بدا الأمر أشبه بمغامرة، لن تستغرق طويلا، لكنني بدلا من “فنجلة” العيون لالتقاط الهنّات والأخطاء العابرة في النصوص، فوجئت بحالة من “فنجلة” الروح، لالتهام الأحرف، واللهاث خلفها لمعرفة مستقرّها ونهايتها.
أحببتُ عبد اللطيف، حبرًا على ورق، وصورًا وأخيلة ولغةً وحبكةً ودراما، دون أن أحظى بلقائه وجها لوجه!
أرسلتُ له طلبَ صداقة عبر الفيس بوك، فقبله ببساطة، ودار بيننا حوارٌ ممتع، لعله لم يكن طويلا، بحكم غربته، وانشغالي، لكنه كان مُوحيًا، ودافئًا، وإشارة لرقيّه، وسعة صدره، وقدرته على تقبّل الاختلاف.
ثم بعد ذلك، أرسل يناقشني في جُملة ضبطتُها بكتابه، كانت لديه وجهة نظر، ويريد أن يتحقق منها، هذا رجل لا يرفع يده عن كتابه بمجرد تسليمه لناشره، ولكنه يتابع، ويدقّق، ويسأل، ليطمئن قلبُه، ويشعر أنه أدّى “الأمانة” حق تأدية.
ثم فاز عبد اللطيف بجائزة ساويرس، متأخّرًا في رأيي، عن مجموعته “يونس في قلب الحوت”، لتكلّفني كرم يوسف بعدها بكتابة بيان صحفي عنها، كنت أنوي قراءة قصة أو اثنتين –لضيق الوقت- لأؤدي المهمة، ثم أعود لقراءة المجموعة كاملة لاحقًا، وهو ما لم يحدث بالطبع!
أذكر أنني كنت في مكتبي يومها، وأمامي مهام ربما لن تُنجز قبل يوم القيامة عصرًا، ومع ذلك انتهزتُ فسحةًً من الوقت، ودخلتُ حجرة اجتماعات الشركة، وأغلقتُ الباب ورائي، وبدأتُ القراءة على أمل ألا يستغرق الأمر طويلا!
لكن الحقيقة، أن الكتاب امتصّني تمامًا، حتى أتيتُ عليه كاملا، ضاربًا عرض الحائط بالأصوات التي بدأت تتعالى حلف الباب المُغلق، تطالب –حتمًا- برأسي! ورّطني عبد اللطيف في فنّه وحبكته، وحكائيته، حتى لم يترك لي مساحةً للتملّص من إكمال المهمة الممتعة لنهايتها!
ثم كان أن كتبت:
في أحشاءِ أي حوتٍ أنت؟
يصدر كلّ عام عشرات -وربّما مئات- المجموعات القصصية، بين جيّد ورديء، وتقليدي ومجدّد، لكن “يونس في أحشاء الحوت”، لياسر عبد اللطيف، تنتمي لفئة أخرى من التصنيفات: فهي مجموعة “مباغتة”!
ومنذ أول سطورها، لا يمكنك توقّع شيء، أو التنبؤ بخاتمة، لا يمكنك صدّ سيل الأفكار والذكريات والمشاعر التي تنتابك، بينما تحاصرك كل هذه الشخوص والحالات، فلا تملك من أمر نفسك شيئًا، وتكفّ -في النهاية- عن المقاومة، وتنساق -مستمتعًا- مع التيار.
في هذه المجموعة، تكتشف أن كلاً منّا هو “يونس”، بطريقة أو بأخرى، في أحشاء شيء ما: ذكريات طفولته، أحلامه -أو كوابيسه- طموحاته، مخاوفه، في سعي دائم وحثيث للوصول لبرّ أمان، بعضنا ينجح ويبلغ عتبةً ما، وبعضنا يظلّ في أحشاء حوتِه، إلى يوم الدين!
يُجيد عبد اللطيف اللعب بلغته، وهو الشاعر، فيُخرج النور من قلب العتمة، ويدسّ العتمة في أحشاء النور، ويدشّن أكثر من مستوى دلالي /جمالي /خيالي / واقعي للنص، يمنح كل متلق -وفق ثقافته وموروثه الجمعي- شيئًا كان يبحث عنه منذ سنين، فيتماس معه، ويتآلف، حتى يصبح كل منهما مرآة للآخر!
يأخذك عبد اللطيف في رحلة لمراعي صباه، فتعود طفلاً معه، تطالع الأشياء والحكايات والمواقف، وتحدّق في الوجوه التي -لفرط براعته في استحضارها- تشعر أنك التقيتها حتمًا في يوم ما، وتبحث عن تفسيرات لألغاز كنتَ تحسبها كونية، وقتها، قبل أن تلفّك الأعوام وتضعك في تحدّيات حقيقية، تتضاءل إلى جوارها خبرات الصِغر، وإن لا تُنسى، ولا يختفي أثرها أبدًا!
ويفاجئك عبد اللطيف، بين ثنايا المجموعة، أن ليس الإنسان وحده الذي يصلح بطلا لقصّة، فالدراما موجودة لدى جميع الكائنات الحيّة، وربما الجمادات أيضًا، ما داموا يعيشون فوق سطح أرضٍِ، بدأت تاريخها بخطيئة آدم، وسوف تنهيه بانفجار عظيم! لذا لا تندهش عندما يأخذك من يدك ويعرّفك إلى “لوسي” بطلة قصة “أمثولة الكلب الأبيض” التي تعاني كما البشر، وتجابه صراعاتٍ فادحة، عليها أن تنتصر فيها، أو تهلك دونها!
وتلعب “المعادي”، التي عاش بها عبد اللطيف، دورًا محوريًا في معظم قصصه، في انتماء واضح للوطن، في مقابل غربة فادحة، حملها فوق ظهره ورحل لبلاد غريبة، يبحث عن سماءٍ أقرب تظلّه، وبشرٍ لا يعرفهم ولا يعرفونه، في رحلته لتأسيس وعي مغاير، وتفصيل جلد جديد، يتناسب ورغبته في البراح.
ومنذ أيام، فازت جائزة “نجيب ساويرس” الأدبية، بمجموعة ياسر عبد اللطيف ?نعم أنت لم تخطئ قراءة العبارة- في إشارة إلى أن الفن الجميل، والعمل الصادق الخارج من القلب، لا مستقرّ لا ولا مُنتهّى إلا القلب أيضًا.
تحية للكاتب الكبير، وشكرًا للكتب خان، مساهمتها في تحريك راكد الحياة الثقافية في مصر، وإهداءنا هذه اللآلئ.
…………
ياسر عبد اللطيف، الذي لم أقابله للآن، وليس بيننا فضلٌ ولا مجاملة، وجّه لي شكرًا في كتابه “في الإقامة والترحال”، لبضع ساعاتٍ قضيتها في حضرة نصوصه، مستمتعًا، متعلّمًا، وكأن بيننا من الصداقة والعِشرة ما يبرر لفتته الكريمة، وأدبه الجمّ.
فلعلّه دوري أن أشكره أنا الآخر، كونِه ياسر عبد اللطيف، ولا أحد سواه.