لا يزال رغم ما يعرف يسمع أكثر مما يتكلم.
عرفته لما جاء مع إبراهيم عيسى لمقر جريدة الدستور في إصدارها الأول، كان عائداً لتوه من سلطنة عمان التي عاش فيها فترات مختلفة من حياته.
وعمل معنا في الجريدة التي تركناها معاً إلى “الأهرام” وكنت ولا أزال أحب تحقيقاته الصحفية الأدبية المكتوبة بمزاج يقارب المزاج الذي كانت تكتب به تحقيقات مجلة “صباح الخير” في الستينيات، حيث يصلح كل تحقيق صحفي لأن يكون نصاً أدبياً فريداً يؤسس لكتابة تستعصي على التصنيف، هي كتابة على الحافة لا تتخلى أبداً عما في الأدب من طلاوة.
في أول حوار معه كان من السهل جداً اكتشاف ولعه بالرواية، لأن في روحه عناية فائقة بالتفاصيل وإنصات للداخل والخارج مع حس شعري بالعالم يتغذى مع إيمانه الدائم بحاجة الروائي لقراءة الشعر ليبني علاقة مع اللغة التي يمنحها الشعر” فتنة ” تبدو ناقصة في السرد.
أهداني في اليوم الأول لتعارفنا مجموعته القصصية الأولى “باتجاه المآقي” و لم أحب اسمها، شعرت أنه اسم “متثاقف” كأسماء داووين شعراء السبعينيات، وبسبب التقدير الخاص الذي كنت أحمله لدار شرقيات التي أصدرت المجموعة بقيت أقرأ فيها طوال الليل إلى أن وصلت لقصة جميلة لا أزال أحبها اسمها “قمر” أقرب لمناجاة ليلية على سطح منزل تكشف عن العوالم التي بقي فرغلي منشغلا بها إلى اليوم وتقوم على مزج بين الاويروتيكي والفانتازي المولع بالأساطير التي تربت مع مخيلته التي تركت فيها البيئة العمانية أثرا يسهل اكتشافه من قراءة أعماله التي تفسح مجالاً واسعاً لعمل الحواس وخاصة في “كهف الفراشات” التي لم تقرأ جيدا إلى الآن .
لا يمكن اعتبار كتابة فرغلي “غرائبية” بالكامل، لأن حصرها في هذا الأطار تعسف لا يليق بطموحها في عبور المسافة وعدم تقديس الشكل.
على الصعيد الشخصي أحب في صداقتنا ارتكازها على شيء من “الأمان التاريخي” أو “العمق” الذي ينجو بها من الأزمات ، حتى في المرات التي اختلفنا فيها كان من السهل أن نستأنف من جديد.
كل أسباب الخلاف اعتبرناها “عابرة ” ، واستطاع ابراهيم بشيء من الحكمة أن يزيحها لنستمر ونستثمر في ماضي أيامنا الممتلئ بتفاصيل تزدهر دون كلل.
ثمنت في سلوكه تعامله الفريد مع خلاف كان قد نشب بيينا في العمل، كنت قد غادرت القاهرة لنحو عام ونصف أرسل لي خلالها العديد من رسائل البريد الإلكتروني التي كان يطمئن فيها على أحوالي وينقل لي أحواله وكنت أرد عليها جميعاً، حين عدت للقاهرة كان قرر السفر مجدداً وفي شهور إقامته الاولى بالكويت زرته هناك ولم تكن خلافتنا قد انتهت إلا أنه جاءني بسيارته وظل معي إلى أن غادرت مستعيداً الصديق الذي أحبه وبفضله صارت الكويت بلدا قريبا من القلب حيث أصبح بيته ووقته لي خالصين. وصارت “السهرة في بيته ” ووسط عائلته الحدث الأهم الذي لا يمكن مقاومته.
في أيامنا الأولى، كان يسكن في المنيل ولم تكن له شلة كبيرة باستثناء صداقات أيام عمله الأولى في روز اليوسف، وكانت في أغلبها محكومة بالعمل الصحافي أكثر من أي شيء، كنت وأنا القاهري الذي يعرف مدينته جيدا أطوف معه في سياراته كل الاحياء التي لا يعرفها، أعينه على تلمس المدينة وامتلاك مفاتيحها، نذهب معا لكل الأماكن التي فاته أن يعرفها في مراهقته بسبب السنوات الطويلة التي عاشها في الخارج، حتى الأغاني التي لم تمر عليها ذاكرته صدحت في سيارته التي لا أنساها ال “بيجو” الخضراء التي نالها من والده قبل ان تظهر ال”سوزوكي” الخفيفة التي كانت تشكو من المشاوير التي نقطعها كل يوم لنوسع من دوائرنا المشتركة، من اكتوبر، للمعادي، للزمالك، لوسط البلد عرفني بأصدقائه وعرفته بأصدقائي وصرنا أطرافاً في دوائر من صداقات لا تنتهي.
بيننا حكايات بدأت في “جاليريهات الزمالك” واكتملت في صالة التحرير بالأهرام العربي أو كافتيريات الأهرام، و بسبب مزاجه الذي تكون في الخليج أبدى نفوراً من مقاهي وسط البلد التي أحبها وظل مخلصاً لنمط “المقاهي الأمريكية ” المكيفة التي تقدم “الاكسبرسو” التي تشكل علامة مهمة في تفاصيل يومياته، مثلها مثل قيلولته التي تألقت خلال عمله في الكويت وهي علامات لا يقبل التضحية بها أبداً، مثلما لا يضحي بالأوقات التي يعطيها للكتابة وفي هذا الفعل يبدو “محفوظياً” أيضاً.
يجلس أمام الكومبيوتر بالساعات في انتظار سطر واحد، يفعل ذلك بدأب ومن دون تردد، صار محترفاً في قدرته على احترام وقت الكتابة.
اليوم وأنا اتصفح رواية إبراهيم فرغلي الجديدة “معبد أنامل الحرير” أفهم أكثر انحيازه لهذه الكتابة الضخمة كابن مخلص لنجيب محفوظ، المعماري الفذ في قدرته تأمل الزمن دون أن يتصالح معه، وأتذكر أنني حين قرأت روايته الفاتنة “أبناء الجبلاوي” عرفت أنه وقع على عالم لن يتخلص منه بسهولة، يقوم على شيء من إعادة “الفك” والتركيب.
عرف فرغلي نجيب محفوظ بتوجيه من والده الذي أرشده إليه وظل صديقه الوحيد، لكنه لما عرف يوسف إدريس لم تتهدد صداقته بكاتبه المفضل ولم تهتز لأنها اكتسبت جرأة ونزقاً كان بحاجة إليهما ليكتسب شجاعة هز ثوابت طبقته الوسطى ونزع أقنعتها وخدش أناقتها بأسلوبية فذة تسمو ب” الايروتيكا ” وتنتقل بها إلى ممارسة ليست بعيدة عما تحدثه الممارسة الصوفية في قدرتها على مزج انشغالات الجسد بقلق الارواح، القلق الذي يصاحبه أبداً دون أن يسرق ابتسامته او يخطف منها الإيمان بالطمأنينة .