ياسر عبد اللطيف: الشعر جريمة تطاوُل على اللغة والمنطق والوجود الإنساني!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: أسامة فاروق     

الأعمال الكاملة. كلمة كبيرة. قوية، وموحية. لكنها ارتبطت في ثقافتنا دائما بالنهايات؛ كتكريم أخير في ختام رحلة طويلة. تذكير بما مضي، أو محاولة أخيرة في مواجهة النسيان.

لذا كان وقعها غريبا عندما قرأتها مرتبطة باسم ياسر عبد اللطيف، مكررة في أخبار عن حفل توقيع كتابه الجديد "قصائد العطلة الطويلة". لكن بعد أن رأيت الكتاب اكتشفت أنها لم تكن أكثر من صيغة صحفية غير موفقة، فالديوان الجديد/القديم ليس الأعمال الكاملة، يضم فقط النصوص التي كتبها عبداللطيف منذ بداياته عام 1992 وحتي مغادرته القاهرة والانتقال إلي كندا عام 2009.

حاوره: أسامة فاروق    

الأعمال الكاملة. كلمة كبيرة. قوية، وموحية. لكنها ارتبطت في ثقافتنا دائما بالنهايات؛ كتكريم أخير في ختام رحلة طويلة. تذكير بما مضي، أو محاولة أخيرة في مواجهة النسيان.

لذا كان وقعها غريبا عندما قرأتها مرتبطة باسم ياسر عبد اللطيف، مكررة في أخبار عن حفل توقيع كتابه الجديد “قصائد العطلة الطويلة”. لكن بعد أن رأيت الكتاب اكتشفت أنها لم تكن أكثر من صيغة صحفية غير موفقة، فالديوان الجديد/القديم ليس الأعمال الكاملة، يضم فقط النصوص التي كتبها عبداللطيف منذ بداياته عام 1992 وحتي مغادرته القاهرة والانتقال إلي كندا عام 2009.

هنا يؤكد ياسر أنه كتب قصائد كثيرة بعد رحلته لكندا، “اقترف” الشعر بحسب تعبيره، لكن لم يضم قصائد كندا إلي قصائد المعادي، ليست أعمالا كاملة إذن.. لم تغلق دائرة الشعر بعد.. وإن فتحت بابا للأسئلة .

“صوت ياسر لا يبحث عن الحقيقة أو الحكمة، لكنه يتهادي فكريا. لا يضع موضوعا تحت مجهر الفحص للإحاطة به، ولكنه يترك نفسه لتأخذ ذلك الموضوع في تمشية هادئة” يقول هيثم الورداني في تقديمه للديوان الذي يبدو وكأنه “ملاذ أخير من برد الذكري” نسمع فيه صوت ياسر القديم، نقلب في أدراج مكتبه في غرفته بالمعادي قبل رحلته الطويلة لكندا، تلك الأدراج التي تحوي صوره القديمة، أشرطة الموسيقي، وكراساته المدرسية التي يعلوها التراب، وخربشاته التي تعكس تطوره الروحي “تقدمي الأسلوبي بموضوعات التعبير، في غلطات النحو والإملاء، المعادلات الرياضية التي أتطلع إليها الآن كنقوش مبهمة”.

عبر ذلك الشريط الشعري المصاحب للحياة ومن تلك الصور القديمة التي اصفرت حوافها، من تلك اللحظات المشحونة من الماضي، مرحلة بكاملها تتشكل أمامنا، وبورتريه شخصي لياسر نفسه، فذاته حاضرة دوما بين سطور نصوصه، التي تتمحور دائما حوله، وعما يبدو شأنا خاصا جدا، ولحظات تخصه وحده، من “دهاليز حياته التي قضاها في الدهاليز”.

 ومن هنا يتفجر الشعر أيضا:

 “أفتح الأدراج ساعة وأغلقها،

 الأدراج العزلوية التي لم تذهب معي إلي الجامعة،

ولم نسكر معا في صالة تضج بالمثقفين،

 أفتحها لأتأمل كراساتي فأستعيد خصوصية ما،

أو لأضع بها بعض مسوداتي الجديرة بالحرق،

 لتكون فهرسا لخيباتي،

 وسجلا حافلا للانتصارات الساحقة

 علي طواحين الهواء”.

حياة كاملة بكل عنفوانها ونزقها، وذكريات قلما يستعيدها الشعر ناصعة بهذا القدر، قريبة إلي هذا الحد:

“خرجنا ذات ليلة من بيت إحدي المخبولات

ثلاثة مخمورين يذرعون الظلام

انتحلنا صفة ضباط شرطة

وافتعلنا كمينا علي طريق سريع

استوقفنا الشاحنات وفحصنا رخص سائقيها

وبينما يغادرون بسلامة أوراقهم

انفجرت ضحكاتنا خلف عجلاتهم الكبيرة”.

