حسين عبد الرحيم
الرحلة 2
كان يردد في نفسه وهو مستمر في المشي ببطء ثم بعجلة ما ثم يندفع صوب مجهول لا يعلمه. سنوات طويلة مضت وقد تمكنت منه هذه الحالة. الخنقة، يتحسس عظام ظهر كفيه يرتعشان. ليس جديدا، قميصه يملؤه الهواء وقلب مكتوم وروح مشبعة بالهواء. عادت انسدادات فتحتي الأنف دون انسداد، هو لايكاد يسحب نفسه من أنفه عنوة ولسبب لايعلمه أيضاَ، يشعل سيجارة في الظلام وأخرى وثالثة وعاشرة له نصف ساعة يمشي بترو دون هدف معلوم لاينوي على شىء ما يعنيه رغم قبلته الأولى فور انصرافه من بار صديقه وقد شرب سيجارة ملفوفة، وحده رفض كأس الشيفاز حتى عندما أكد له الكابتن رامي أنه لايبطل الصلاة هو لايسكر لدرجة الغياب.
تبسم بجهامة ولم يضحك، هو يصلي منذ أن عقد قرانه واستسلامه لحالات قصوى من الخوف يخاف ممن يخطو خلفه فجأة ترهبه دقة كعوب الأحذية بشكل مفاجئ، محاولات قتله الأولى الفاشلة جاءت بتلك الطريقة تفعيل الحواس دون قصد، الالتفات والتحديق فالدوران في كافة معالم طريق السير والإطلال على بانوراما المكان مع الإنصات لدبة النملة لثمة حفيف، دفقة هواء، شيء ما يحط على كتفه حتى لو كان رمشة لطير ضل طريق عشه أو مختبئ في ظلام المدينة التي تنام وتصحو في الظلام وتحت ركام الضباب والسحب السوداء، هو مخنوق ولكنه قادر على الغناء وحده في البرد طالما أنه يتنفس من أنفه.
هو يتنفس من أنفه هذه الليلة دون لياليه الطويلة الماضية التي سيطرت فيها الخنقة على حواسه وصدره وحالته المزاجية المتقلبة في الغالب في لحظات معدودة تأتيه فكرة الموت فيضحك. الموت وحيدا، وهذا مالا يتمناه ويتمناه في آن. ويضحك في فضاء العدم بجانب رصيف مطعم البقلي في غمرة الأرض يكسوها تراب الخريف في آخر يوم.، نعم هو اليوم الأخير الخريف، مائة خريف ألف خريف.
يحن دائما للعباسية وتلك المرات الأولي لطرق عتبات السرايات وميلاد الرومانتيك، الحب الأول يأت خطفاً. في سراج نور وأصيص زرع أخضر نادي ترتجف الزهرة الباقية في حقول عباد الشمس و شراشف بونسيانة عفية نضرة و خيال ضوء أحمر يخلق صورة مخملية لامرأة من شمع وسخونة وثلج وحياة ورائحة عرق بالشيكولا ذائبة في مانجو حسي المشاعر هو وقتما دنا يتلمس ما تغويه به تحت الإبط وتلك الحشائش، تتلفت مختالة أمام صفحة المرآة المصقولة، تنسحب ستارة والضوء حفيف. على صوت القمر وهو لم يزل يتذكر ليلتهما الأخيرة منذ عقدين من الزمان بشارع دنش والمستشفي الإيطالي والمهندس خانة ولمحة من زمن بعيد منزل هالة فؤاد، صفاء عينيها السماء الشاسعة الصافية الواصلة لآخر الدنيا، الشارع، سرايات وجنائن. سكاكيني رضوان شكري…….دروب الخمرة والعتاقة والحنين واللوعة، رحيل الأستاذ، سرقه تابوته بعد تفتيش كفنه من قبل سلطات الدولة، وسان فنسان ذا بول.والميردي ديو وضحكة القصري. والحواجب الكثيفة لعبد البديع.وأنفاس الحشيش في غرب القشلاق وصورة منقوصة لرئيس معلق على حائط الصنن. وممثل أشعث الشعر بجلباب كستور مقلم بالطول ينصرف من مقهي التوربيني يخطف سندوتش فول من الاعتماد رغم كرهه للفول ليقبض على معدته. يكاد أن ينزع أحشاءه دون تردد، يتهيأ للتقيؤ فيسعل مخنوقا، الهواء بارد لايقتحم صدره العاري.
كاد أن يقبض على عروق رقبته بتلك الأصابع المرتعشه دائخ.وجائع وفي جيبه ثلاثة آلاف جنيه قبضهم من خمسة أماكن يمارس فيهم مهنة التصوير الفوتوغرافي. يحلم بفيلمه الأول عن المدينة.وتلك الفتاة التي تغازله من عل قبل محطة الدمرداش. وتهاجم أحلامه فيتذكر مرته الأولى لاقتحام المدينة والسير وحيدا في الخريف بشوارع العباسية باحثاً عن دلائل تشير لأمكنة الأستاذ فلا يعثر عن ثمة مريد ولا قارئ ولا كاتب، ليذهب لبار ليالي الجزيرة ويتوه برهة ثم يفيق. هو شبه مخدر وقد انتشي نسبيا بعد فتح العلبة الثانية وتناول واحدة أخرى ملفوفة بروية، تذكر تلك الممثل العظيم وهو يستند على جدران المعبد اليهودي في عدلي والذي مات بالسكتة القلبية بعدما ركب أوتوبيس 48 الليلي.
يسأل نفسه عن تلك الهواجس يحدق لساعة يده السويسرية والتي توقفت فجأة ليقرب عينيه من ميناء منير نافذا بغيظ للعقارب الواقفة على الستين ؟!!
يدور حول الكوبري الحديدي.يحاول الخروج من حالته وقد اقترب من كراسي البامبو قبل ميدان رمسيس ينظر للعربات التي تفر على الجسر المسفلت الجامع لثمة تراب على جانبيه فيضرب قدميه أمامه في الفراغ ليأخذه دوار مفاجئ،هو جائع. مسطول، لا، هو في قمة النشوة والهزال.
يطل للبعيد في لافتات النيون وعساكر بزي ميري مشبح. وشخص يخرج من عربة ميكروباص وينادي: هرم هرم هرم يابيه. ويرد السائق : “الهرم اتهد..؟!!”.
يتذكر زهدي عرفان الكاتب السينمائي التي اضطرته ظروفه القاهرة لترك عالم التمثيل وكتابة النقد السينمائي في جريدة الزمان بعدما فقد بصره في فيلم حربي عن النكسة يخايله ظل مخاتل. يتذكر يوم أن علم بموته وحيدا في منزله بالبساتين.والسطو المسلح الذي تعرض له، ولصوص بير أم سلطان ليلة أن كسروا عليه الباب فوجدوه شبه ميت فجردوه من ملابسه تاركين إياه بااللباس الداخلي شبه عاري مرتديا نظارته الكارتيير المذهبة.
الظل يتحرك في الميدان ونادل يركض صوب قاعدة التمثال وينادي شخص آخر يخرج من عربة ميكروباص : “رمسيس يا بيه”. يبول فوق جدار معتم مابين الوحل ورائحة الصنن وعساكر تحمل المخلل وزهدي: (شيع جثمانه في صمت بعدما ضاعت أمواله في شركة الريان). تنفرد صحيفة الجمهورية بالخبر بالبونط الاحمر في أقصى يسار الصفحة الأولى
ـ هرم هرم.، مفارق الفيوم، دهشور، معسكرك 3 ترحيل. الباب الحديد يا بيه ؟ !
ـ أيوة يا دفعة، مستجدين
ولم نزل في أول الطريق، ويرد سعيد السويسي، موعدنا في الحربي طالع من محطة مصر الساعة واحدة بعد منتصف الليل.
القطار يزعق وأشرف بيوض يشتري كتابين جديدين من مكتبة المحطة، يعبر تحت جرس قديم يلف في الفراغ بلا صوت فترى العناوين تحت الضوء الخافت، غريب في بلاد غريبة أرواح وأشباح، ورواية صادرة منذ يومين لمصطفى محمود:
ـ “المستحيل” يا أستاذ.
يسأل: بكم “المستحيل”
يبرز له ورقة نقدية من فئة الخمسين جديدة يرد إليه عشرون جنيها وستة المحطة شبه خالية إلا من بخار براد كبير نحاسي تفور فيه المياة ويتعالى البخار أعلى الدست، ليحركه النادل الساهر وقتما تفرغ عامل النصبة لكنس النشارة المبتلة، صعايدة وفلاحين بجلابيب وستر ميري وبناطيل كاوبوى وفانلات برقبة منكفئين على طاولات خشبية منصتين لوشيش الوابور وصوت الديزل يدوى في فضاءات الباب الحديد يعلن نهاية عصر التنوير من خلال ذكريات إذاعية.
تبث من راديو ترانزيستور يقربه الشحات فلللي من اذن عبده ركب السويسي، ينادون على بعضهم البعض، يهرولون قرب العربة الأولى للقطار الحربي.يسحب جريدة قديمة وقد أخرج سندوتش مخ يقترب من شبح الضوء الخافت تحت عامود الإنارة الصدئ.
يقرأ التاريخ فلايرى إلا العام 1986، وفاة المفكر والكاتب الكبير والمسرحي توفيق الحكيم، في تيار عبثي لاواع.
سعيد يدعك عينيه ويقول للويشى :هاكمل في القطار، ولذلك تعمدت ألا أستحم، هل تعلم ماهو موعد وصولنا للمعسكر. ليرد السامع : هو طالع على كينج مريوط عدل أم سيتوقف في دهشور.
ينظر نظرته الاخير من فوق الرصيف ليجد القطار وقد صفر بلا حراك حتي لاح الفجر فتراجع مرتجفاً يدنو من مقهى المحطة ويرقب فوار الماء المغلي والكراسي الخالية.
(2)
الرجرجة.
كنت أرى وحدتها في الصمت وهي تناجي القمر فتراني طفلا لينا غضا لبياض جسدي رائحة الشمع والبرد والمكوث.
تشير لرائحة الدخان المتسرسب في فضاء الليل.وتقول هذا فهمي وصورته ؟!!
..طيف من ذكرى عبور العقود الميتة من عمر سكان حارة المنزلاوي والذين لم يشغلهم إلا الترحاب بالعابرين ليل نهار لمقام البازات.
لحمة من جنة ونيس ووهج النار الخارج من جسد أم هاشم.لهيب وسعير مابعد العصاري.ما قبل الليل، واختفاء أطفال منتصف الليل خلف أجران القمح العامرة والدنيا شتاءً.وأثير ترانزيستور معلق في هواء الكراسته المفتوحة على شوارع خلفية.تلوح أبوابها تخور قبل المغيب، يتوالى منها الريح.الأب مسافر.وعبدالله العاجز تأخر قدومه النصف اسبوعي.أجران قمح تنفث ثمة روائح لدفء بعيد. أم حامد تتطلع للقش فوق البيوت.وصبايا يتجمعن في حوش بهية يتقافزن يلعبن الحجلة.وأخبار خفيفة.وإذاعة الجمهورية العربية المتحدة.، وأبيه غاب منذ ليلتين ؟!! وليأتي بعمه القادم إلينا بالبشارة. حرق المحصول.والموسم نفد.عيدان البوص ترمي أمام ناظري في مدخل بيت عبدالله السناري.وهي تمشي ببطء تتعمد الرجرجة وقت الخطو الخفيف حافية، على طريق حارة سعيد الترابي الداكن وبياض الربلة، وحمار الكعب.وشتائي الثالث.وفصل يلملم خرقة وكراسته في التعبير. وكشكول الفرنساوي وحصة بكره مع المسيو عبد العاطي شعير والهانم شام زوجته من أصلي تركي، وبلوك نوت لأبي وكارنية صغير بحجم كف يد لطفل نونو وآخر رمادي لشاب في العشرين يرتدي باريه جيشي ممهور بختم الدفاع الشعبي والصفة مراقب جوي، الزقازيق وسعادة ؟!!
28 ورقة مجلدة بدبوس أصفر،قزازوحاجيات، عجلة دائرة في الفراغ مصنوعة من أغطية الإسباتس الصفيح.تذاكر قطارات، كابون لنش مجلد نص نص،وبقج مبعثرة فوق سريرة النحاسي تتراءى لعينيه الشبه مغمضة كحبات عنب ذابلة، تضوي تحت الضوء الشاحب الزاحف من عامود قديم ووحيد يربط مدخل الحارة بسكة نوفل المراكبي، وصورة تهتز على جدار للمهندس سعد بزي ميري لابد على ربوة منسية.وتلة في آخر الشارع تعثرت بها قدمي يوم أن جئنا أول مرة لهذا المكان، وقدوم الرمد وجفاف حلق جدتي من طول المشوار.كاالأعشى كان يسير شبه مترنحا في يد الخال وصوت الأغان ومارشات الهزيمة تزعج حسن الوابوروالريس أنور البمبوطي.رأيته يصرخ ونحن نفارق المناخ على وقع راجمات صواريخ لا أعي قبلتها ولا طريقا بين لفرارها.وطيف رمانتيها يغني تحت الكلوب السارج وسارح ضياءة لحد عيني العليلة،مدد يابازات يقولها أحمد البنهاوي، وقت أن استكملت سامية رسم خارطة الملاءة الوردية. بالكانفاة وظلال قلم رصاص وطرف مقص نحاسي تبرق بعينيها السوداوين في وجه أم حلبي مرددة.
ـ ممكن بكرة ننتهى منه ونقص الورد المبرقش من فستانك الغزاوي الأحمر القديم.قرآن يتلى “والتين والزيتون وطور…….”في مفارقة العشاء وثمة هسهسة في غيطان بعيدة وكل الإناث في الديار فرشن الاكلمة قرب منافذ الرياح المفتوحة على دلتا النيل.
صراخ مباغت سبق صوت القطار التي ينصت إليه بخوف كل ليلة قبل هروبه من ظلاله تحت كليم بني اللون.ممددا بلا نوم حتى سريان الليل
بساعات.صداع في الدماغ وأصابعي بكفي تقبض على رأسي بأذنيّ.