المقهى في باب الليل لوحيد الطويلة.. ذاكرة المنفى والوطن

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح فرّاج النابي

(1)

في مروية تتقاطع خيوطها الأساسية مع مرويات المَنْفَى بكافة أشكاله (القهري والاضطراري)، بعد أن صارت الأوطان كلها أشبه بالمنافي، وصار أبناؤها مغتربين سواءً ظَلّوا فيها أم رُحِّلُوا عنها.

يطرحُ وحيد الطويلة في نصه الجديد ‘باب الليل’ الصَّادر عن (دار الأمان، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف 2013)، فكرة استعادة الذَّات المجهَضة بفعل قوى غالبة وقاهِرَة، لا تبدأُ عند سلطة الاستيطان وفقط، التي حالت دون عودة المناضلين بعد اتفاق أوسلو مع أقرانهم بحِجَّة أنّ هؤلاء أياديهم تلطَّخَتْ بالدماء، وإن كانت لا تنتهي عند سُلْطَة القمع السياسي التي مارستها أجهزتها الأيديولوجيَّة بتعبير ألتوسير في فترة حكم بن عليّ الديكتاتورية، ومدى تطاول أذرعتها التي تجاوزت المسجد والمقهى، باعتبارهما فضاءيْن ملائميْن للرصد والتعقُّب، إلى غرفة النوم (كما فعلت زوجة شادي السّوري)، ومن ثمَّ فلم يبقَ مجالٌ إلا التحرُّر من تلك الأغلال، وبما يمتلكه الإنسان أي بالجسد، العجيب أن السُّلطة السِّياسِيّة / القاهِرَة المتمثِّلة في سي المُنْجي (الضابط الشيخ) فشلت في إثبات خصوبتها أمام سلطة الجسد / المستسلمة (لِلَّا درّة، السِّيدة الأولى في المقهى بدلالتها المجازية والحَرْفِيَّة) حتى أنَّها في المرة الثّانية عندما أرادت مساومته بجسدها خشيتْ أن يتكرِّر العجز، في إشارة بالغة لحالة الجدب التي وصلت إليها السُّلطة بعد تراكم السّنين وهي في الحُكْم، فعملت على مُوارة العجز والترهُّل بالقهر والقمع. لذا تتخذُ من الجسد وسيلةً لكسب معركةٍ، الغواية فيها لسلطة الجسد، تكون هي فيها الفاعل والمفعول في ذات الوقت، يتبادلون الأدوار فيما بينهم ما بين الصيَّاد والطريدة، ليتحققَ النَّصْرَ المزعوم، على الجسد ولا شيء إلا الجسد.

(2)

يتجاوزُ العنوان ‘باب الليل’ المعنى السَّطحي الذي تحيل إليها مفردة ‘باب’ بدلالتها المنفتحة التي تشي بمعنى الكشف والمرئي، لتقدِّم لنا بعد إضافتها لمفردة ‘الليل’ وما تحتويه من معانٍ ظاهرية ومجازية، إلى دلالات الأسرار والدخول إلى المُبْهَم والمسكوت عنه، وكأننا مقبلون على ما هو مجهول (مغارة) يأخذ / تأخذ في التكشُّف مع الدخول إلى الأبواب المُخْتَلِفة التي تتشكَّل منها بنية النَّص، ليكشفَ في الأخير عن عالَم الرواية الغائم والكابوسي، وشخصياتها المحبطَة والمهزومة، التي تتوَزَّع على الأبواب حتى صارت كُلُّ شخصيةٍ شبيهة بعنوان الباب المؤطر للسَّرد، على كافة المستويات، السِّياسيَّة والاجتماعيّة وأيضا النَّفْسيّة، من خلال تركيبة فريدة من البشر مختلفي الجنسيات فنرى خليطًا من توانسة ولبنانيين وسودانيين وليبيين وأوروبيين، وإنْ كان ثمَّة فلسطينيون، أو ثوّار متقاعدون حاضرون بفجيعتهم، حتى صاروا بفعل عوامل عِدّة لا تبدأ من الخيانة ولا تنتهي بتبدُّد سراب الأحلام مجرد ‘بقايا بشر بدون أظافر، يلهثون وراء لقمة يومهم يحلمون ـ بيأس وافرـ بأىّ بلدٍ يَقْبَل أن يُرَحَّلُوا إليه ولو فى جزر الكاريبى، أو عن جواز سفر بأىّ اسم كان’ (الرواية ص، 155)

 (3)

المقهى الوطن البديل.

