الخيال المتوحش و حدًّة الصراع في رواية: أحمر خفيف للروائي: وحيد الطويلة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فتحي عبد الله

إن تنوع السرد في هذه اللحظة الراهنة في مصر يعكس حدة الصراع و شموله بين فئات و شرائح المجتمع و يعكس كذلك درجات الوعي لدى الساردين و مدى إنحيازهم سواء كان هذا الإنحياز للحقيقة الإجتماعية ممثلة في أنماط المعيشة و العلاقات الحاكمة لسلوك الجماعة ، سواء بين الأفراد أو الطبقات أو بين المجتمع كله و الإدارة السياسية.

أما إذا كان الإنحياز للأنماط الوهمية و المتخيلة أو المرجو تحقيقها في المجتمع لتبرير الأداءات السياسية المتوحشة في الداخل أو للتوافق مع أنماط الرأسمالية العالمية في طورها الأخير كي تسهل للشركات العابرة للقومية دورها في خلق منظومة قيم جديدة تتناقض مع أنماط الإنتاج القديمة بكل ما تحمله من موروثات روحية و معرفية.

و هذان النمطان من السرد يسيطيران على الكتابة الروائية لأسباب كثيرة منها ان الرواية كجنس و نمط أداء قد أصبحت بفعل المتغيرات الإجتماعية التي حدثت في العالم أهم أجناس الكتابة و أكثرها فاعلية بما تملك من غواية أولا، و ثانيا لقدرتها في السيطرة على قطاعات كبيرة من جميع الطبقات فهي فن إستحواذ بإمتياز و سريع الإستهلاك و من هنا سعت كل القوى الاجتماعية بوعي أو بدون لإستخدامها في الصراع القائم بما يتناسب مع منظومتها الروحية و المعرفية لتحقيق الوجود و السيطرة.

و من أهم تمثيلات النمط الأول في مصر رواية “أحمر خفيف” للروائي “وحيد الطويلة” إذ أن المكان لا يمكن أن تقطع بواقعيته و لا يمكن أن يكون متخيلا كاملا فهو أقرب إلى المجتمعات البدائية ذات السلوك الانفعالي و الذي تحركة الغرائز الأساسية و مع ذلك يخضع لأليات الصراع التي تسيطر على الجماعات الحديثة، فهو واد على شكل مثلث أنشأه الخواجة الفرنسي الذي تخلف عن الحملة ، كما أن الزمن المختار للسرد يمثل ذروة اللحظات الحرجة في سلوك الجماعة البشرية و هي لحظة الإنتقال من الحياة إلى الموت و هي لحظة كاشفة لسلوك و إنفعالات الجماعة دون أقنعة أو تبريرات و هي تدفع الشخوص جميعهم إلى الفعل المناسب أو العضوي ، و من هنا تكون جميع الشخصيات أكثر إقترابا من حقيقتها الروائية و يبدو سلوكها و كأنه فطري و مرتبط بالروح الكبرى التي تسيطر على جميع الكائنات.

و لأن هذه الجماعة تعيش في واد اسطوري فإن قوى الطبيعة مازالت فاعلة و مشاركة في الحراك الإجتماعي ، مثل حركة الريح و إرتباطها بالموت و إنفعال الحيوان و النبات بالأحداث و مازالت علاقات القرابة هي الأساس في الإنفعال و السلوك و هي المحور المحرك للصراع خاصة في السيطرة على الجماعة و مازالت كل قيمات المجتمع البدائي هي الحاكمة مثل القوة و الشرف و العدالة و الشجاعة و ان بدرجات متفأوتة من شخصية إلى اخرى ، فالبطل “محروس” تبدو فيه هذه الصفات متجانسة و متكاملة بما يتناسب مع سلوك الجماعة و درجة تحضرها ، فهو شجاع دون اسراف أو ظلم و هو عادل و كريم مع كل الجماعة دون النظر إلى درجة القرابة و يعلي من قيمة الشرف أيا كانت الخسائر حتى لو كانت مشاعره في حالة واحدة دون تناسب إجتماعي مما يجعلها نمطا ، مخالفا فـ “ناصر” مفرط في استخدام القوة و الشجاعة مما حقق له نوعا من السيطرة و الحضور الطاغي إلا ان الجماعة لم تقبله فكان مصيره الهلاك و الفناء.

و كذلك “نشأت” صاحب الروح الصافية و الخالصة ، الضعيف، العاشق، إبن المرأه العاشقة الذي مارس أعمالا هامشية لم يمتلك القوة و الشجاعة لمواجهة المجتمع أو أمه و لم يكن امامه إلا الهروب و الإنسحاب من الصراع و ان ظل روحا تعأود الرجوع و المشاركة في الاحداث.

أما “غزلان-ام نشأت-” و “عزت” فقد أخلصا لرغبات الجسد دون النظر إلى أية قيم تحكم الجماعة فكانا تمثيلا للنزعات المادية الخالصة و لذلك فإن أدوارهما في الصراع كانت هامشية و غير مؤثرة و إن أظهرت تكامل الجماعة و إختلاف أفرادها مما يحقق نسبية الوجود الاجتماعي.

أما “ابو الليل” – أخو “محروس” –  المريض بالجزام و اللص فقد انفصل عن الجماعة و لم يمارس العمل طوال حياته و العلاقة الحاكمة بينه و بين المجتمع هي التنافر و النفي و الكراهية و لهذا فهو ينتقم ممن يعافونه و يقض مضاجعهم و هو لا يريد شيئا لنفسه فقد ترك كل شيء لاخوته و لا أحد يعرف أين هو و لا أين ينام فهو يمثّل المنبوذين إجتماعيا في الجماعة و هو دائم السخرية و التهكم مما يحدث و لذا فهو لا يشارك في الصراع و لا أمل له فهو لم يختبر مشاعره أو إنفعالاته و ان ظل وافيا للأرواح العالية أو للمنبوذين أمثاله سواء كان هذا النبذ بسبب مرض كالجزام أو لحالة عرقية مثل فرج ” – ابن العبد – أو لضعف و وضاعة الأصول الإجتماعية مثل “عزيزة العمشة،

و ان هذا المجتمع الهجين  الذي يمزج بين ما هو بدائي و بين ما هو حديث لا يمكن أن تخف حدة الصراع به و لا أن تنتقل السلطة فيه بشكل بسيط لابد من طقوس و أولها العنف أي القتل أو التدمير و هذا ما حدث للبطل رمز السلطة “محروس” ثم استخدام “الوصية” كأحد أشكال الأداء الروحي في نقل الرسالة الايدولوجية مثلما حدث في الفصل “3” “السر ليك يا عناني” فهناك روح رسولية حيث الرحلة و الهبوط و الصعود و مصاعب الطريق و التقلب بين الرجاء و الخوف و التماثل بين البشر ثم ظهور النور و تحميل الامانة “العهد يا سيدنا” ، و لكي تكتمل الأسطورة يبدو الوادي و كأنه مسحور كما يحدث في الحكايات الشعبية أو متشابه مع الحديقة التي وصفها “القرآن” في سورة “الكهف” منذ حدًّة “جيلفتي” الفرنساوي بالكافور و الجازوارين و دق أشجار الليمون و الجوافة و الريحان في جوفه و جعله واطئا ليسحب المياه فتبدو زراعته ملعلة وسط المنطقة.

و لهذا جاءت اللغة عنيفة و قوية و خالية من المصاحبات الأدائية الموروثة و ان اقتربت من لغة الشعر أي الوصول إلى جوهر الفعل الانساني لا استخدام المجازات و ان حدث ذلك فاللغة في الرواية لها مستويات متعددة و متداخلة و تخضع جميعها لرؤية الروائي و دورها في تنامي السرد فهي روحية و خفيفة عندما تتعلق الحطاية بـ “نشأت و فرج” و حسية و لذائزية و قريبة من الاستخدام اليومي اذا جار السرد بـ”عزت و غزلان” اشارية و حادة و قاطعة و تعتمد على ايحاءات الجماعة اذا كان البطل “محروس” هو الفاعل.

و اعتمد الروائي “وحيد الطويلة” في بناء الرواية على حدة [الحكاية] و توالدها و هي احدى سمات السرد الشعبي أو الخيال الجمعي كما تحقق في “ألف ليلة و ليلة” فكل حكاية مكتملة في ذاتها و تؤدي إلى الحكاية التي تليها ، و يجمع كل هذه الحكايات إطار عام أي رؤية الروائي التي توجه السرد خاصة في إنتاج المعنى و الدلالة و كل حكاية ترتبط بأحداث خاصة و تدور حول إحدى الشخصيات الروائية و من هنا فقد تحولت جميع الشخصيات إلى أبطال في الكتابة و ان ظلت حكاية “محروس” و بطولته هي الخيط الرفيع الذي يربط هذه الحكايات ببعضها

و هذا التقنية تحتاج أول ما تحتاج إلى الخيال الفطري، النقي، و المتوحش في الوقت نفسه، و تحتاج إلى خبرة انسانية رفيعة و دقيقة في التعرف على الشخوص و دوافعها الباطنية مهما كان سطحها الخارجي و تحتاج كذلك إلى وعي اجتماعي حاد يدرك تتطور مصائر الجماعة بكل تناقضاتها و تنوعها الانساني.

و للوصول إلى كل هذا لابد من استخدام لغة عضوية تعتمد بدرجة أو بأخرى على طقوسية الأداء و عنفه لتحقيق الوجودات المتنوعة في شكل إحتفالي كرنفالي، لا ينفي أحدا و لا يدمر المعنى و إنما يرسخه عبر أكثر من قناة أو طريقة و هذه الحالة التركيبية في إنتاج الدلالة النهائية للعمل تعكس روح الروائي المتجاوزة لفعل الكتابة نفسه و كأنها الحياة و كل هذه الرؤية لا يحققها إلا الخيال و الخيال فقط

ان هذا النمط من الكتابة يعيد الاعتبار للرواية كجنس أدبي في مصر و العالم العربي إذ اصبحت أكثر مجانية و مشاعية و صارت مجرد أداة لأداء أدوار أيدولوجية متنوعة دون كتابة حقيقية و لا رؤية متكاملة و إنما صارت نوعا من التدريب على الخروجات الدينية و السياسية التي تخدم جماعة بعينها.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم