محمود عبد الدايم
«يجذب المعادن ويحب الكلاب».. عنوان يشبه كاتبه كثيرًا، مثير بعض الشيء، غامض عندما يستدعي الأمر، ويدفعك للوقوف أمامه صامتًا لتفهمه، وهذه هي عادة الكاتب الصحفي، القاص محمد البُرمي، في اختيار العناوين، سواء تلك المتعلقة بنصوصه أو عناوين إنتاجه القصصي، «للمحبين والأوغاد وقطاع الطرق»، الفائزة بالمركز الثاني في جائزة ساويرس الثقافية، و«يجذب المعادن ويحب الكلاب»، الصادرة حديثًا عن دار الكتب خان.
مما لا شك فيه أن تجربة «البرُمي» الصحفية منحته تفردًا في اختيار موضوعات قصصه والزوايا التي يختار أن يُسلط الضوء عليها، لتخرج لنا في النهاية لا تشبه البقية – مثل صاحبها بالمناسبة، وهو ما تثبته المطالعة المتأنية لـ«كتابات البُرمي»، سواء في مجموعته السابقة أو الحالية.
حيلة جيدة لجأ إليها صاحب «يجذب المعادن ويحب الكلاب».. في بداية المجموعة، وتحديدًا بـ«الإهداء» الذي اكتفي أن يقدمه إلى «ضحكة داليدا»، لينتظر القارئ ضحكات وسعادة تقترب – ولو قليلًا، من ضحكات ابنته «داليدا»، غير أن المفاجأة أن ما جاء بعد الإهداء كان مفاجئًا بعض الشيء، فـ«الوحدة» كانت حاضرة، و«الأحلام الدموية» هي الآخرى وجدت حيزًا لها في أحد النصوص، و«الرغبة في القتل»، «الهروب من الحياة» و«تجارب الحب الفاشلة»، و«الفقد»، جمعيها كان لها متسعًا في «يجذب المعادن ويحب الكلاب».
يفضل «البُرمي» الجمل البسيطة التي تُصيب هدفها، لا يلهث وراء التعبيرات والمجازات والاستعارات، وهذه واحدة من مميزاته في الكتابة، ليس هذا فحسب، لكن يصنع الفخ لقارئه من الجملة الأولى، يدخله معه في خضم الأزمة. يورطه سطرًا تلو الآخر فيما تورط فيه أبطاله، فيروي على سبيل المثال في قصته «رباط الحذاء الذي خطط لقتلي»، الأزمة الطاحنة التي يعاني منها بطله من «الأحذية ذات الأربطة»، والتي وصلت في إحدى المرات إلى وضعه على حافة الموت، بعدما داس على الرباط وهو يركض في محاولة فاشلة للحاق بأتوبيس نقل عام، ليسقط على وجهه وبينه وبين عجلات الأتوبيس بضعة سنتميترات كانت كافية لـ«تأجيل موعده مع الموت»، وهو ذاته البطل الذي يعترف بعد ذلك بأنه «على الإنسان أن يكون وغدًا وقاتلًا ولو لمرة واحدة في الحياة لو كان ذلك سيمنحه بعض الراحة».
ومثلمًا كان «الموت والانتقام» حاضرين في «رباط الحذاء الذي خطط لقتلي»، فإن «العزلة» شغلت تفكير «البُرمي» فكتب «غرفة أبي التي خبأ فيها العزلة»، لينتقل بقارئه من «أسفلت المدينة» المزدحمة الخانقة، إلى «براح القرية» واتساعها، غير أنه اختار «غرفة الأب» الذي مال إلى «العزلة»، وإن كانت «عزلة مشروطة»، فلم يكن يمانع مشاركة الأسرة وجبات الطعام، وبعض ساعات اليوم، ولم يكن ليتأخر عن إنقاذ «طرد النحل» وتشيد بيتًا له على غرار «غرفة العزلة» التي شيدها من الطوب الابيض والطين ومنحها سقفًا بـ«الغاب والجبس»، بعدما صنع لأبنائه بيتًا كبيرًا جاهزًا للسكن.
«أزواج وقتلة»، قفزة هائلة من «فخ العزلة» و«الموت والمباشر»، إلى «الأحلام الدموية»، فالزوج يحلم – مثلما يحلم بقية الناس، غير أن أحلامه تكون «مذاعة في بث مباشر» داخل عقل الزوجة التي ترى كل أحلامه، فتارة يصحو على صرخاتها بأنه «زوج خائن»، وتارة تكشف السيناريو الذي صنعه الزوج لـ«قتلها»، وتظل «الأحلام المكشوفة» حاضرة إلى أن يقرر الزوجان الحصول على هدنة مؤقتة وغرفة كبيرة وسرير يستع لجسديهما ويحتمل أحلامهما الهادئة ليلًا.
الممتع في «يجذب المعادن ويحب الكلاب»، أن «البُرمي» وبحرفية استطاع أن يجعل «المستحيل ممكنًا»، فالعمارة الخالية من السكان في «شارع سنان»، ستشهد ساكن جديد، وجريمة قتل، ومحاولة اغتصاب، و«صعود زوار غامضين»، وهي من الأساس خالية وتنتظر قرارًا بـ«الهدم».
«يكتب مثلما يحكي»، نتيجة سيصل إليها القارئ الذي ستجذبه خيوط قصص «يجذب المعادن ويحب الكلاب»، سيجد نفسه حاقدًا على البطل الذي سقط في حب «الفتاة التي تشبه إيمي وايت هاوس»، وإن كان سيجده حبًا مغلفًا بالشفقة حينًا والغضب في أحيان آخرى.
وفي «يجذب المعادن ويحب الكلاب»، يضعنا «البُرمي» في مواجهة مع وحدتنا القاتلة، رغبتنا في أن نواجه أنفسنا بـ«الأحلام التي سقطت سهوًا» و«الوحدة التي تغتالنا جهرًا»، فالرصاصة التي تلقاها جسد بطله أثناء أحداث «25 يناير» احتفظ بها، وأصبحت صديقة له، غير أن تعثره المفاجئ وسقوطه كان مؤلمًا أكثر، وهو الألم الذي استدعى «مسامير وشرائح» أصبحت تزاحم «الرصاصة القديمة»، المستكينة».
«هل جربت أن تتحدث مع كرة؟».. قبل أن تسارع وتجيب، نعرف جميعنا أن الفنان العالمي توم هانكس فعلها في رائعته «Cast Away»، عن المنبوذ الذي صار وحيدًا وصنع من وحدته حياة جديدة، غير أن بطل «البرُمي» هنا استدعي « عزيزه ويلسون»، لأنه يرى أن «المرء عليه إيجاد شيء ما يحكي له كل ما يريد في الوقت الذي يريد دون أن ينطق بحرف»، وهو ما نجح فيه بطل « Cast Away» لـ«البُرمي» مثلما سبق وأن فعلها «هانكس».
أخيرًا.. «يجذب المعادن ويحب الكلاب»، مجموعة قصصية لا ينصح بـ«أن تقرأ في جلسة واحدة»، وإلا فإن الخروج من أجوائها سيكون محاولة يائسة محكوم عليها بالفشل من قبل أن تبدأ، ولهذا يُنصح «التورط» فيها على مهل، حتى يكون هناك «خروج آمن» يتيح لك مواجهة وحدتك وأنت لم تزل تمتلك بعضًا من القوة لاستكمال مسيرة الحياة.