حاوره: حسن عبد الموجود
أثناء ندوة لتقديم ديوانه «كشك اعتماد» كان وليد الخشاب يسرد حكايات تقف خلف كتابة قصائده، وهى قصائد تعيد الماضى إلى الواجهة، وإن كانت لدى صاحبها قدرة على تقديمها فى صور ملونة ومبهجة، صور تترك انطباعاً يدوم طويلاً بالمرح والسعادة.
كان الخشاب يقرأ قصائده، ويسرد حكاياته، وكنا نضحك، إذ كانت جميعها لا تخلو من طرافة، خاصة وهى تعيد تقديم أفراد عائلته، كأنه يقلب ألبوماً قديماً يخصها أمامنا، لكن الجديد أن أفراد العائلة خرجوا من الألبوم، ودخلوا من باب القاعة واحداً تلو الآخر، وسيطروا عليها، لدرجة أن أحمد شافعى مال علىّ وقال ضاحكاً: «طب نستأذن احنا.. دى قلبت مناسبة عائلية»!
صحيح أن «هناك قدراً من الصنعة والتخييل فى الديوان»، بحسب الخشاب، لكنه يعترف بأن كثيراً من القصائد استندت إلى مشاهد وتجارب عاشها، أو روايات سمعها، فى مختلف مراحل حياته. لم يكن الخشاب فى حاجة إلى برهنة، إذ أن أقرباءه، أبناء وبنات خاله، وأزواجهم، كانوا ينصتون ويضحكون، وداعبهم قائلاً إنهم لم يقرأوا منذ سنوات الجامعة إلا قوائم الأطباق فى المطاعم.
يقول: «كنا فعلا نمضى جانباً من الصيف فى نهاية الستينيات فى قريتنا بالمنيا. وقصة خالى الذى ضرب حافر الجاموسة ببندقية الرش فهاجت وطاردتنا قصة حقيقية، ما زال الناس يتداولونها فى القرية إلى يومنا هذا، بعد مرور نصف قرن على وقوعها. قصص ذهابى مع والدتى إلى جروبى، وإلى عروض أفلام الكارتون يوم الجمعة فى سينما مترو، وتحولى من تشجيع النادى الأهلى إلى نادى الزمالك كلها حقيقية». ليس هذا فقط: «بورتريهات مدرسى اللغة العربية وجدى وجدتى مبنية حرفاً حرفاً على أحداث وأقوال وأسماء حقيقية».
هل يمكننى الآن أن أقول إن الشعر قد يقدّم ما يشبه السيرة الذاتية؟ هل يمكننى القول إن خبرة الشاعر تمكنه من كتابة قصائد، أكثر متعة من الحكايات، وأكثر تشويقاً من القصص؟ نجح وليد الخشاب فى تذكيرنا أخيراً بأننا نحب الشعر، ونحب الشعراء، لكن عليهم أن يمنحنونا ما يستحقون معه أن نقول لهم «نفهم أن الشعر عزيز» لكنه «حينما يأتى صافياً وجميلاً ومؤثراً يكون لمعانه كلمعان كنز من العملات الذهبية فى يوم مشمس». «كشك اعتماد» هو حكاية وليد الخشاب، وجيله، وحكايتنا. حكاية مصر فى الستينيات والسبعينيات، وحكاية الشعر حينما يقرر أن يجبرنا على احترامه ومحبته.
قبل أن نتطرق إلى الديوان أريد التوقف أمام ندرة أعمالك، إذ أن «كشك اعتماد» هو الرابع فقط لك، وقد فسّرت الأمر سابقاً بأنك تشبه زملاءك التسعينيين، فى الجدية، التى تجعلكم تفضّلون الحذف على النشر، لكن ألا يبدو أن هذا الكلام أقرب إلى أسطورة، أو مبالغة، فهل أصحاب الإنتاج الغزير أقل فى القيمة بشكل عام؟
لا أنشر إلا ربع ما أكتب على وجه التقريب ولم أنشر حرفاً من مئات الصفحات التى كتبتها فى الثمانينات والتسعينات. صحيح أنى لم أنشر إلا أربعة دواوين، لكن مجمل عدد صفحاتها يتجاوز الثلاثمائة وخمسين صفحة ويصل إلى حوالى أربعمائة صفحة إن وحدنا قطعها، وهو ما يقترب من عدد صفحات ستة دواوين. إنما أحب أن أنشر دواوين تزيد عن الطول المتوسط لتحتمل التجربة التى تستغرق عدة سنين قبل أن تصل إلى مرحلة النشر.
أحسد أصدقائى الشعراء القادرين على كتابة الشعر بشكل شبه يومى. من جيلى يتميز الشاعر الكبير إبراهيم البجلاتى بغزارة الإنتاج وإن كانت مخطوطات عدة دواوين ترقد فى أعماق كمبيوتره، وربما كان عددها مساوياً لعدد دواوينه المنشورة. إبراهيم نموذج للشاعر القادر على كتابة الشعر بغزارة دون أن ينتقص العدد من قدر الدهشة والمتعة والحرفة فى كتابته. لكن بشكل عام، الطبيعى ألا ينشر الشاعر كل ما يكتب، ليضمن أن يحذف المألوف والضعيف. الشاعر المتميز ذو الإنتاج الغزير محظوظ لأن هذا يعنى أن مسوداته فائقة العدد وأنه ينتقى منها قدراً معيناً يليق بالنشر.
هل ميل التسعينيين إلى الحذف والوجازة أسطورة؟ فى رأيى أنه ملمح أصيل عند الروائيين والشعراء من ذلك الجيل، ولهذا فمعظمهم ينشر كتباً قصيرة وأغلبهم مقل فى النشر مقارنة بغزارة الإنتاج لدى أجيال أخرى. ليست الغزارة فى الإنتاج عيباً، بل هى دليل على حيوية ملكة الكتابة. لكن المبدع «الشاطر» يتوخى الحرص بحيث لا يكرر نفسه ويحذف ما لا يدهش القارئ.
حالتا وفاة لأقرب الناس إليك، الابنة عام 1995 والأم عام 2008 تقفان خلف كتابة ديوانيك «الموتى لا يستهلكون» و«التى» ورغبة تلبستك بمعارضة التراث بشكل ساخر خلف ديوانك الثالث «قمر مفاجئ» فهل كان الحنين وحده دافعاً وراء كتابة الديوان الجديد «كشك اعتماد»؟
أعتقد أن التغزل فى الحياة -أى مقاومة هاجس الموت- جانب ثابت فى كل دواوينى، وكذلك مختلف آليات السخرية من النفس ومن الخطابات السائدة. والسخرية نفسها أداة من أدوات «النجاة» من ثقل الوقت وعجز الإنسان أمام منظومات المجتمع الحديث ووطأة قوى الطبيعة التى تحكم الحياة والموت. لكن كما أوضحت فى سؤالك هناك جوانب غالبة تختلف من ديوان للتالى، ولا شك أن مسألة الحنين هى الحاكمة لديوانى الأحدث «كشك اعتماد»، كما أن معارضة التراث ومداعبته من خلال تيمة الغزل هى الحاكمة لديوانى «قمر مفاجئ». ومع ذلك فهناك حضور للحنين فى «قمر مفاجئ» كما أن هناك معارضة للتراث فى «كشك اعتماد». فكرة مداعبة التراث متجذرة فى الشوق إلى التراث ذاته، أو فى تمثل حضوره فى حياتنا، هكذا أتصور معنى إشاراتى لشوقى والمتنبى الذين تعلمت أشعارهما فى طفولتى الأولى، فى ديوانى «قمر مفاجئ». وفى الصفحة الأولى من ديوان «كشك اعتماد» أداعب البيت الشهير لأبى فراس الحمدانى الذى يبدأ بـ«بلى أنا مشتاق وعندى لوعة» وإن كنت قد استخدمت الصيغة التى خلدتها أم كلثوم فى ثقافتنا الدارجة الحديثة: «نعم أنا مشتاق وعندى لوعة». فديوانى الأخير مهموم بقدر أكبر بالثقافة الدارجة التى شكلت وعى مواليد الستينيات والسبعينيات فى مصر، وتراث أم كلثوم جزء أصيل من هذه الثقافة.