ومع هذا التجمُّع البشري باختلاف الهُويَّات وتنوُّع الأحلام، إلا أنَّ المؤلف يوحِّد بينهم في فضاءٍ تخييلي، يُسميِّه مقهى ‘لمَّة الأحباب’، بما تَحْمِله التَّسميِّة من معنىّ مجازيّ مكتنز بضديته أيضًا، ومن ثمَّ يتجاوز المقهى دلالته المتحقِّقة أيضًا داخل النَّص باعتباره فضاءً زمكانيًا، كنقطة اتّصال الخارج بالداخل، أو العكس وهي تلك الصِّفَات اللَّصِيقة بتاريخ المقهى منذ نشأته، وما أضفته عليه النظم الديكتاتورية من وظائف المراقبة والتجسُّس، إلى كونه ‘فاعلية كونيِّة’ باصطلاح غاستون باشلار، تُحقّق التجمُّع واللقاء لأصحاب الهزائم والانتكاسات العربيَّة، وفي ذات الوقت يوحِّدُ مصائرهم بعدما فرقتهم أوطانهم، فيضحي مكانًا بديلاً للبحث عن حلول ووضع الخطط حول قضايا مصيرية، كنوعٍ من السُّخرية من تلك المنظمات الشَّكْلِيَّة (التي تنتهي جميعها بصفة العربيّة) والتي لم تحقِّقْ على مستوى الواقع حلاً لأي مشكلة سياسية، بل زادت الأمور تعقيدًا، فقام المقهى بهذا الدور البديل، حتى غدا لديهم بمثابة الأوطان البديلة يوحِّد ويذيب الهُويّات، وفي ذات الوقت الملجأ برجاله وبائعات الهَوى بعدما أَوْصدت الأوطان الحقيقية الأبواب وبات أمرُ العودة مجرد وَهْم آَل. فحقَّ بهذا أن يكونَ المقهى كما وصفه السَّارد الغائب ‘سِرَّه داخله، يطوي غرامه في أعمدته أو أثدائه المزروعة في كُلِّ مكانٍ، شواهد حيّة، أو في سقفه الذي يدفن الحكايات في ثنايا تموجاته، منطوٍ على نفسه، يكاد لحظةً ينطق بكل الأسرار.’(103). وفي سبيل هذا يَلِحُّ السَّرد على وصف المقهى وصفًا تعبيريًا أي عبر التدقيق في هندسة المكان، وهو ما يرفضه ‘آلان روب غرييه’ بكافة أبعاده الجغرافية تارةً حيث ينتصب ‘على ربوة تصعد ليها عبر سهلٍ، وتهبط منها في أرضٍ منبسطة، ومن أيّة نافذة يمكن لعينيك أن تمتدَ بين ربوة وقبة ومنبسط’ (ص11)، وتارةً أخرى، بتحديد موقعه وتاريخه ‘في شَارع جانبي متفرع من شارع المقاهي، الذي ينتفخ بنحو ستين مقهى آخر، ظلَّ لسنوات بمقهى واحد، وحين ارتفعت المباني وسكن الناس، تناسلت معهم المقاهي في شهور وجيزة، يمتلكها لاعبو كرة القدم وبعض الفنانين وأصحاب الأموال القادمة من مدينة صفاقس تحديدًا’ (ص 11)، وأيضًا بأبعاده النفسية من خلال علاقة رواده به، فهو بالنسبة للّا درَّة ‘ملعبها، فيه ترعرعت وشَبَّتْ، شَاهِدٌ حيّ على جولاتها وصولاتها، تترك نصف روحها فيه قبل أن تغادره ليلاً، لا تستطيع أن تتخيَّل الدُّنيا بدونه، تاريخه وتاريخها مكتوبان بحبر واحد بدم واحد، ستأخذها قدماها إليه دون أن تدري، ولو كانت عمياءً، ستأخذهم أقدامهم إليه وإليها دون أن يدروا، كأنهم عميان مخطوفون بحبل من حرير’ (ص 302)، أما بائعات الهوى فيعتبرن ‘ملح المقهي و(كذلك) الحياة’ (ص53، والتشديد من عندنا)، وببعده الزمني وإيقاعه النفسي الحاد، فيأتي جلوس المنفيين على الطاولات في لعب الأوراق لا لشيء سوى ‘لقتل الوقت المقتول، في انتظار وقت آخر لا يجيء’ (268)

لا تبتعدُ أسماء المقهى وصوره في وعي شخصيات الرواية ـ على الأقل ـ عن سياق المَنْفَى والاغتراب فهو مرَّة ‘لمَّة الأحبَاب’، وتارةً ‘مقهى الأجانب’ في إشارة لهؤلاء اللاجئين، وقد يتداخل المقهى مع المنفَى، ليكونا شيئًا واحدًا كما هو الحال عند أبي شندي فعلى حدِّ قوله ‘إسرائيل حبستني داخل مترين، واحدٌ في الدار وواحدٌ في المقهى’.(ص 55). وفي حضور هؤلاء المنفيين وبفضل مُنَاضِلاته وغزواتهن، يكتسب المقهى دلالة جديدة، فيصبح حائط مبكى للبوح والفضفضة والرِّثَاء لماضٍ تليدٍ ولىّ، وهو ما يجعل لحضور الذَّاكِرة قوَّة السِّحر للتَّشبُّث بالأمجاد والبُعْدِ عن الجنون، فتتوسّد بالاسترجاعات التي تعود إلى أزمنة قديمة حيث ميادين النضال والثوَّرة.

