عناية جابر
ولد ياسر عبد اللطيف في القاهرة العام 1969.. وتخرج من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة 1994، أصدر مجموعتين شعريتين هما «ناس وأحجار» و«جولة ليلية»، ورواية بعنوان «قانون الوراثة» فازت بجائزة ساويرس الأولى لإبداع الشباب العام 2005، ومجموعة قصصية بعنوان «يونس في أحشاء الحوت». كما ترجم عن الفرنسية أعمالاً من أدب الأطفال والفتيان أشهرها «حكايات أمي الإوزة» لشارل بيرو. عمل في الصحافة الإخبارية والتلفزيونية وكتب السيناريو لعدد من الأفلام التسجيلية. منذ العام 2010 وهو يقيم في مدينة إدمنتون بالغرب الأوسط الكندي متفرغاً للكتابة والترجمة. عن إصداره الجديد «بأثر رجعي» كان هذا الحديث.
بعد الشعر والرواية والقصة تطالعنا بجديدك السردي كما لو تُتم دورة إبداعية كاملة؟
كتابي الجديد هو كتاب سردي يحمل عنوان «بأثر رجعي»، وهو يجمع عدداً من النصوص التي كتبتها على مدار العامين الماضيين. نحو عشرين نصّّاً بين المقالة والقصة، بمزج لتوثيق الذكرى وخبرات العمل والأسفار بشيء من الخيال. وهو يأتي تالياً لكتاب القصص الذي اصدرته في 2011 «يونس في أحشاء الحوت»، ويحتوي على نثار من بقايا مروياته، وعلى نثار أيضاً من روايتي السابقة «قانون الوراثة» وإن بروح أكثر تسجيلية، واعتقد بشكل سردي مختلف.
لماذا اختيارك كتاباً سردياً لهذا الإصدار عوضاً عن الشعر. هل من حرية أكثر في السرد؟
كنت قد قاربت على الانتهاء من كتاب شعري جديد، وأسميته مؤقتاً «قصائد من سيبيريا الغرب» في إشارة إلى منفى ديستويفسكي الشهير، فالغرب الأوسط الكندي قريب في طبيعته من سهوب سيبيريا. ويضم الديوان مجموعة من القصائد كُتِبَت بين مصر وكندا، لكنني وجدت «بأثر رجعي» أقرب إلى الاكتمال من الديوان، إذ إنني كنت أكتب نصوصه بشكل أسبوعي، وهي تظهر في زاوية ثابتة بملحق ثقافي اسمه «شرفات» بجريدة عمان في مسقط. وقد أتاح لي الصديق الشاعر والمترجم أحمد شافعي الذي يعمل هناك هذه المساحة الحرة للكتابة بتخصيص هذه الزاوية، فصرت أجرّب كتابة أشكال مختلفة من السرد في حيز الثمانمئة كلمة التي هي كل المساحة المخصصة لي بالملحق الأسبوعي. وقد أنتَجَت هذه التجارب نصوصاً لا بأس بها من وجهة نظري، وقد اختبرتها مع أصدقائي، وكان المردود طيبا، فعزمت على نشرها في كتاب، وأرجأت الانتهاء من الديوان إلى حين…
تقيم في كندا منذ سنوات، ما مدى تفاعلك وأنت البعيد عن مصر مع ما يجري فيها حالياً من تحركات ثورية؟
كمهاجر موجود في مكان بعيد كانت أيام الثورة الأولى مُفرطة في عاطفيتها بالنسبة إلي بشكل عام. كانت عيناي معلقتين طوال اليوم بشاشة الجهاز أتابع التطوّرات على الانترنت خطوة بخطوة.. الفيسبوك واليوتيوب هما بطلا هذه الثورة بلا منازع، كنت أبثُ على صفحتي بالفيسبوك الأغاني الحماسية والوطنية القديمة من زمن الشيخ إمام وأقدم. وتنجلي داخلي مشاعر كنت أظنها بائدةً تماماً، ولكن هذه الموجة العاطفية قد هدأت مع الاخفاقات المتلاحقة لمسار الثورة، وعدت لشخصيتي الطبيعية، وصار ما يسيطر هو شعور عام بخيبة أمل كبيرة قد يتخللها بعض الرجاء أحياناً.. أيضاً فإن الأحداث التي تتلاحق في القاهرة تتخذُ مسرحاً لها من أمكنة تعني لي الكثير على المستوى الشخصي، ومرتبطة بمحطات في حياتي: مثلاً هناك مواجهات عدة تمت بشارع «محمد محمود» بمنطقة «باب اللوق» أسفرت عن مذابح لعشرات الشباب، وفي هذا الموقع تحديداً تقع مدرستي القديمة وقد احتلها الآن رجال الشرطة وجعلوا من مبناها قلعةً يطلقون منها الرصاص على المتظاهرين. كذلك جرت مذبحة الأقباط الشهيرة في 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 في منطقة ماسبيرو بجوار مبنى التلفزيون، وقد عملت لسنوات طوال في هذا المبنى. ينتاب المرء مزيج غريب من المشاعر وهو يرى أماكن أليفة لديه وقد تحولت إلى ساحات للموت وهو على مبعدة آلاف الأميال.. ربما هو كلام غير جديد على سكان بيروت بخبرة الحرب الأهلية الطويلة والمؤلمة، ولكن القاهرة لم تعتد على مثل هذه الاضطرابات، أو هي قد تناستها منذ فترة لا تقل عن نصف قرن.
الى أيّ مدى برأيك ترفد الحركات الثورية النتاج الأدبي بالإبداع.. وهل تساهم ايجاباً في إضاءته وإلهامه؟
الحقيقة أن ما ظهر حتى الآن هو الأثر السريع والمباشر للأحداث السياسية على الأدب، فعاد إلى الصدارة شعر العامية الاحتجاجي، كما ظهر نمط من كتب التأريخ السريع لمجريات الثورة ومنذ أسابيعها الأولى. بالطبع هناك يوميات هامة لبعض الكتاب وثقت للحدث، ولكن هناك نمط آخر من هذه اليوميات استثمر الحدث لتصفية حسابات قديمة أو لمجرد ركوب الموجة والتواجد في السوق بكتاب سيضمن حداً أدنى من المبيعات بسبب موضوعه. الأثر العميق للثورة لم يظهر بعد في الكتابة فيما اعتقد. حاول الروائي والشاعر يوسف رخا مثلاً أن يربط بين الثورة وأحداث روايته «التماسيح» التي تدور في معظمها حول فترة التسعينيات، كما أن رواية محمد خير الأخيرة «سماء أقرب» تلمس بشكل ما الأجواء السابقة مباشرة على الثورة؛ كذلك قرأت قصة جميلة للكاتبة الشابة إيمان عبد الرحيم عن فتاة تجوب الشوارع في أيام الثورة الأولى بحثاً عن أخيها مريض السكيزوفرينيا، هنا كانت الثورة مجرد ديكور كابوسي للحدث، وقد أعجبتني تلك المحاولة المبكرة لدمج الأحداث في عمل سردي.
هل تتواصل مع ما يصدره جيلك الشعري من جديد وهل تقرأ بشكل عام ما يكتبه الشباب سواء على صعيد الشعر أو الرواية والقصة وسوى ذلك؟
أتابع بالطبع كتابات جيلي سواء في مصر أم في خارجها، وأتواصل بشكل مباشر مع العديد منهم ومن الجيل الأصغر أيضاً. وألاحظ نشاطاً قوياً في حركة السرد، وربما هناك تباطؤ للشعر كما أفهمه، غالباً بسبب الأحداث الراهنة. لكن حركة السرد في انتعاش، كمّي على الأقل.. هناك العديد من الأسماء الجديدة في مجالي الرواية والقصة، كذلك زاد الأقبال على ورش ومحترفات الكتابة السردية، وازداد عدد دور النشر بشكل كبير على الرغم من الأزمة الاقتصادية الطاحنة. واللافت للنظر أيضاً وجود جيل جديد من الكاتبات بتجارب مختلفة عن تجارب كاتبات التسعينيات مثلاً..
هل يُضيف البعد والإقامة في الخارج على النتاج الإبداعي أم العكس؟
كتب الشاعر الكبير الراحل سركون بولص عن اضطراب علاقته باللغة العربية في أعقاب هجرته إلى أمريكا؛ كان ذلك في السبعينيات. لم يكن هناك انترنت ولا وسائل الاتصال الحالية. على العكس، أنا لم استشعر بانقطاع لغوي في هجرتي، فأنا على تواصل دائم مع مكاني القديم وناسه، ومع وسائل الإعلام العربية على شبكة الانترنت.. واعتقد الفارق سيظهر في الخيال الشعري في القصائد الجديدة، حيث للطبيعة مكان لم يكن موجوداً في قصائدي القاهرية بالطبع. وربما للابتعاد المكاني أثر في آليات التذكر والاستدعاء، والخطورة هنا تكمن في احتماليات تسرب الحنين والنوستالجيا، وهو ما أحاول دائماً تقليصه بقدر الإمكان، ولكن يبدو أنه أمر لا مفر منه وهو ليس سيئاً دائماً. وهناك شيء هام وفرته الهجرة هو المناخ «الرائق» للكتابة. تعرفين القاهرة وكيف يمكن أن تكون مشوشة. المرء يحتاج هناك إلى وقت طويل ليصفي ذهنه من ضجيج الحياة. هنا أنا أعيش في مدينة هادئة ومتفرغ حتى الآن للكتابة والترجمة، بما لذلك من حسنات وعيوب معاً.