أتصور أن ما دفعنى لكتابة ديوانى الأخير «كشك اعتماد» هو بلوغى سن الخمسين، ومع ذلك ربما كان لهاجس الموت دخل بهذا الدافع، كما يوحى السؤال. فى الديوان قصيدة عن حبيبين على أبواب الخمسين كتبتها وأنا فى نهاية أربعيناتى، وربما كانت إيذاناً بالعودة لسنوات الطفولة والتكوين وتأملها، كما يحدث كثيراً للكتاب والشعراء والمفكرين عند بلوغهم لذلك الرقم السحرى «50». لقد صدر الديوان فى شهر ديسمبر، شهر ميلادى وشهر ميلاد أبى ووفاته، فى الوقت الذى بلغت فيه عمره حين توفاه الله. أعتقد أن طرفاً خفياً بخاطرى كان يتحسب لحظة بلوغى تلك العتبة: أن أولد فى نفس شهر مولد أبى يجعلنى أترقب السن التى مات فيها أبى، لأرى إن كنت سوف أتبعه فى الموت كما فى الميلاد، أم أننى سوف أعيش عمراً أطول من عمره. الكتابة ليست هنا مجرد مقاومة لهاجس الموت، بل انتهازٌ لفرصة الحياة، لأكتب سيرة ذاتية بالشعر وأسترجع سنوات بداية الوعى والحياة، وهو ما لم يتح لوالدى عالم الاجتماع الدكتور أحمد الخشاب.
قليل هو الشعر المغلف بالسخرية، وأنت لديك قدرة كبيرة على السخرية التى لا تنال من الرصانة المطلوبة للشعر، إنك حتى تبدأ الديوان الجديد بالسخرية من حالة الحنين التى تشكل وقود هذا العمل: «نعم أنا نوستالجى، وعندى لوعة، ولكن مثلى لا يذاع له نثر» هل استخدمت السخرية للتخفيف من حدة سطوع الماضى الذى تحن إليه؟ ما فلسفتك عموماً فى السخرية؟
السخرية من الذات سلاح المستضعفين وأعتبر أن السخرية فى ديوان «كشك اعتماد» مزدوجة أو ملتبسة، لأنها فى ظاهرها موجهة إلى بعض الخطابات المتسيدة فى حياتنا الحديثة وإلى بعض مظاهر الحداثة التى تحمل فى طياتها تسلطاً على الناس، وهى سلاح من ليس بيده إلا القلب والكلمة، لا يستطيع تغيير العالم، لكن يستطيع على الأقل أن يقاوم القوى المهيمنة عليه رمزياً، بلسانه. السخرية هنا هى امتداد قرون من تقاليد «النكتة» التى هى أضعف الإيمان، ليس فقط فى مواجهة سلطة معينة، بل فى مواجهة عالم معقد لا يسمح للفرد بأن يسيطر على حياته. لكن السخرية فى الديوان مزدوجة لأنها فى جانب منها موجهة إلىّ شخصياً. فأنا أيضاً أعيش وأستمتع بتلك الحداثة التى أنتقدها. كأن ديوانى «كشك اعتماد» هو تفصيل مطول لمقطع فى ديوانى الأول «الموتى لا يستهلكون» يحمل الالتباس نفسه: انتقاد الحداثة بسخرية تجعلنى كمثقف يعيش ظروف التحديث العربى موضوعاً للسخرية. فى ديوانى الأول أقول: «أما أنت مثقف الطبقة المتوسطة/ ميسور الحال/ فتأكل العيش الفرنساوى/ وتشتم حملة بونابرت الذى نور قناديل بلادنا/ بينما تبحث عن شقة على نيل شبرا».
السخرية فى تصورى نوع من التفكير النقدى فى الخطابات المهيمنة على عالمنا الحديث ونقد للذات دون خطابة ودون ميلودرامية زاعقة. وبهذا المعنى، نعم السخرية فى «كشك اعتماد» تهدف إلى تخفيف وطأة العاطفية العالية فى موقف الجد. فأنا أنتمى إلى جيل يرتاب بشدة من العاطفية سواء فى الأفلام الرومانسية أو الخطابات السياسية أو التصورات القومية عن الهوية والوطن.
يبدو أن الديوان يريد أن يقول إن الذكريات الشخصية لا تنفصل عن العالم الخارجى، وإن تلك الذكريات هى نتاج تفاعل بين أدق التفاصيل الشخصية داخل جدران بيوت العائلة، وكذلك خارجها، من السياسة وحتى أسماء ماركات الطعام، الفول والمربى واللانشون.. ما رأيك؟
أشكرك على هذا التوصيف. الديوان فعلاً مبنى على تتبع ذكريات وحكايات الطفولة والمراهقة التى عشتها وبالتالى أزعم أن التاريخين الشخصى والعام يتقاطعان فى الصوت الشاعر. أزعم أن السيرة الذاتية فيه تقدم كذلك شذرات من تاريخنا الثقافى فى الستينات والسبعينات من تأمل فى الخطاب القومى وحنين لفكرة العروبة الثقافية إلى استرجاع المتعة التى شعر بها ملايين العرب من متابعة مباريات الملاكم محمد على كلاى ولقاءات الأهلى والزمالك الكروية. وتناول العام هنا يأتى من التفاصيل والتداعيات الشخصية. فاللانشون مثلا لم يكن مجرد طعام أحبه وذكرته فى قصيدة، لكنه كان علامة على دخول الطبقة الوسطى وعلى الانضمام لطابور ممارسى الحداثة حتى فى عشائهم. وفاعلية ماركتى قها وإدفينا فى الديوان ليست فقط إشارة حنين إلى زمن الطفولة، بل تأمل فى سياق ساد القطاع العام فيه مجال الصناعات الغذائية، بحيث يضمن الغذاء لجميع أفراد المجتمع، وإن تسببت هذه الهيمنة فى حدوث أزمات تموينية.
قسّمت الديوان إلى خمسة أقسام، قسم صغير للغاية ويبدو أقرب إلى استهلال، أو سمه باباً إلى الماضى وهو «النوستالجيا»، ثم بدا التقسيم بعد ذلك أقرب إلى تقسيم تراتبى، وحسب سير الزمن، من «جنة الطفل» إلى «مدرستى» إلى التفاعل مع المدن «ازدواج المدن» إلى كثير من التجارب الذاتية فى مرحلة لاحقة «فردوس الحب وأعراف السياسة» هل ذلك التقسيم خصوصاً مع قصر المقاطع كان هدفه عدم قطع استرسال القراء؟!
الديوان مقسم بالفعل وكأنه سيرة ذاتية بالشعر تتوالى أحداثها بشكل خطى منذ طفولتى الأولى فى قسم «جنة الطفل» -وهو حقاً اسم أول أو ثانى دار حضانة دخلتها فى حياتى- إلى مرحلة المدرسة الابتدائية والإعدادية والمراهقة فى قسمى «مدرستى» و«ازدواج المدن»، ثم أختتمه بقفزة إلى قصائد يدور معظمها حول حياتى فى سن الخمسين، وعلى نظرة للعالم من زاوية الشخص «الكهل» أى الذى وصل للأربعين وجاوزها، بالمعنى المعجمى للكلمة فى العصور الوسطى. أى أن الديوان يحكى طفولتى ومراهقتى فى تفاعلهما بين التفاصيل الشخصية الحميمة وشذرات من التاريخ السياسى والثقافى، ثم يختتم بتأملات راهنية فى الغزل وفى الشأن الثقافى العام فى يومنا هذا. آثرت هذا التقسيم الخطى من الطفولة إلى الكهولة طلباً للبساطة، لأن تفاصيل بعض القصائد قد تغمض على القراء الذين لم يعيشوا الفترة التاريخية المعنية فى الديوان، فعلى الأقل أوضح لهم أن الخط العام هو سيرة ذاتية وتاريخية تبدأ من الثلث الأخير فى القرن العشرين وتغطى عدة عقود.
«ولدت فى المسافة بين الريف والحضر، فى الفجوة بين الحرب العالمية، والنكسة، بين حرب السنين الستة، والأيام الستة، فى لحظة نسيتْ فيها المدينة أن الذبح مبدأ الأكل، هكذا كانت المسافة، بين قرية تتغذى على طيور مذبوحة، ومدينة عصرية، لا ترضى أن تسيل الدماء فى العلن». يبدو بامتداد الديوان تلك السخرية من الحداثة كأنها مسؤولة عن تلك الأخلاقيات الخبيثة التى صارت سمة لإنسان المدين.. ما رأيك؟
لا أقصد السخرية من الحداثة فى حد ذاتها، فأنا وليد هذه الحداثة. لكنى أنتقد بعض المواقف البلاغية المكونة للحداثة، مثل ضعف الذاكرة، أو نسيان التاريخ وادعاء أن الحداثة هى نقطة بداية كل شىء إيجابى فى حياتنا، أو إعادة كتابة التاريخ بحيث نحذف مراحل معينة منه. فى المقطع الذى ذكرته أتأمل كيف ولدتُ فى زمن كان الكثيرون من سكان المدينة قادمين حديثاً من ريف الدلتا أو الصعيد. أنا ابن المدينة لكنى من جيل من أبناء القاهرة الذين يحملون ذاكرة الجذور الصعيدية للأسرة القاهرية التى ولدوا فيها. وأذكر كيف كانت حتى الأفلام مثلاً تعكس هذا الوضع السكانى فتجد دائماً تصويراً للبطل الشاب القادم حديثاً من قريته إلى المدينة. عشت تحولات بسيطة لكن فارقة فى انخراط الوافدين الجدد فى حياة المدن، مثلاً فى فقدانهم التدريجى للعلاقة المباشرة بين الإنسان والحيوان الذى يعيش من خيره، فى مساحة قرب معينة فى القرية، بحيث يفقد الإنسان فى المدينة هذا القرب وتتحول علاقته بقتل الحيوان بغرض الأكل إلى مسكوت عنه ومنسى. تبدو هذه تفصيلة مبتذلة، لكنها ذات دلالة رمزية عالية لأنها تكشف عن تفاقم العنف فى المدينة الحديثة: من مساحة عنف محدودة فى القرية يتعايش فيها الإنسان مع قتل الحيوان لتوفير الغذاء، ننتقل فى المدينة إلى عنف رمزى مضاعف، لأن عملية توفير الغذاء فى المدينة تتطلب ذبحاً لأعداد كبيرة من الحيوانات و«إخفاء» لهذه العملية عن العيون، بل وإنكاراً لها. هذا العنف الرمزى المضاعف يسم المدينة الحديثة فى مجالات عديدة تتجاوز مجال توفير الغذاء، فى علاقات العمل والعلاقات الاجتماعية بل وممارسة السياسة.
هل المسافة الزمنية الكبيرة بين حاضرك والزمن الذى تكتبه، وكذلك المسافة حيث تسكن فى كندا من المدن التى عشت فيها هنا فى مصر كانت لازمة لرؤية واضحة للماضى؟
المسافة بين كندا ومصر كانت حاسمة فى تجذير رؤيتى السياسية والفكرية للعالم. مثل كل التسعينيين، عندى موقف نقدى من خطابات فترة ما بعد الاستقلال مثل خطاب القومية الشوفينية وخطاب اليمين المتطرف الدينى. البعد عن مصر يسمح لى بتأمل هذه الخطابات والخطابات البديلة -مثل خطاب العولمة، أو خطاب العولمة البديلة- بهدوء، بعيداً عن إلحاح السياق العام فى بلدى الأم. ولمصادفة إقامتى فى مقاطعة كيبيك الناطقة بالفرنسية لمدة عشرة أعوام، رأيت كيف أن الخطاب القومى العالى فى تلك المقاطعة يشبه الخطاب القومى العربى ويحمل مثل أهدافه التحررية النبيلة كما يحمل مثله بذور تحويله إلى خطاب إقصاء للآخر وهيمنة عليه.
كما أن البعد الجغرافى عن مصر جعلنى أدرك كم تنتمى مصر للحداثة المعولمة، لأننى كثيراً ما مررت بأحياء فى مدن كندية -مثل مونتريال على وجه الخصوص- فإذا بى أشعر كأننى أمشى فى أحياء قاهرية، مثل مدينة نصر. غربتى جعلتنى أشتاق أكثر إلى القاهرة، لكنها أيضاً جعلتنى أفهم إلى أى مدى نعيش فى عالم متشابك لدرجة أن مخططات التحديث الرأسمالى تجعل بلداً عربياً مثل مصر يحمل ملامح بعضها متطابق مع ملامح بلد أنجلوساكسونى مثل القاهرة، فى النمط العمرانى، فى الاعتماد على العمالة الرخيصة لدفع عجلة التعمير، وفى التغييب التدريجى لذاكرة أبناء الريف حين يستقرون فى المدينة. مونتريال تشبه القاهرة أكثر مما نظن للوهلة الأولى.
أما عن المسافة بين سنوات كتابة الديوان وزمن طفولتى ومراهقتى فى عقدى الستينيات والسبعينيات فقد كانت تمتد أحياناً إلى خمسة وأربعين بل وخمسين سنة. لا أظننى كنت أقدم على كتابة الديوان إلا لوجود هذه المسافة الزمنية البعيدة. حتى عندما يبلغ المرء الثلاثين بل والأربعين من العمر ينظر إلى ماضيه الشخصى باعتباره أمراً عادياً، جزءًا من عاديته كفرد. لكنى متى بلغتُ الخمسين أدركتُ أن هناك شعراً فى ذكرياتى بحد ذاتها لأنها تعود إلى زمن انقضى وإن كانت بعض آثاره ما زالت باقية فى لاوعينا. كنتُ أسكن على بعد أمتار من «عيادة الدقى الاشتراكية» وفى حيّنا كانت توجد «حضانة الدقى الاشتراكية». ولأنهما مؤسستان مألوفتان لدىّ منذ الطفولة لم تخطر ببالى طرافة اسمهما القادم من زمن كانت الدولة تتصور نفسها اشتراكية بينما هى الآن تتبنى فكرة اقتصاد السوق. لم أكتب عن عيادة الدقى الاشتراكية فى «كشك اعتماد»، لكن كل تأملاتى فى فكرة الكشك كوسيلة لإعانة الفقراء وإعادة تأهيل خريجى السجون وفكرة القطاع العام الغذائى وتجسدات الخطاب الناصرى كانت قادمة من تمثل المفارقة بين خطابين سائدين تفصل بينهما بضعة عقود: خطابى الاشتراكية والانفتاح.
