حسين بن حمزة
هو أحد الأسماء البارزة في فترة التسعينات داخل المشهد الأدبي المصري. بدأ بمجموعة شعرية بعنوان “ناس وأحجار” عام 1995، ثم أتبعها برواية “قانون الوراثة” عام 2002، ثم أنجز سيناريوهات لأفلام تسجيلية، فضلاً عن عمله في التلفزيون. وصدرت له حديثاً مجموعة شعرية جديدة بعنوان “جولة ليلية”.
لا يجد ياسر عبد اللطيف غرابة في تنوع النبرات والميول في داخله. ورغم أنه شاعر ذو حساسية مرهفة، إلا أنه يفضل أن يقدم نفسه ككاتب يقترف الشعر أحياناً بدلاً من أن يكون شاعراً يكتب السرد. ولكنه في الحالتين برع في التقاط ما يمكن أن يكون قصيدة خارجة من مزاج شخصي ولغوي، أو أن يكون سرداً مبتكراً بقوة المخيلة والواقع المعاش.
مع ديوانين ورواية واحدة، يعتبر عبد اللطيف من المقلين في الكتابة، ولكنه يعتبر أن الكتابة الحقيقية شيئ نادر واستثنائي، وأنه لا يستطيع أن يكتب دون مشروع حقيقي:
– أصدرت مجموعة شعرية بعنوان “ناس وأحجار” سنة 1995 مع أنك كنت تكتب القصة، ثم أصدرت رواية “قانون الوراثة”، واليوم تعود مجدداً إلى الشعر مع مجموعتك الجديدة “جولة ليلية”. وفي الأثناء كتبت سيناريوهات لأفلام تسجيلية. هل هي حيرة وقلق في النبرة والمزاج، أم ضجر من البقاء في سياق واحد، أم قدرة على التنوع؟
“مسألة كتابة السرد والشعر في نفس الوقت هي بالنسبة لي مسألة طبيعية تماما، لم تأت من باب الضجر ولا هي حيرة وتردد بين الأنواع الأدبية. هو نزوع لاستخدام آليتين مختلفتين في الكتابة. وقلت فيما سبق أن فعل الكتابة نفسه يختلف من النص السردي للقصيدة، ففي السرد للغة وظيفة واضحة ومحددة وهي أن تسرد، أما في الشعر فللغة دور أكبر من ذلك. كما تعتمد الكتابة السردية على تراتبية منطقية تحكمها علاقات السببية في الأغلب وهذا لا يكفي لصنع قصيدة، فأنت في الشعر تقارب الحدس وايجاد علاقات لغوية جديدة. وإن كنت أشعر في النهاية باتصال بين نصوصي الشعرية والسردية كما ترتبط الأواني المستطرقة ببعضها عبر قناة تحتية. ومسألة ممارسة أكثر من نوع ادبي في نفس الوقت لا أجد فيها أي غرابة، وكثير من الكتاب فعلوا ذلك.”
– في هذا السياق، ما الذي يمكن القول إنه تسرَّب من السينما والرواية إلى قصيدتك؟
“السينما طبعت كل النتاج الأدبي الذي جاء بعد اختراعها، وبالنسبة للممارستي لصناعة الأفلام التسجيلية وعملي لفترة في التلفزيون فأنا لم احتك أبدا بوسيط السينما وانما كان تعاملي مع وسيط الفيديو وهو مختلف تماما عن الشريط السينمائي. وأكثر ما كان ملهما بالنسبة لي في هذا المجال هي آلية المونتاج اللاخطي. حيث الحرية الكاملة في إعادة تركيب الصور واللقطات على فضاء وهمي هو الذاكرة الرقمية لجهاز الحاسب، ثم اعادة تحويلها لمادة فيلمية مرة أخرى، وقد اكتملت بكل عناصرها ترتيبا وصوتاً ومؤثرات على شريط الفيديو مرة أخري. أما عن ممارسة الكتابة السردية ككتابة الرواية او القصة القصيرة فقد طبعت كما هو واضح قصيدتي بطابعها الحكائي، وإن لم تقصرها على هذا الطابع. ففي ديواني الأخير “جولة ليلية” قصائد تقارب الغنائية، وإن كانت بالنثرية ذاتها.”
– الشعراء نرجسيون عادة، كما أنهم من النادر أن يفرِّطوا بهذه النرجسية عبر “تمريغها” في أنواع أخرى من الكتابة. هل تعتقد أن الشاعر الراهن بات مواطناً عادياً بدون تلك الهالة التي أحاطت بالرواد ومن تلاهم؟
“لا استطيع أن أضع معيارا وجوديا عاما لما يجب أن يكون عليه الشاعر. لكني أنفر تلقائيا من الكيانات الطاووسية باسم الشعر. كنت قد قرأت مبكراً كتابا لا أذكر هل كان لكامو أو لسارتر كان يحمل على صورة الشاعر”الداندي” وترجمت للعربية بـ”الغندور” وقد راقني ذلك النقد كثيرا، وحتى قبل أن أقرأ ذلك الكتاب، كان عندنا في كتاب المطالعة للأدب الانجليزي في المدرسة الثانوية صورة للشاعر لورد بايرون وهو يرفل في حلة حريرية بأكمام من الدانتيلا، لا اعرف لماذا انطبع في ذهني أن صورة لورد بايرون تلك هي أيقونة الشاعر، وكانت ايقونة للاختيال والمشاعر المرهفة حد الترهل العاطفي، مع الفخر بهذا الترهل. وهي صورة لا تناسب مزاجي عموما. ولا أجد أن بمقاربة أنواع أخرى من الكتابة نوع من الإساءة للشعر. وإن كنت أفضل دائما ان أعرف نفسي ككاتب يقترف الشعر أحيانا عن أن أكون شاعراً يكتب السرد.”
– من جهة أخرى تبدو مقلاً في الشعر وفي الرواية أيضاً. هل ترى في ذلك مشكلة ما أم أنك منسجم مع فكرة أن الشعر موجود في القلة والندرة؟ .. وإذا كان الحال كذلك، كيف تبرر ذلك في الرواية؟
“اعتمدت لنفسي منذ البداية طريق صعبا، وهو التعامل مع حياتي مباشرة كمادة للكتابة، وذلك كان يتطلب مصفاة شديدة الصرامة لاستبقاء اللحظات الأثقل وجوديا الصالحة للمرور عبر المرشح الجمالي. وهوما دفع أحد النقاد الذين أحترمهم إلى القول عن روايتي “قانون الوراثة” إنها كتابة سيئة الظن بالخيال. و ربما أكون قد أطلت في هذا الطريق قليلا. لكني لم أندم، فاعتقادي لا زال أن ذلك الطريق يبلور للكاتب نبرة خاصة ويدمغ لغته بطابعه الشخصي؛ وإن كنت في الفترة الأخيرة قد دخلت في طرق مختلفة وتخليت نسبياً عن تلك النزعة التسجيلية. وربما يفسر لك ذلك قلة إنتاجي.”
– السرد متواجد في شعرك، وهذا طبيعي بسبب كتابتك للرواية، ولكن ثمة من يرى أن “السردية” باتت صفة ملازمة لإغلب المنجزات الشعرية الراهنة في مصر، وأن ذلك يوحي بتشابه التجارب رغم أنها قد تكون مختلفة؟
“الكثير من التجارب “الشعرية” التي تقصدها تفتقر في الحقيقة للشعرية نفسها، وتبقى في النهاية مجرد نوع من السرد المفتقر لأية غاية جمالية. السرد وحده لا يصنع شعرا، فاللغة كما سبق وذكرت في الشعر لا تقتصر وظيفتها على السرد، بل تستلزم نوعا من البحث الجمالي، وتعتمد على دفقات حدسية لا يحكمها المنطق، وهو ربما ما كان يسمى قديما بـ”الوحي” أو “الإلهام”. وما تقصده موجود في التجارب المصرية كما اللبنانية والعراقية والسورية والمغربية وبمناطق أخرى من العالم العربي لدى شعراء جيل التسعينيات ومن تلاهم. وهو أمر طبيعي فيما أظن أن تكون النماذج الشعرية الحقيقية المتفردة قليلة بل ونادرة وسط ركام من التجارب المستعارة والنماذج المقلدة والقصائد الرديئة.”