(4)

تتردُّد داخل المتن الحكائي، أصداء زمانية تشير إلى نهاية عصر بن عليّ، وقبلها زمن طرد الفلسطينين من لبنان  عام 1982، ثم اتفاقية الخيبة لا العودة (إن جاز الوصف) دون الموضوعة أسمائهم على قوائم الإبعاد الإسرائيلي، فضلاً عن وحدة مفردة العنوان ‘الليل’ التي تشي بالظلام والسرمدية، إلا أن الملاحظ أن زمنية الرواية تأخذ خطوطًا تارةً متعرجة، باستحضار اسم ‘أبو جعفر المنصور’ الخليفة العباسي في القرن الثاني الهجري بانتصاراته، وإستبداله بالمهزوم بعد ضياع العراق  لوصف أبي جعفر الثائر العراقي، وتارةً ثانية متداخلة مع أزمنة الهزائم السياسية الكبرى من فلسطين  إلى العراق في العصر الحديث وبينهما هزيمة 67 التي داست على أحلام شادي، وهو ما كان له أثره في إجهاض كافة أحلام الشخصيات التي تتنظر زمنها القادم أو بمعنى أدق غده / ربيعها، بما فيها الرئيس الذي يقرُّ الجميع بلا غضاضة أن مكانه ومقعده محجوزان إلى القرن الحادي والعشرين، فيحل خريفه بربيع مُضبب لم تنقشع غمامته بعد، دون أن يخوض في أحداث الثورة، وإن كان ثمَّة تحقّقات لأسباب الثورة بين ثنايا السَّرد ماثلة في صورة الهجرة إلى الشاطئ الآخر، والحلم بالثراء، بلا تفاصيل أو إسهابات، وهو ما يحسب للمؤلف الذي رصدَ بلغةٍ سلسلة عذبة تمزج بين الوصف والشعر، مُحمَّلة بالمجازات والتشبيهات، الموظفَّة في غير سياقاتها بإضفاء الجمال بل على العكس، تتلاعب بالألفاظ وتنقلها إلى سياقٍ مفارقٍ لدلالتها الأولى في الوعي كنوعٍ من السّخرية ، فتصير فتح (حبف)، والسُلْطة إلى سَلَطة (بفتح السِّين واللام)، ومناضلو الميادين إلى مناضلي السَّرائر، والغزوات الحربيَّة إلى غزوات جنسيّة، وفيها أيضا تصبح الصدور قنابل، والعجيزات قواعد، وبيانات المعارك بيانات لفتح حصون الجسد، في مكر لغوي يُجسِّد مآلنا العربي الذي تقزَّمت أهدافه، وتهاوي انتصاراته لدرجة لم يَعُدْ لها وجود غير الذَّاكِرة والأغاني الوطنيِّة.

كما تصوِّر الرواية حالة القمع والحرمان السياسي في مقابل حالة الحرية اللاخلاقية (إن جاز الوصف)، وتلك الممارسات التي قامت بها أجهزة السلطة في التعقُّب والتجسُّس على المواطنين في مقابل إتاحة كافة الحريات لممارسة الرذيلة والشذوذ، وهو ما بدا واضحًا في مشاهد متفرقة على طول سرد الرواية، وهو ما أنبأ عن حالة التضخم التي عانت منها سلطة الرئيس، التي كادت أن تفرط في البطش لمجرد أمنية عابرة لطفل بأن يكون رئيسًا، فما تغافلت أو قصرت، رغم استحالة تحقُّق الأمر لجنسية الأب السُّوري، وأيضًا حالة العبث التي وصلت إليها أجهزته مِنْ سعيها لتجنيد المهدي ليكون عينها في المسجد، دون الأخذ بهويته الدينية المسيحية، لكن ما حال دون ذلك أن المهدي كان غارقًا في البحث عن مسيحه المُخَلِّص وكيفية العمل مع المارينز الأمريكي.

 (5)

هزائم السِّياسة وانتصارات الجسد.