عبر هذا التقليب في الألبومات القديمة، يستعيد ياسر جانبا مهما من رحلة طويلة، ونستعيد معه زمنا خاصا أصبح الآن يبدو وكأنه بعيد جدا، رغم أنه فعليا لم تمض سوي بعض شهور وأيام، لكن ما جري في حياته وحياتنا يجعل الاستعادة منطقية بل ومحببة.

كثيرون يرفضون إعادة النظر في تجاربهم الأولي، يفضلون أن تظل متوارية، خاصة إذا تحقق الكاتب في مجال آخر، أو حتي شكل كتابي آخر. لكنك علي العكس تخرج أعمالك القديمة، لتعطيها فرصة أخري تحت الشمس. ألا تري أن تجميع الأعمال خطوة مبكرة بالنسبة لك؟ أم أنها تجربة مكتملة لن تعيدها فقررت حفظها في كتاب؟ وهل هي استدعاء للشعر أم وداع له؟

لا شيء من هذه الاحتمالات كلها. فما أحذفه من عملي أحذفه نهائيا ولا أعود إليه. هنا الأمر مختلف، فمن الطبيعي أن يُعيد كاتبٌ طباعة أعماله القديمة خاصة إذا كانت الطبعات السابقة محدودةً وقد نفدت ولم تصل للقراء الحاليين. الكتاب الجديد “قصائد العطلة الطويلة” يضم قصائد مجموعتي “ناس وأحجار” 1995، و”جولة ليلية” 2009، إضافة لبعض القصائد التي كتبت بين الديوانين ولم تنشر في كتاب من قبل، وإن كانت نشرت بالفعل في بعض المجلات كـ “الكتابة الأخري” وغيرها… أنا لا أعتبرها قصائد قديمة ماتت ويجب نسيانها. هي قصائد تمثلني في لحظات ماضية. لا تزال تلك اللحظات فاعلة بشكل ما، وقابلة للاستحضار، ولا تزال القصائد صالحة للتداول (من وجهة نظري علي الأقل).

الفترة من 92 وحتي 2009 هي الفترة التي شهدت تجاربك الأولي، معافرتك مع الحياة في القاهرة، شكلت الكثير من شخصيتك، كما أكدت في كتابات تالية، لم تكن عطلة بالتأكيد.. لماذا إذن هذا العنوان؟ أم أنها عطلة بالنسبة لما أنت فيه الآن؟

هناك قسم من ديوان “ناس وأحجار” بعنوان “قصائد من العطلة” وهناك قصيدة في هذا القسم تحمل عنوان “العطلة” الفكرة في هذه القصيدة كانت تحمل تصوري عن الشعر وقتها بكل سذاجة البدايات وبراءة الصور.  كنت وقتها أتصور أن الشعر “يشعُّ” في لحظات عُطلة ذهنية، عندما تكفّ الأفكار عن الترابط بشكل منطقي وتظهر لها علاقات ووشائج حدسية أو غير مباشرة. وكنت وقتها بدأت بالفعل في كتابة رواية “قانون الوراثة”. وكتابة نص سردي تستدعي أشكالا من التخطيط والهندسة وبعض البحث، كنت أجد في الشعر تحررا من تلك الالتزامات الذهنية. أنهيت ديوان ناس وأحجار وقتها في نهايات 1994، ولم انته من قانون الوراثة إلا عام 2000 علي الرغم من حجمها الذي لم يتجاوز 100 صفحة. ولم تنشر قبل يناير 2002.

أما هنا، ومع هذا الكتاب الاستعادي، إن صحت التسمية، فالعطلة تشير لمجمل ما يمكن أن تسميه “تصوري عن الأدب والكتابة” ما قبل السفر ومغادرة القاهرة. في حوار مع الصديق أحمد شافعي حول نفس النقطة قلت له إنني استلهم هنا بشكل ما مقولة علي بن ابي طالب “الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا” فكأني أقول “الناس عاطلون، فإذا سافروا بدأ العمل”. وهو مفهوم يخصني بالطبع. الموت في الإسلام وعند علي ابن أبي طالب بالضرورة هو الانتقال من دار إلي دار، “اغتراب” بمصطلح هيجل، والاغتراب بحسب الفيلسوف نفسه هو الحركة الضرورية للانتقال إلي الوعي الذاتي، والسفر بالطبع اغتراب. أنت تكتسب وعيًا جديدًا بوجودك خارج موطنك الأصلي، وعيك بذاتك في الأساس. في عبارة علي ابن أبي طالب الكثير من روح الفلسفة المثالية، من أفلاطون وهيجل.