– لماذا تتعرض قصيدة النثر في مصر لهجوم متكرر؟ ولماذا هي “محرومة” من “نعيم” المؤسسات والمهرجانات الرسمية؟
“لا تتعرض قصيدة النثر في مصر للهجوم من داخل “المجال الثقافي” وإنما من تخومه السياسية والدينية لغلبة التيارات المحافظة بهذين المجالين، وهي ترى فيها تهديدا للهوية القومية أو للقيم الدينية حسب الطيف اليميني الذي يتحرك فيه هذا الهجوم. أما في صفحات الأدب بالجرائد والملاحق الثقافية والمجلات المتخصصة فتجد قصيدة النثر الترحيب بصفتها النمط الشعري السائد فعليا. حتى المؤسسة الرسمية لا تستطيع إنكار ذلك. وما تقصدة بالاستبعاد من “نعيم” المؤسسات والمهرجانات الرسمية هو حالة فردية تخص عبد المعطي حجازي وسيطرته على لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة. والمضحك أنه استبعد في الدورة قبل السابقة للمهرجان شعراء قصيدة النثر المصريين فيما دعا شعراء عرب يكتبونها. أما في الدورة الأخيرة فقد اقترح عليه أحد المقربين دعوة شاعرة مصرية شابة للمهرجان. فطلب مثولها أمامه أولاً لـ “تسمعه” قصائدها فيوافق أو لا يوافق، فما كان من الشاعرة إلا أن رفضت هذا الأسلوب المهين.”
– أنت بدأت الكتابة مع مجموعة أسماء حققت لاحقاً حضوراً واضحاً في المشهد الثقافي المصري. هل يمكن القول إن حساسية مشتركة، زمنية وتجريبية، جمعت هذه الأسماء.. أتحدث هنا عنك وعن أحمد يماني ومحمد متولي وهدى حسين وهيثم الورداني وأحمد فاروق … إلخ؟
“يجمع الأسماء التي ذكرتها التقارب العمري، وقد درسنا جميعا بجامعة القاهرة تحديدا، في نفس الفترة من نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات. وقد كوّنا ما يشبه المجاميع الأدبية التي قد تتسع لتستوعب مجموعة أخرى او تضيق لتلفظ فردا أو اثنين ليلتحقا بمجموعة مجاورة وفقا لقوانين التجمعات البشرية. وفي نحو هذا التاريخ بدأنا نشر تجاربنا الإبداعية من قصص وقصائد؛ وقد جمع ما بيننا حد أدنى من المشتركات الجمالية وبدرجات متفاوتة بين أصحاب الأسماء. وبدأنا بنشر انتاجنا في مجلات مستقلة ظهرت في تلك الفترة كـ”الكتابة الأخرى” و”الجراد” وهي من أهم المنابر التي دشنت لميلاد هذا الجيل. ولا استطيع ان أتناسى في هذا السياق انفتاحنا على مجموعات أخرى كانت تكبرنا في العمر قليلا كتجمع الإسكندرية بشعرائه علاء خالد ومهاب نصر والراحل أسامة الدناصوري، وتعرفنا بنفس الفترة على إيمان مرسال القادمة من مدينة المنصورة وأسماء اخرى منها الراحل أيضا مجدي الجابري ومجاهد الطيب. ولا تتبلور هذه الزمالة أو الحساسية المشتركة بين الأسماء المذكورة إلا في حضور تجمعات أخرى مختلفة كان يسيطر عليها ولا يزال الحس القومي في التوجه الأدبي والشعري رأت فينا شكلا من تفسخات العولمة، وفيما نكتبه ترّهات لأبناء المدينة المدللين.”
– هناك حديث يتجدد دائماً حول الرواية العربية الجديدة. البعض يقول إن ما يكتبه الجيل الحالي فيه مغايرة وقطيعة مع رواية سابقة. ما هي وجهة نظرك كروائي حيال الموضوع؟
“فكرة القطيعة التي أحدثتها الرواية التي تكتب الآن مع روايات حقب سابقة هو كلام متعجل ومن قبيل استخدام المصطلحات جزافاً. ثمة آداء سردي جديد يتشكل في المشهد الروائي المصري. ثمة تجارب ملفتة للنظر وروح جديدة للدعابة والفكاهة السوداء ربما لم تكن موجودة من قبل بهذه الكثافة؛ لكنك لا تستطيع القول إن الروايات الجديدة أحدثت قطيعة مع روايات جيل الستينيات ولا حتى مع الرواية المحفوظية. إنما القطيعة الحقيقية حدثت فيما اعتقد في القصيدة، وعلى توالي أجيال ينسخ لاحقها سابقها.”