أحمد بوزيد
1
في أكلميم، يتفصد الجسد بالعرق حين تنزل الشمس حتى المنكبين، حارة كسكاكين الندم التي تنغرس في دواخلك، وحادة كخسران. ما ظفرت بالتمر اللذيذ المعلق في نخيل أم العشار،ولا أثر لماء البحيرة الممتد في خرائط لا توجد إلا في ذاكرتك، لك أن تعوم في أعماقك أيها الغريب، لكن وأنت تخب في أرض لاهبة، لك أن تحتاط فخلف المدينة واد صياد والوقت صيف، لك أن تحس الٱن بخيانة الدليل للمدلول، كأنما شبكتما الأصابع في حديقة وها قد نكث عهدا كان بينكما، لك أن تؤمن أخيرا باعتباطية العلاقة وترفع كأس شاي نخب دي سوسير، سيتعمق إحساسك حين تعبر الكورنيش، فلا يرشح المكان بالضباب الذي ألفت أن يصعد من المحيط، و لم تر صور القوارب والسفن الراسيات، وحدهم الصيادون يذرعون المكان، ما في يدهم صنارة، ما في يدهم شباك خضراء، فالعيون أجدى و أجل للظفر بما تشتهيه الروح، و الأرزاق قسمة و نصيب.
لا مناص لك سوى تأمل المشهد كله من ركن مقهى، تتبدى المدينة من خلف حجاب، من خلف الشال الصحراوي الأزرق الفاتح، فلا تكشف لك تفاصيلها، ولا تريك من مفاتنها غير المهمل، كأنها تعرف أنك مجرد عابر، ولا تغامر كي تمنحك ماءها الذي سيغريك بالمقام، يلفظك شارع طويل إلى شارع ٱخر طويل، كأنها يد المدينة تدفعك من الخلف، لأن قلبك عامر بالخيالات التي التقطها من تقييدات المستشرقين و كتب الرحالة في الزمن القديم، مأخوذ بما سمعت عنها من روايات و أحاديث. كنت لو نزعت عند الأعتاب خفي وهمك، كنت لو سلمت على رجال البلاد حين ولجت الباب،ما تعثرت بصورة الاسمنت ولرأيت السر و الثاوي و مددت يدك لبحر يطالع سواك من الجالسين، قرب ما لا ترى فيه غير خلاء قفر، غير أن عناية تلك التي تحيط بك كما تحيط الأرحام بالأجنة، و تلفك كما تلف الأم وليدها في قماش، تبسط لك الطريق، و تشق لك في البحر ممشى، و لك أن تهيم في دنيا الله الواسعة.
و انت ترنو إلى المشهد و تكتب نصك الأخير، تفكر في نيتشه الذي قال ويل لمن يريد امتلاك الصحراء، تشغلك ” ويل ” لوقت غير يسير، أهي صيغة تحذير أم نهر في الجحيم، ترجح الاحتمال الثاني، و تترمم الصورة من تلقاء ذاتها،قيح و نيران و ماء حار، جسدك منغرس في كبد الصورة، صراخك و أنت تلوح بيدين في الهواء لعل طيرا يسلك من الورطة، لعل ” ميتر ناجور” يتقدم إليك هبة من العلوي، ولا تفكر بعدها في الامتلاك حتى و إن عرفت أنها مجرد هواجس و أراجيف، لا تفكر في علاقة، ثم من يملك الجسارة ليمتلك الزئبق المنزلق في إناء عرافة، من يمتلك يدا بمكنتها أن تمسك المياه وهي تنسكب من بين فروج الأصابع،كي يمتلك اكلميم، حيث تقف سيارة ميرسيديس سوداء في منتصف الشارع لتعبر قافلة من جمال لا تتعجل السير، حيث يخفض سائق سيارة الأجرة الحمراء الصغيرة الموسيقى حين يسمع ٱذان الصلاة مستعيذا بالله من شر غاسق قد وقب، و يكف عن الكلام مع امرأة صعدت سيارته، للتو بعدما قالت إنها نسيت الوجهة، تلقف الإشارة، و كاد ينزلني في أول مكان لولا معرفتي اليسيرة بجغرافيا الفضاء، وحين انسحب صوت المؤذن و صورة الجامع إلى الخلف، استأنف الحديث، وحين غادرت دابته الحديدية، كان كمن تخلص من حصاة، من يجرؤ على امتلاك كل هذا الركام من التفاصيل الغامضة…
تأتيك الأصوات، الألسنة مروضة كأفعى في صندوق العيساوي، تنتقل من مجرى إلى مجرى، فلا تدخل الضيم، تفتتح الحديث و تسترسل حاكية عن أحوال الطقس وعن حرارة الضواحي، حتى يبدو لك الشرق كما لو أنه حمام، كلما توغلت فيه عبرت من حر لحر حتى أدركت بيت النار، و في الأعماق بدوي لا تخفيه أقنعة المدنية، متأهب دوما للرحيل. وماذا في أعماقك أنت يا من لا ينظر بحياد، ما الذي جاء بك إلى هاته المدينة، أهو نص قديم تحقق مخطوطته أقدامك و خطاك، دم قرابة و شوق وليد لجده و النظر في وجهه العزيز، أم أنك تبحث عن ورد الشوق الذي زرعه شاعر قبيلتك، دون أن يهتم لمن سيحصده حين يزهر، لا تجزم لكنك مثله تماما، تردد:
أواد نون أبوالصابة نكرز كيك أمارك
أكوكان نكرز وانا إيران مكرنك*
2
للأمكنة سلطتها، و البدوي حين يطلق التسميات، لا ينطق عن هوى، يسمي المدينة و القبر باسم واحد، فالألم معلم كبير خبره فعلمه الأسماء، و سكنه رهاب الأماكن الضيقة، حتى استحال شبيها بحكاية شفاهية لا تستقر على حال، تعبر من بلاد إلى بلاد، وتشرب من الخابية التي يغرسها القرويون الأمازيغ جنب الطريق تحت ظل شجرة، كأنها ترتوي من ماء المعنى الذي يديم وجودها.
و البدوي كائن مهجوس، قليل الكلام، مرتاب من الغريب، يمسك عصا الدنيا من الوسط، مولع بحكمة المنتصف، غير مكترث بالحزن الفائض و لا باللذة العارمة، يعرف أن الدنيا نهر لا يؤتمن على ظهره من امتطى قارب شهوته، ويعرف أن الأيام أشبه بأشواك الضرباء. استقرت قدماه لكن خاطره ما زال يسرح في أراض ممتدة، يرعى قطعانا غير مرئية، في حلمه أو في يقظته يعرف أن ذئبا نافرا قد يهم إلى دمها فتراه نائما في الظهيرة بنصف عين مغمضة، كما لو قط في سطوان، كأن ميراثه من الصحراء حذر مزمن، لم يعد يسكن الخيام، غير أنه يعبأ الأواني بالماء في الليل و يضعها قبالة النجوم كي تبرد و تطفأ نار الجوف، لم يعد يذرع الصحراء بحثا عن واحة خضراء غير أنه يمني نفسه بالمطر و حين يسقط تبتهج روحه، تخفف اليباس، فاضت المياه من الصنابير قادمة من سد بعيد، غير أنه عندما يسير ليلتقي ربه، تجده يبحث عن حصاة،ينقيها من الغبار بكم قميصه كي يتيمم بها قبل أن ييمم وجهه جهة القبلة، كمن ينهض في خياله شبه مستشرق غدوت حين اقتفيت أثر خطاه، متسقطا من صورته الغريب و من حكايته العجيب، يعرف ان أحوال البلاد ساءت، لكنه لا يعلق قميص الخطايا الدامي على أغصان النساء، للمطر فقط أن يهمي من السماء كي تتفرج المسارات.
تعثرت بصورة البدوي وأنا أبحث عن ورد الشوق الذي زرعه الشاعر الجوال في هذه الأرض، مثلما تعثرت بصورة الليل، لم يعد هناك الأحواش و الرقصات، و لم يعد أحد ينام في السطوح إتقاء حر الصيف، يسير الناس غادين و رائحين، لا يتهامسون، يتكلمون بصوت عال، و لا يأبهون لطول الطرق، وفي النافورة التي تطالعك في الشارع يعوم الأطفال.
الشباب في رصيف المقهى يتحدثون عن البحر و طقسه حالمين بحياة أخرى في تينيريفي أو لاس بالماس، على خلاف أجدادهم الذين يهتدون بالنجوم و الذين يتسقطون أخبار القوافل الراحلة إلى تومبوكتو، الذين يستكفون بأياديهم لرؤية البعيد و يشرئبون بأعناقهم للظفر بها كي ترافقهم إلى ربيع يلتمع في دواخلهم، على خلافهم، ترى أعناقهم منحنية كما لو مهزوم يقاد إلى مقصلة قائد من قياد الاستعمار، يتصفحون شاشة السمارت فون ليعرفوا علو الموج و سرعة الريح، تراهم يتحدثون في الهاتف عن قارب قد يغادر إفني أو الشاطئ الأبيض، يقضون سحابة يومهم في التفكير، و تكتب عيونهم قصائد من نظرات تهجو الزمن، تبدلت الأحوال، لكن البدوي مازال يمارس خلوته في غار الأعماق، أعماق الشيوخ و الصغار على السواء. تستهويك صورة الشباب، و تنسيك ظل البدوي لوقت قليل، و تسترسل في النظر، في مقهى قرب جامع المدينة يحكون عن أوجاع الوزرة البيضاء التي لفظتهم من مركز التكوين إلى قرى نائية في أيت باعمران او أيت رخا أو أيت وسى، وتذكرك أحاديثهم عن الجذاذات و عن وداعة المدير حين حدثهم في الهاتف ولمسوا في حديثه نبرة أب حنون، بما عشته قبل سنين، في نسخة قديمة لك صرمت جلدها في الطريق باكرا،يشع من عيونهم ضوء لم تعد تحضنه عيناك، أكنت تغبطهم أم أن نبرات أصواتهم تذكرك بخوف خرافي من السلطة ما زال يتدلى، الخوف الذي جعل أجدادك يتخيلون جدران “التابوت” أذانا تصغي لما يعتمل في أعماقهم،أم كنت تغبط الصغار في فصولهم من ذلك الحنان ومن تلك العنايةالتي ستحيطهم، الحنان الذي افتقدته في معلمي قريتك، أم كنت ترى في حركاتهم عنفوانا لم تصل معه الرحم منذ سنين، تباغتك حكايتهم عن جامعة أشبه بساحة حرب تطل على الأطلنتي، تذكرك بغزاة السواحل و الحصون و القلاع،وتتريث قليلا حتى تحيط بالصورة، تنصت لأصواتهم وهي تروي حروبهم الصغيرة،و لا لوم عليهم و لا عتاب ترميه على وجودهم البسيط، يختلفون بخصوص صورة الٱتي الذي يشتهون، تعاكسهم لتصون صورة وهمك أيضا، فالوهم كما الخيال ملح الحياة و الشراع الذي يكابر به الجسد ويمخر به وحل الوجود، حين تعرف أن حربا هناك كانت جذوتها أنثى وكانت الرغبة زيتها، تكتشف أن نار القبائل لم تخمد بعد، وحدها تحقن الدم في الديار، لتسير ٱمنا مطمئنا كما لو أنك في البلاد الحرام.
……………
* كاتب من المغرب