضعت البراد على البوتاجاز . أعطيته النقود ثم أغلقت الباب … ” (ص8)

وهذا الوصف الدقيق يمتزج بدرجة عالية من التكثيف في الاستخدام اللغوي ، بحيث إن عدداً قليلاً من الكلمات يحمل عالماً واسعاً وعميقاً وممتداً – ليس هو مجرد المعاني المباشرة التي تحملها كل لقطة أو مجرد تراكم لهذه المعاني . فجملة مثل ” تحاشيت النظر إلى الاسم المكتوب ” أو مثل ” لقد نسيت أنني سأشرب الشاي وحدي “- في النص السابق – تشير إلى المخفي والمضمر ، ولكنه المحرك الأساسي للقصة كلها : ثمة شخص مات من زمن قريب .

عبر الدقة في الوصف والكثافة وحميمة العالم ، تنبني قصص نجلاء علام بجزأيها ” اهتزازات غائرة ” ، و ” اهتزازات صغيرة ” . والملاحظ أن هذا البناء محكم في معظم القصص على نحو تام ، خاصة في قصص الجزء الثاني القصيرة جدا ، ومعظم قصص الجزء الأول الأطول نسبيا . والملاحظ أن القصص المحكمة البناء هي القصص التي تركز على العالم الداخلي الحميم لشخصية الراوي أو المروي عنه ، سواء كان امرأة أو رجلا ، طفلا أو عجوزا . أما حينما تحاول القاصة الخروج من هذا العالم الداخلي الحميم إلى العالم الخارجي ، عالم الأخرين ، وتتعدد زوايا النظر ، أو تلجأ إلى الفانتازيا أو التجريد ، كما في قصص ( الطريق ، نور ، خيال ، بورترية ) فإن البناء المحكم يكاد يتفكك ، وتفلت خيوطه ، وتضيع دلالات العمل . ومع ذلك ، فإن هذه القصص تمثل طموحاً محموداً لدى الكاتبة للتواصل مع العالم الخارجي ، نرجو أن يتحقق بالدرجة نفسها من النجاح المتحقق في القصص الأخرى ، لأن هذا الطموح هو وحده الذي يمكن أن يقود منظور الكاتبة للخروج من أسر الحالة الداخلية الحميمة ، وإدراك أن هذه الحالة الحميمة يمكن أن توجد لدى البشر الأخرين أيضا ، ومن ثم تتعدد الألوان ودرجاتها ، ولا تظل أسيرة القتامة وحدها .

_______________________________

* مجلة نور ، فصلية ، العدد 12 ، صيف و خريف 1997 .

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم