“يجرى في ملابسه كالضليل” لحسين عبد الرحيم.. إبداع يولد من رحم المعاناة  

يجري في ملابسه كالضليل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد محمد زايد

1

الإبداع الحقيقى هو نتاج تجارب حياتية معاشة بكل مافيها من أحداث متنوعة بمذاقها المتنوع من حلوها ومرها وما طعم مرارتها إلا جمال الدلالات الدرامية والحكايا التى تمس أوتار القلوب وكل ماتمتلكه النفس البشرية من أدوات الشعور والإحساس، وهو ما نراه بوضوح في مجموعة “يجري في ملابسه كالضليل” للكاتب حسين عبد الرحيم.

وقد لمست ذلك جيدا فى البانوراما الدرامية فى قصة “خمسة وستون عاما” التى تحمل عنوان المجموعه تلميحا وتصريحا، ومن خلال هذه القصة المعبأة بالأحداث التى أسوق البعض منها على سبيل المثال لا الحصر، يقول الكاتب “عُمْرٌ حقيقي عشتُه، أنا وأشقاء طالتهم نفس السموم المهلكة، عندما بدأ أبي الهالك فرض سطوة الغشم على عالمنا. كان فقيرا عفيا، ذات يومٍ، أفقدني الذاكرة، دون أن يقصد. دعاني للاندفاع لأسابق الأيام. عندما دفعني ببوز حذائه في رأسي، وُلِدت أشباحٌ تخاف ظلي وجهامة شقيقي الأكبر الطائش. وقت أن كنتُ طفلا يحلم بأن يغيّر العالم، بأن ينير عامودا واحدا في بلاد الهجرة”.

ويلى ذلك قوله في نفس القصة: “أبي جعلني أمضي عمره كله وحدي، أجري في ملابسي. مرة في بنطلون وأخرى في جلباب. كالضليل مقطوع الطرف، يخبئ وجهه من عفاريت العتمة، وحبيبات مراهقات يلطمهن الهوى ووجع البعاد وقت الغروب فتتبدد أحلامهن بالأمومة. تأتي الاستجابة من الرب في صورة دخان”.

وقوله في القصة ذاتها “عمر ضائع، يراقب مستنسخات تفاصيله في الداخل والخارج على وجوه إخوته العشرة، وقد لاذوا بالفرار. في طرق الغمام والأمثلة كثيرة ومتعددة جملة وتفصيلا وما هي إلا صرخات وأنات وعبرات جافة، تعلقت كقناديل سوداء فى فضاءات الذاكرة”.               

2

واذا مانظرنا إلى أدوات الكاتب الإبداعية، نجد أمامنا كاتيا محترفا من خلال ما يمتلكه من أدوات، أولها اللغة المستخدمة وهى أكثر الأدوات حكما على جودة وتميز عمل ما على غيره، لأنها هى الوعاء والإطار الذى يحمل بين طياته كل الادوات والمهارات

 والتقنيات الفنية إلى الجمهور، ويطرحه على الساحه الادبيه متاح للجميع واللغه المستخدمه فى “يجرى فى ملابسه كالضليل” هى لغه عربيه فصيحه اتخذت لنفسها مسلكا يميزها ليس بينها وبين غيرها تشابه او اقتباس لها رؤيتها ونظرتها للمواقف والاحداث تحمل الكثير والكثير من التراكيب اللغويه المبتكره المطعمه بلغة الفلاسفه ساذكر بعضا منها على سبيل المثال والدهشه والاعجاب بها ومنها   الرجلُ الذي خاصم أهل الأرض بمداومة النظر إليهم صامتا من قصة يصعد كل ليله الى السماء حيث فلسفت هذه التركيبه اللغويه صمت هذا الرجل ايا كانت اسبابه بخصامه لاهل الأرض،وها نحن كلنا منتظرون طرح الريح الذي لا يأتي إلا بصدى كلاكسات عربات النقل التي تتجه ليلا صوب بلاد البحر من قصة خمسه وستون عاما ,,,,  هل رأيت الفجر يمشي في الغمام بصحبة المهاجر وحيدا في بلاد ابن لقمان والذي أتي محشورا بين سرير قديم ودولاب فارغ إلا من صور الجد والجدة قبل أن يودعوهما في قطار قبلى من قصة خمسه وستون عاما ايضا  وكأن حالة اللايقين،

 أو اليقين المراوغ، كانت واضحة تصبغ كل مشهد، بل كل لقطة في الفيلم. إلا أن مشهد النهاية كان أكثر من رائع. فقد تماهى مع ذاتي كثيرا من قصة عمرالحمزاوى ـ الفيلم واكل حته من روحي يا أستاذ ايضا من قصه عمر الحمزاوى ـ  صفحة النيل تطفح بالسواد، لم يكن الماء أبيض، لم يكن النيل نجاشيا، لم يعد صريحاً. طريد أنا، مستسلم لسيرتي وذكرياتي وهواجسي وتقلباتي وتناقضاتي

3

في أمكنتي وكافة حوادثي في الزمان والعديد من الأمكنة. كم عدد محطاتك؟ عشرون عاماً فى بورسعيد وثلاثة وعشرون في القاهرة. فأي سيرة ستكتب؟  من قصة عمر الحمزاوى اصلا لطبيعة الحكى السينمائى المتعدد المشاهد وهكذا كانت تراكيب اللغه فى ماذكر من قصص فى اطلالتى هذه          

ثانيا ( المكانيه القصصيه ) وهى من الادوات الهامه ايضا باعتبارها مسرح الاحداث والشاهد على  

المشاهد   والمكان فى هذه المجموعه القصصيه كثيف لدرجه كبيره مناسبه لاحداث وشخوص قصص المجموعه وبجانب ثراء المحتوى المكانى نجد ثراء لكل مكان من حيث المكانه والاهميه ومن الاماكن

ماهو خيالى مثل الصعود للسماء ومنها ماهو واقعى مثل سطح البيت القديم – فراش السرير العلوى – المنصوره – الجماليه – سوهاج – المنيا – فاقوس – حى الزمالك – امريكا – اسكندريه – البحر – كورنيش العجوزه – مسرح البالون – مستشفى احمد ماهر – ساقية الصاوى – القاهره – مقابر الاقباط الكاثوليك والارثوذوكس – العباسيه – المستشفى الايطالى – المهندس خانه – الهرم – منطقة البساتين الخ الخ كل هذا الزخم المكانى بتنوعاته المهنيه والثقافيه ادى الى رسم بيانى للحركه والديناميكيه داخل كل عمل قصصى وفتح الباب على مصراعيه للتفاعل مع قصص هذه المجموعه وتعاطيها الواحده تلو الاخرى من فرط المتعه والاثاره وخلق حاله من الخيال الرحيب لملئ كل الفراغات                 

ثالثا ( المحتوى الزمانى ) والمقصود به الازمنه المتعدده لوقوع الاحداث وهى هنا لاتقل اهميه عن المحتوى المكانى ونراها ايضا ثريه داخل قصص المجموعه واذكر منها قوله  حدّثني قبل الفجر ( زمن ) منذ أن كنت في السابعة من عمري.  ( زمن )   وبحر أبو جريشة يتجلي قرب آذان المغرب

4

(زمن )  والليل يزحف  (زمن )  ولكني أريد دخول أبو تشت قبل انتصاف الليل. (زمن )  ثم يلاحظ أن جهاز التكييف يعمل ليل نهار منذ أن دخل الشقة عائدا من السفر. (زمن )   ما بين الماضي والمستقبل (زمن مستديم ) والى هنا اكتفى بالاشاره الى المحتوى الزمانى الذى ورد فى سياق قصص المجموعه تصريحا وتلميحا تارة بقوله قبل الفجر او عند اذان المغرب او عند انتصاف الليل الى ان جاء بثلاث كلمات ادت الى استدامة الزمن فى قوله مابين الماضى والمستقبل وهى اشمل واعم من قوله يعمل ليل نهار الامر الذى ادى الى طزاجة الاحداث     

رابعا ( شخوص العمل ) وهم الاشخاص الفاعلين فى الحدث وبدونهم لايكون هناك اصل للحكايا وعليهم وطبقا لادوارهم ياتى البناء النصى والقولى والمكون الدرامى المرئى والمحسوس بالنظر وبالخيال معا واذكر من شخوص العمل على سبيل المثال لا الحصر سائق البيجو المسطول – يوسف – بحر أبو جريشة – حسنين جلابيه العتال –  عرفان الجمال – حسن كبريت –  عمر الحمزاوى –  حسام الدين صاصا – احمد عبد الوهاب – ام صابر السيد الرحيمى – 

عيسى الدباغ – علد الله العاجز – عبد العاطى شعير – الهانم شام –  والى هنا اكتفى بما ذكرته من شخوص بمختلف تشكيلاتهم الجسمانيه والمهنيه وافكارهم وثقافتهم ومكانتهم المجتمعيه واذا كانت هذه الشخوص المعلنه فهناك ايضا الشخوص المسكوت عنهم وهم فاعلون ايضا فى الحركه القصصيه داخل النصوص منهن النساء المنفلتات بالبارات وصالات الديسكو ومنهم من هو يمارس عمله فى المستشفيات ومشرحة الموتى ومنهم سائقى الميكروباس والتريلات  ومنهم كتاب وادباء ومخرجين مسرح وسينما الخ وهم كشريحه مجتمعيه تمثل مجتمع باسره بما فيهم المهمشين والمقبورين على الحياه  

5

خامسا ( البنويه القصصيه ) وهى تعنى المكونات الدراميه للحدث القصصى  ومن واقع ماقرات من قصص هذه المجموعه استطيع القول ان هناك ثمة تميز فى بلورة الحكى على هيئة شطرات دراميه كل شطره منها تستطيع بمفردها او دمجها مع غيرها بصناعة مشهد درامى وان شئت قل مسلسل حلقاته متصله او منفصله حسب مسلسل الحكى وتسلسله فى الاحداث واذكر ايضا بعض الدلالات التى اراها

تتفق مع قرائتى لقصص المجموعه ومنها على سبيل المثال لا الحصر .. فى اولى قصص المجموعه يقول واضح ان العمر اتسرق .. فرغم الرجوع للبلاد لم ينته الترحال ..هل ترى اباك المعلق بين السماء والارض .. ففى هذا المشهد المركب الذى تشكل من ثلاث جمل استطاع الكاتب ان يبنى ويشيد مشهده الدرامى فى مقولته واضح ان العمر اتسرق وهذه الجمله القصصيه مكونه من اربعة كلمات ولكن دلالات المشهديه متعدده فعندما يتبع هذه الجمله جمله اخرى وهو يقول لنفسه مفسرا جملته الاولى ومفسرا فيما ضاع العمر واتسرق حين يقول قلت لنفسى فرغم الرجوع للبلاد لم ينته الترحال .. اى ان سرقة العمر كان نتيجة الترحال والاسفار بلا طائل اى بلا محصله ثم ينهى مشهديته بتساؤل فى قوله هل ترى اباك المعلق بين السماء والارض .. وهذا التساؤل يتناص مع المثل الشعبى القائل زى اللى رقصت على السلم لا اللى تحت شافوها ولا اللى فوق شافوها وهنا تكتمل دائرة مشهد درامى اعتبره بمثابة قصه تحتاج سيناريست ومخرج لعمل سهره دراميه من مجرد ثلاث جمل قصصيه بما تحتوى من

  صرخات وندم على العمر الضائع بلا جدوى واستمرارية الترحال بما يحمله من مفردات الغربه والتوهه الخ الخ

وفى قصه اخرى وهى قصة ليال عشر اختص المقدمه بمفتتح يقول فيه ..هو ليس بفاقد الذاكره .. ولا ضد مشيئة الرب ..كل مايهمه وقت خروجه كانت راسه .. تلك التى تساقط الشعر منها حتى تعرى نصفها

6

او كاد .. له ليال عشر يحاول النوم .. ليتوقف عند سنواته الاخيره التى انقضت فى لمح البصر .. وكان احدا غيره هو من كان يتلبس جسده وعقله واتوقف فاحصا ومتاملا هذا المفتتح وهو ايضا يشى بسرقة عمر هذا الذى تساقط شعره رغم انه ليس فاقد الذاكره او مغيب او حتى معترض على مشيئة الرب واقداره وما كتب عليه ولكنه يحاول النوم خلال عشر ايام متواصله هروبا من الواقع ليتوقف مليا امام سنواته الاخيره التى انفلتت من بين اصابعه دون ان يدرى رغم وعيه الكامل وكان عقله وجسده كانتا فى اعاره خارجيه لشخص اخر والامثله والدلالات كثيره ولكنى اضطررت للايجاز لافساح المجال لغيرى من المتحدثين                     

 سادسا الحاله الفسيولوجيه للمجموعه او بالاحرى للكاتب او ما اطلق عليه دوما الهم الابداعى او اجابة المبدع على سؤال يطرحه على نفسه وهو فى حاله مزاجيه رائقه ومعتدله حين يقول همسا لماذا اكتب .. والاجابه لان المبدع اى مبدع يحمل بين طيات نفسه رساله ابداعيه وقد اختصه الله بها ومنحه ادوات تعينه على ذلك كان بمثابة قطعة الاسفنج التى تمتص الروائح والاشكال التى تنعكس على المبدع خلال رؤيته لما يتفق مع ميوله وينسجم مع شعوره من جماليات الرؤيه والاحساس او مايتعارض معه تاركا له انطباعات حاده نتيجة سلوكيات غير منضبطه او تصرفات شاذه تختمر فى ذاكرته ربما لسنوات وتنمو وتتشكل الى ان يحين وقت المخاض الابداعى فيمسك المبدع على اختلاف توجهاته بقلمه ويصبها على الاوراق صبا او فى احد الفايلات على اللاب او التابلت فى صورة ديوان شعر او مجموعه قصصيه او روايه او نص مسرحى الخ الخ اما عن الحاله المزاجيه والانعكاسات الفسيولوجيه فى المجموعه فهى متقلبه احيانا كالجمر المتقد .. واحيانا بردا

7

وسلاما .. لوحه سيرياليه رسمت بالوان شتى خليط من الافراح والاتراح من الاسفار والترحال من الحركات والاصوات الزاعقه والصمت الرهيب بها مفردات الواقع والخيال تتارجح بين الموت والحياه مابين الحوادث والاحداث وروائح البنج ومعامل التحاليل والاسرة البيضاء ودورات المياه مابين اقراص الاسبرين والبانجو والاستروكس ومن رحم هذه المعاناه يولد الابداع وتنطلق الرؤى بما تحمله من افكار ورسائل مجتمعيه موجهه لمن يهمه الامر ثم تترجم الى مطبوعات لتترجم الواقع بكل مافيه وتؤرخ لكل مايراه المبدع من احداث لتكون شاهدا على التاريخ وشاهدا لما قدم من خطها بيديه ليثرى بها المكتبه العربيه ويضعها شرابا سائغا للشاربين وطعاما هنيئا مريئا لكل من يقبل عليه فهنيئا لهذا الابداع بكل مافيه من الق وتميز مع خالص تحياتى وامنياتى  

 

  

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي
errors
موقع الكتابة

تحرر

موقع الكتابة الثقافي
errors
موقع الكتابة

حياة

موقع الكتابة الثقافي
errors
موقع الكتابة

نجوم