خُدِعْنَا في الثَّوْرَةِ، لا يَجِبُ أنْ نُخْدَعَ في النِّسَاء’ (ص 178) عبارة شادي، في سياق رفضه بألا يدفع مالاً لامرأةٍ لينام معها، إلا أنها تعدُّ مُلخصًا لأزمة الشَّخصيات بكافة أطيافها، لذا فالعنوان الأبرز للرواية أنَّها عن هزائم الرِّجال في معاركهم الكبرى، ويأتي حضور الجسد هنا لا بكونه ترفًا أو وصفًا حِسّيًا إيروتيكيًا، وإنما هو انعكاسٌ لواقعٍ قَاهِرٍ تضافرت عوامل كثيرة في تجسيده، فقام أفراده بحيلٍ مُضادة لكسر القيود والتابوهات والمقدسات، بالتبذُّل والفجور تارةً، وبالهروب إلى الشاطئ الآخر من البحر تارةً ثانية. ولا تكتمل أزمة الشخصيات إلا بالخيانة التي تُشكِّل محورًا بارزًا في الرِّوَاية، وهو ما يدفعنا إلى القول بإن تبدُّد الأحلام، نتيجة طبيعية للخيانة، فضياع أحلام العودة إلى الأراضي الفلسطينية كان سببها الخيانة، أو ما أطلق عليه أبو شندي (حبف) أي حركة بيع فلسطين، وهزيمة العراق أمام جحافل الأمريكان جاءت بذات السبب كما يعلن مرارًا وتكرارًا أبو جعفر، مرورًا بأزمة نعيمة التي كان سببها خيانة أختها لها، بالزواج من حبيبها وسفرها بدلا منها إلى إيطاليا، لدرجة أنَّها ضاقت ذرعًا بكل ما يأتي من الخارج بما في ذلك الملابس المستوَّردة خشية أن تكون ارتدتها أختها. مرورًا بخيانات الفراش التي تتقاسمها درّة وألفة وحلومة، وألفة.

لا تنفصل شخصيات الرواية عن سياقاتها (السِّيَّاسيّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة) المُنْتَّجَة فيها، فجاءت إشكالية في بعضها عنيدة مُشَبَّعَة بالإصرار على مقاومة فداحة الواقع وابتذاذته كشخصيات (شادي / حبيبة / باربي / دُرَّة (في بعض جوانبها) / المهدي) وفي بعضها الآخر مريضة مشوَّهة خاوية من كُلِّ شيءٍ؛ المال والجنس والأمن والحب، لذا لم يشغلها سوى تحقيق المال وفقط، وفي سبيل ذلك تفعل الشخصيات أي شيء (للّا درَّة، كسوف وأحلام التي تجوب العالم إرضاءً لزبائنها، وغسَّان الذي يتحوَّل من ابن ثائر إلى خائن وفقًا لسياسة الواقع الجديد الذي قاعدته كما تقول نعيمة ‘الدُّنيَا مع الواقف’ (237) فبَحَثَ عن السلطة والمال، وكذلك مجيد وألفة. أما شخصيتا أبو شندي وأبو جعفر فكلتاهما شخصية ضد، فلم يفعلا شيئًا غير اجترار الذكريات والبكاء على مباهجها، وتشاطرهما في الضدية نعيمة التي استسلمت لواقعها بعد أن خذلها الأوروبي وسافر مع أختها، فينتهي بها الحال إلى شبه خادمة وممرضة لأبي جعفر، وقد تسربت أحلامها جميعًا ولم يبق إلا اصطياد أبي شندي.

(6)

في صمت تعود الحركة للمكان من جديد بعد تجديد المقهى وتُغْلق دائرة السّرد بنفس جملة الافتتاح ‘كُلّ شَيءٍ يَحْدثُ في الحَمَّامِ’ في إشارة إلى ديمومة الحياة دون توقفها وإلى بنية الرواية الدائرية، كما يضطلع بالسَّرد راوٍ غائب قريبٌ من الشِّخصيات يرصدُ كُلَّ شيءٍ، ويسمح لنفسه بالتدخُّل بالتعليق السَّاخر على الشخصية حينًا، وبالتعليقات والأوصاف الماكرة على الواقع تارة ثانية، كما يسمح لصورة المروي عليه بالحضور من خلال إشارات يوردها، كما هو الحال في التمهيد الذي يُفسِّرُ الأبواب. هكذا كان المقهى شاهدًا على ولادات قصص حب، وبدايات علاقات، كما كان شاهدًا على خيبات وانتكاسات. جميعها مع الأسف مصدرها واحد، عَطَب وتَكَلُّس سياسات فاشلة أورثت أجيالاً نفس العَطَبِ وتلك الهزائم. فهل نجونا أم صِرْنَا مجرد مُسوخٍ ننتظر مسيحنا المُخلِّص كما فعل المهدي؟!

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم