مريم الساعدي
كان يأتي قبلها، وأحيانًا هي تأتِي قبله، تجده جالسًا في ركن قصيّ، يشرب قهوته، ما إن يراها مقبلة نحوه حتى ينهض بتثاقل مصطنع، وهو يبتسم، وما إن تلمحه حتى تبتسم، ابتسامتها كانت تضيء المطعم، كنا نشعر بذلك نحن السعاة، ننتظر لقاءهما الأسبوعي، أحيانًا يلتقيان أكثر من مرة في الأسبوع، في كل مرة نفرح لرؤيتهما، يشير أحدنا إلى الآخر: «ها قد أتى» ونعلم أنها آتية بعده، فننتظرها كما ينتظرها، ننتظر ابتسامتها لرؤيته، وابتسامته لرؤيتها، ونتجادل فيما بيننا: أي الابتسامتين أجمل؟ رأينا أزواجًا كثيرين، عشّاقًا في مراحل المحبة الأولى، لكن لم نرَ مثلهما، عرفنا منهما أن السّعادة تعني الحبّ، والحبّ لا يجب أن يكون إلا سعادة. يكون جالسًا وحده بكل همومه، تبدو همومه واضحة على ملامحه، يشاكسنا قليلاً وهو يطلب القهوة ومنفضة السجائر، لكن ما إن يراها مقبلة حتى تنقشع غمامة الهمّ عن وجهه، نحرص على التقاط تلك اللحظة، يصير وجهه سماءً صافية، ويضيء وجهها كشمس، ونقول بيننا: «يا الله.. كم نحتاج جميعًا للحبّ».
لو كنا نحمل في أيدينا أطباقًا نتحجج بأيّ شيء لنقف ونلمح مشهد لقائهما، وإشراقة وجهه قبل أن ننطلق لتلبية طلبات الزبائن الآخرين، الزبائن الآخرون نراهم كل يوم، لا شيء فيهم مختلف، منهمكون في الأكل والشرب والكلام، هم أناس قدماء على الحياة؛ كمن انتهى من دهشة اكتشاف مشاعر جديدة، عاشقانا كانا مختلفين، كفردين هبطا للتوّ من الفضاء، وصارت الأرض لهما اكتشافًا مدهشًا.
تُقبل نحوه بخفّة، يمدّ لها يده، فتصافحه، ويعانقها، لحظة العناق كانت سبقًا لمن يشهدها، من يشهد المشهد يحسّ بذراعيها تلتفّان حوله أيضًا، يشعر بأنفاسها تستريح على أنفاسه، يشعر بدفء حضنها، كانت تحتضنه كأنها تحتضن الأرض ومن عليها. «هذه البنت عاشقة حتى النهاية» كنا نقول لبعضنا، ونحن نبتسم بفرح ومحبة، وندرك أن الحبّ مفرح حتى لمن يتفرج عن بُعد.
كنا نحبهما، كانا لطيفين جدًّا، هو كان دومًا طيبًا ومتواضعًا وظريفًا وكريمًا في البقشيش، يشاكسنا ويلقي نكات مفاجئة نظنها جدية حتى ندرك من ضحكة فتاته أنه فقط يمزح، هي كانت تضحك من قلبها كثيرًا، حضورها تجسيد لمعنى الشخص السعيد. حين نقدم لها الشاي أو القهوة ترفع عينيها، وتقول للنادل وهي تنظر إلى عينيه: «شكرًا لك يا عزيزي» تقولها بحميمية لا نحسّها في الآخرين، الزبائن الآخرون غالبًا لا يرفعون رؤوسهم، إن قالوا: «شكرًا» فبخفوت ولا اهتمام، أو فقط هزّوا رؤوسهم، وكثيرون كانوا لا يعيروننا اهتمامًا، هي كانت تحرص في كلّ مرة أن ترفع عينيها، لتلتقي بعيني النادل منا، وتقول له بابتسامة دافئة تذيب جليد الأقطاب المتجمدة: «شكراً لك يا عزيزي»، بريق عينيها ساحر، كنا جميعًا نحبها، نحبّ إحساسها بنا، انتباهها لنا، وحرصها على قول كلمة «عزيزي» بعد كلّ «شكرًا لك» كان هذا أكثر شيء إنسانية يحدث لنا؛ نحن الندل البؤساء.
كانت جلستهما حيوية باعثة للمرح، يتحدثان كثيرًا، ويضحكان في انسجام نادر ما إن يطمئنا لمجلسهما في الركن المنزوي الهادئ، تتحرك شجيرة صغيرة بجانبهما مع النسائم، فيصبحان جزيرة وحدهما، يختفي العالم من حولهما، عيونهما تحيطهما بسياج عن عيون الآخرين، ولم يكونا يأبهان لأحد.
كنا نختلس النظر لمحياها من وقت لآخر، تظل مبتسمة، أو منصتة بجدية صنم لما يقوله، كانت تبدو حريصة جدًّا ألا تفقد كلمة مما يقول، تكون في منتهى التركيز وهو يتحدث، وكان يتحدث كثيرًا؛ ويحكي لها، كان يحكي لها كثيرًا، أشياء كثيرة كما يبدو، وكما يبدو كانت هي البحر الذي يصفّي أمامه روحه كلّ أسبوع، كان مجهدًا جدًّا ومحتاجًا لشاطئها، وكانت هناك له، تنبسط له مثل شاطئ شاسع، تلك البنت كانت تحبه، وكان هو محتاجًا لهذا الحبّ.
مرت أسابيع طويلة لم يظهرا، حتى جاءت مرة وحدها، ابتهجنا لمرآها، رحبنا بها، لكن كانت ترد باقتضاب، سارت محنية الرأس لأول طاولة خالية صادفتها، لم تخلع نظارتها السوداء، انتظرنا أن يأتي خلفها بعد قليل كي تبتهج وتضيء ابتسامتها المكان وقلوبنا، لكنها ظلّت هناك تجلس طويلاً وحدها، تطلب القهوة، فنجانًا تلو آخر، وفي كل مرة لم تكن ترفع رأسها لتقول شكرًا، كانت تتمتم فقط، أو تهز رأسها كأي زبون قديم هبط على الأرض منذ دهور، ويحيا فقط انتظارًا للحظة رحيله. تجرأ أحدنا وسألها عنه، رفعت رأسها وقالت بابتسامة باهتة: «لا أعرف».
رأيناه في مرات لاحقة، لكن بصحبة أشخاص آخرين، يجلسون حول طاولة كبيرة، يتحدثون بصخب في أمور عملية، ومشاريع يزمعون القيام بها، كما كنا نلتقط من أحاديثهم الطويلة؛ زملاء عمل ربما، بدا معهم رجلاً عاديًّا جدًّا، ولم نعد نميزه بين الأشخاص الجالسين حوله، ولم نعد ننتبه حين يدخل المطعم، ويخرج منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية إماراتية .. فصل من رواية “مملكة النحل في رأسي” لمريم الساعدي .. صادرة عن منشورات الاختلاف 2019