كنت بدأت قراءة رواية نجيب محفوظ ” قلب الليل “، وعزَّ عليَّ أن أتركها، فقلت بزهق:
ــ وهو صغير علشان تخافي عليه من الضلمة. ما دلوقتي يجي!
ــ بطل قلة أدب. أبوك ما بيتأخرش لبعد المغرب. روح شوفه.
لا مفر إذن من قلب الرواية مؤقتا على الصفحة التي أقرأها:
ــ حاضر ياستي. حاضر. قايم خلاص.
من بعيد رأيتُ أبي جالسا على الكرسي فوق الرصيف أمام دكانه المظلم؛ لأنه لم يُدخل الكهرباء إلى الدكان حتى الآن. كان يحمل ذقنه على كفه متكئا بكوعه على ذراع الكرسي، وبمجرد أن اقتربت منه حدق فيَّ بثقة من يعرف ما الذي أتى بي. وبادرته قائلا:
ــ إيه ما جيتش ليه؟ أمي قلقانة عليك.
بصَّ لي بابتسامته الرائقة، وقال بهدوء وتصميم:
ــ ما جيتش، ومش جاي دلوقتي.
عانق وميض الدهشة وجهي المبتسم في قلق، وقلت:
ــ ليه التصميم ده طيب؟
اعتدل أبي في جلسته، وقال:
ــ من ساعة ما فتحت الدكان الصبح، ولحد دلوقتي مفيش حد قال لي السلام عليكم ولو بقرش صاغ!
قلت، وقد أورقت الدهشة على ملامحي الذابلة:
ــ طب وإيه يعني؟
ــ إيه يعني دي عندك انت. أما عندي أنا، فطالما فتحت دكاني، يبقى ليَّ رزق ح يجي وأنا بقى مستنيه!
كان أبي يدعوني زنديقا خاصة عندما أجادله في بعض عاداته ومسلماته الدينية. وكثيرا ما كان يمازحني بخشيته على نفسه من دخول النار، لأنه يربي في بيته كافرا مثلي! وكان يعلم جيدا أنني لا أقبل شيئا لا يقبله عقلي أيا كان مصدره. ولذلك قررت أن أسليه بأن أتزندق قليلا معه، وقلت:
ـ طيب افرض ربنا شايل لك رزق النهارده مع رزق بكره، وح يعطيك الاتنين مع بعض جملة.
فقاطعني قائلا:
ــ ما دمت فتحت الدكان وسعيت لازم يكون فيه رزق.
أعدت فكرتي عليه بصيغة أخرى:
ــ افرض، افرض يعني، مجرد فرض. إن مفيش لك رزق النهارده. ح تفضل قاعد كده طول الليل؟
فتح يديه في الهواء ملوحا باستنكار، وهتف بفزع:
ــ مفيش رزق ازاي! أنا مش منقول من هنا إلا لما يجي رزقي حتى لو ح ابات على الرصيف!
الفكرة التي تدور في رأسي الآن، هي أن هذا الرجل الذي أسلم دماغه للشعراوي، ومن قبله للشيخ عز الدين فريد خطيب مسجد الجمعية الشرعية، لن تقدر عليه، فاتركه لنفسه.
ــ يعني ايه؟ ح تفضل قاعد كده.
ــ أيوه، ح أفضل قاعد كده. روح انت وقول لأمك ما تقلقش.
أخبرت أمي بإصرار أبي على انتظار رزقه، فلم تزد على أن دعت له، وسلمت الأمر لله. بينما عدتُ للاندماج في ” قلب الليل ” التي اشتريتها من يومين فقط. وبعد ساعتين تقريبا، سمعت صوت أبي يتساءل في مدخل البيت:
ــ فين الأستاذ؟
طبعا يقصدني، فلم يكن في البيت أستاذ غيري، فعلى الرغم من أنني مازلت في السنة الأولى الجامعية. لكن فرحة الرجل الذي لا يفك الخط، بأنه علَّم ابنه الوحيد حتى أوصله إلى الجامعة، جعلته يناديني دائما بالأستاذ: الأستاذ جاء، الأستاذ خرج، الأستاذ نام، الأستاذ أكل، الأستاذ شرب، حتى وهو يسخر من تصرفاتي البغيضة، أيضا كنت الأستاذ!
ومن باب البيت إلى باب غرفتي اتجه مباشرة نحوي:
ــ يا أستاذ، يا أستاذ …
وقبل أنهض من كرسي المكتب، فتح باب الغرفة، ليقف أمامي حاضنا بذراعه اليسرى لفتين من ورق على هيئة قرطاسين يضمهما إلى صدره، وفي يده اليمنى لفة ورق أخرى على هيئة صُرة. القرطاسان فيهما يوسفي وبرتقال أبو صرة، أما اللفة فمحشوة بالعجوة.
أفرغ يده اليمني من لفة العجوة بوضعها على المكتب، ثم دس يده في جيب جلبابه، وأخرج كَومة فلوس ورقية وضعها أمامي إلى جوار لفة العجوة، وهو يقول:
خُدْ.
عِدْ.
وقل لي كام.
تقاطرت الكلمات متأرجحة بين شفتيه، فأدركت ما ينتظرني من سخريته، وشعرت بأن أفكاري تتعرق أمام يقينه الفطري، وعددت الفلوس فطلعت سبعة عشر جنيها وعشرين قرشا. وقلت مناورا ألملم ارتباكي:
ــ كويس.. لكن ايه اللي حصل؟
فقال بنشوة المنتصر:
ــ انت مشيت من هنا وأنا فضلت قاعد. ومرت ساعة وأنا قاعد، ثم بدأ الشيطان يوسوس لي: “مش جايز يكون الزنديق ده كلامه صحيح، ورزق النهارده متشال مع رزق بكره، والدنيا برد“.
في اللحظة التي نهض فيها أبي من الكرسي ليجذب باب الدكان الصاج المُضَلَّع ليغلقه. امتلأت نفسه بالأسي لأن زنديقا مثلي سيكون على حق. لكنه بمجرد أن أمسك الباب وهمَّ بجذبه لأسفل، سمع صوتا ينادي من خلفه:
” يا اسطى حسين.. يا اسطى حسين ”
ترك أبي الباب والتفت وراءه، فإذا بأحدهم ينزل من سيارة توقفت أمام الدكان قائلا:
ــ الحمد لله أنى حصلتك. طول السكة وأنا باقول للسواق يسرع شوية علشان الحقك.
كان الرجل بقالا في إحدى القرى المجاورة لبلدتنا، وطلب من أبي أن يصنع له ” طُلُمْبَةً ” من الزنك لاستخراج الزيت من البراميل. فطلب أبي فيها أربعين جنيها، أعطاه الرجل منها عشرينا كعربون، والباقي عند الاستلام، وعاد إلى السيارة.
أما أبي فشد الباب مَجْبُورا يَسْبَح في حبوره ورضاه، وفي طريقه إلى البيت فكر أن يمر على الفاكهاني، وأن يلقنني الدرس هاتفا منتشيا:
ــ ازيك بقى!