وصفت انتقالك لكندا بانقطاع مفاجئ في شريط الصوت والصورة.. هل انقطع وحي الشعر أيضا؟

علي العكس، كان لدي نشاط شعري شديد في أول شهور وصولي إلي كندا. كتبت مجموعة من القصائد بعنوان “قصائد من سيبيريا الغرب”. سيبيريا هنا دلالة علي فكرة المنفي مُستلهمة من سيرة دوستويفسكي بالطبع، وللتماثل بين سهول البرتا الكندية المنبسطة واستبس سيبيريا الروسي. هي إذن سيبيريا لكنّها في غرب العالم بمعنييه الجغرافي والثقافي. واتسعت المجموعة بعد ذلك وخرجت خارج تأملات المهاجر الأولي. وأعتقد أنها تجربة مختلفة بعمق عن تجربة القصائد السابقة كلها، علي مستوي اللغة والتجريب وفهم الشعر نفسه. بالتأكيد لم تعد المؤثرات هي نفسها، وتغير المشهد وشريط الصوت كما قلتَ. كما إن القاهرة في الخلفية لم تعد هي قاهرة 1990 ولا قاهرة 2009. معظم هذه القصائد الجديدة نشرت في مجلات ومواقع ثقافية مختلفة (ومنها أخبار الأدب). لكن لم يحن الوقت لإصدارها في كتاب بعد. فالتجربة لا تزال في حالة صيرورة، وأنا أهتم بإنجاز كتب أخري حاليًا، لها الأولوية لاكتمالها النسبي.

لكن الإنتاج ليس بالقدر نفسه كما أظن لذا أسأل : الشعر في القاهرة والسرد في كندا.. إلي أي درجة تصح هذه الرؤية بالنسبة لك؟ وبشكل عام هل توجد مدن تحض علي الكتابة؟

لا فضل لمدن علي مدن فيما يخص الكتابة، شريطة أن توفر لنفسك الوقت اللازم لها. وقد يكون توفير ذلك الوقت أصعب بشكل ما في القاهرة، لا سيما إن كنت تعمل في وظيفة أخري، وهو ما يفعله معظم المبدعين لدينا من أجل كسب العيش. فغير ساعات العمل الرسمية، أنت تُضيع ساعات في طرق الذهاب والرجوع، سواء أأخذت المواصلات أو كنت تقود سيارة خاصة، وبعد هذا تكون تصفية الذهن وتوفير الحد الأدني من الراحة الجسدية للجلوس ثانية إلي الكتابة عملية صعبة. من الطبيعي أن يكون معدل إنتاجي الأدبي في القاهرة أقل منه في كندا إذ كنتُ أعمل في وظيفتين بجانب كوني كاتبا. في كندا تفرغت في البداية بشكل شبه كامل للكتابة إلي جانب ممارسة الترجمة من البيت. كان لهذا صعوباته المادية بالطبع، خاصة وأن المؤسسات التي تترجم لها تتأخر عادة في دفع المستحقات. ولا أتكلم هنا عن دور النشر التي تنشر الأدب فقط، فأنا أمارس أنواعًا أخري من الترجمة، كترجمة البحوث الاجتماعية أو المقالات الاقتصادية لمؤسسات ومواقع اليكترونية مختلفة.

بالحديث عن الترجمة.. كيف أثرت علي مشروعك الإبداعي؟

الترجمة تدريب لغوي شاق. أنت تقلِّب معني اللفظ علي جميع جوانبه لتجد المكافئ الأنسب في اللغة العربية. حقيقةً لغتي في الكتابة أفادت كثيرًا من عملي بالترجمة. غير هذا، فالترجمة تسمح لك بالتأمل في كيفية تأثير الثقافات في بعضها، وتسرّب تراكيب ومجازات من لغة لأخري، وتحول وانزياح دلالات تاريخيًا وجغرافيًا. مثلا فاللفظة اللاتينية التاريخية قد يتحول معناها في اللغات الأخري المتفرعة عنها، ليكتسب دلالة في الفرنسية تختلف عن دلالة نفس اللفظ في الإسبانية. وقد تجد نفس الفوارق بين عربية سوريا وعربية مصر ، ولا أقصد هنا اللهجات العامية، وإنما استخدام الفصحي ذاتها بين مختلف الأقطار. بالترجمة تتجدد دماء اللغة بالتأكيد. غير هذا أنا استمتع بمصاحبة الكاتب الآخر الذي أعمل علي ترجمته، وهي وسيلة أيضًا لدراسة التقنيات والرؤي المختلفة بينما أنت تعمل.

يقول ظهر غلاف الديوان الجديد نقلا عنك أنك تعتبر نفسك قاصا يقترف الشعر أحيانا.. ربما كانت تلك رؤية قديمة إلي حد ما.. كيف تصنف نفسك الآن؟

لا زلت متمسكًا بهذه المقولة. لا أعتبر نفسي شاعرًا “بدوام كامل”. ولا  أستطيع حقيقة ولا أرغب في أن أتبوأ هذا المكان الفخيم. وإن كان هناك ما يمكن أن نسميه “يوم القيامة الأدبي” فأنا افضل أن أقف في طابور العرض الإلهي خلف بشر متواضعين كيحيي حقي ونجيب محفوظ والطيب صالح ومحمد شكري وإبراهيم أصلان وعلاء الديب علي أن أقف في طابور الشعراء خلف رجال كمحمود درويش أو أدونيس أو عبد المعطي حجازي، مع احترامي للجميع. لفظ اقتراف أو ارتكاب هنا مقصود تمامًا. فالشعر، بشكل ما، جريمة تطاوُل علي اللغة والمنطق والوجود الإنساني نفسه، جريمة لا بد منها لعلاج هذه الأمور كلها. نوع من إراقة محمودة للدماء كما في الحجامة والطب الشعبي. ولهذا كانت المسافة دائما قريبة بين الشاعر والمشعوذ، منذ الشاعر الجاهلي الذي كان يزعم أنه يتلقي الوحي من شيطان ما، وحتي ريمبو الذي أراد التشويش المطلق للحواس. ترجمت عبارة “أنا كاتب يقترف الشعر أحيانًا” بالإنجليزية لبعض الكتاب الكنديين والأمريكان ممن تعرفت إليهم هنا، ففهموها تماما، لدهشتي، دون كثير شرح!

هناك من يرفض تصنيف ما تكتب تحت مسمي معين.. كتابة عابرة للنوع كما يقال، كيف تنظر أنت لهذه المسألة؟

لا اتفق تمامًا مع هذه الرؤية، قصص مجموعة “يونس في احشاء الحوت” هي قصص قصيرة، وقصائد العطلة هي قصائد وفق تصوري عن الشعر، وقانون الوراثة رواية وإن داخلتها عناصر من السيرة الذاتية، لكن التقطيع والحذف والتقديم والتأخير كلها تقنيات سردية تخصّ فن الرواية، حتي ما هو حقيقي وسيَّري فيها لم يعد كذلك بخضوعه لهذه التقنيات والمعايير الجمالية التي يفوق حضورها هنا حضور حسّ الشهادة علي العالم والتأريخ للذات الأساسيين في كتابة السيرة. ونفس الشيء يصدق علي كتاب يونس. ربما تصدق مقولة العبر نوعية علي كتاب “في الإقامة والترحال” هي كانت تجارب سردية شرحت ظروفها في أكثر من مناسبة، بعضها يصلح كقصص قصيرة وبعضها أقرب لما كان يسمي قديمًا أيام المازني “صورة قلمية”، وبعضها أدخل في باب المقال الأدبي. يمكن أن ينطبق هذا التعريف أيضًا علي أول نص في مجموعة “ناس وأحجار”.

رغم إقامتك في كندا إلا أنك متابع جيد للإنتاج الأدبي في مصر كما أظن، من خلال الورش التي تنظمها والفعاليات التي تحضرها كيف تنظر لواقع الكتابة في مصر الآن؟

انتهت علاقتي بورش الكتابة منذ سافرت في 2009. متابعتي للانتاج الأدبي في مصر تحدث من خلال الانترنت: المواقع الأدبية، والقراءة عن أحدث الإصدارات، ومتابعة منشورات الفيسبوك بالطبع. في مصر، كما في العالم العربي رواج كبير لفكرة “الرواية”. إقبال علي كتابتها، دفعت إليه الجوائز العربية الضخمة والجوائز المحلية المتوسطة والصغيرة. وإقبال علي استهلاكها، ولا أقول قراءتها. مع ذلك أري تميزًا  أكثر في مغامرات القصة القصيرة وأشكال الكتابة الخارجة عن التصنيفات التجارية المعتادة حتي بعيدًا عن فكرة “عبر النوعية” التي ذكرتها أنت، والتي تخصّ زمنًا معينًا تحديدًا ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والهيمنة النقدية للراحل إدوار الخراط. وهناك أيضًا انتعاش في الشعر الجديد خاصة قصائد النساء، هناك مجموعة جيدة جدًا من الشاعرات الجديدات في تفوق كمي وكيفي علي نظرائهم من الشباب.

مقالات من نفس القسم