هل تبرهن تلك القصائد على أن الشعر يمكن استخلاصه من كلام شديد العادية فى بعض الحالات؟
ما يسمى قصيدة النثر -وأفضل تسميته بقصيدة التفاصيل- شعر يتوق لتبسيط المعجم وتقريبه من كلام الحياة اليومية. ولهذا أقول فى قصيدة نشرتها مؤخراً إحدى الصحف العربية: «قصيدة النثر جعلت الشعر فى متناول الجميع». مفهوم النثر فى قصيدة النثر هو استخلاص الشعرى من العادى فالنثرى مقصود به أيضاً اليومى والعابر. وشعر التفاصيل اليومية مبنى على هذا التناقض: استخراج المدهش والمفارق مما يبدو على السطح مألوفاً وعادياً. ليس هذا النوع من الشعر غريباً على العالم، هو أحد إفرازات الحداثة التى أدخلت الكثير من البسطاء إلى دائرة الثقافة، وجعلتهم يتطلعون إلى الاستمتاع بالشعر دون الاحتياج لـ«تربية ثقافية» متخصصة. يظن الكثير من المنظرين والشعراء فى العالم العربى أن أصول قصيدة النثر العربية فى الغرب عند بودلير ورامبو، لكن الحقيقة أن ما يجذبهم فى هذين الشاعرين هو خروجهما على المجتمع وحياتهما كهامشيين بوهيمييين ومجرمين. آباء قصيدة التفاصيل الغربيين -والذين كانوا يكتبون سطوراً مقطعة مثل سطور قصيدة التفاصيل العربية- هم فيرلين وبريفير وبريشت وناظم حكمت، على سبيل المثال. كل هؤلاء كانوا يكتبون عن تفاصيل بمعجم بسيط وشبه غياب للمجاز. وكثير منهم كانوا منخرطين فى نضال من أجل العدالة الاجتماعية من موقف يسارى، وكان تبسيطهم للمعجم جزءًا من سعيهم لتوسيع قاعدة المستمتعين باللغة بين الطبقات الأقل حظاً من الثروة والتعليم، بالتوازى مع سعيهم لتوسيع قاعدة الفقراء المتمتعين بأساسيات الحياة الكريمة. واحتفاء بهذا الجانب المنسى من أصول الشعر «البسيط» فى الغرب نشرت مؤخراً قصيدة عما أزعم أنه الفاعلية السياسية لقصيدة التفاصيل العربية: «قصيدة النثر محتومة/ أوصدت تاريخ الشعر/ فى وجه البورجوازية/ لكن كيف تكتب فلسطين خارج التفعيلة؟».
كثير من المقاطع أو القصائد تبدو أقرب إلى قصص قصيرة جداً، هل الشعر يستفيد من السرد أكثر من استفادة السرد منه؟
أتصور أن الشعر قد يثقل السرد فى الرواية، وقليلاً ما أستمتع بالروايات ذات اللغة الشعرية المحملة بالمجازات وجماليات الغموض الشعرى الشبيهة بجماليات قصيدة السبعينيات المصرية. لكن السرد – أو الحكى على وجه الدقة – يبدو لى أداة من أدوات اللغة فى قصيدة التفاصيل، أو قصيدة النثر، لأن الحكى يقرب القصيدة من لغة الحياة اليومية، اللغة المحكية. والحكى يسمح بإنهاء المقطع أو النص بمفاجأة تحقق دهشة لدى القارئ أو المستمع، والدهشة واحدة من أبلغ تأثيرات القصيدة المرجوة. ما زلت إلى اليوم أتذكر قصائد بريفير التى كنا ندرسها فى المرحلة الابتدائية لسهولة مفرداتها، كان الكثير منها مبنياً على حكاية، وكانت النهاية فيها تمثل خلاصة التأثير الشعرى والانفعالى.
بصفة عامة، فى «كشك اعتماد» الحكى أداة أساسية لصناعة القصيدة لأن الديوان بالأساس سيرة ذاتية أحكى فيها ذكريات طفولتى ومراهقتى. لكن القصيدة بشكل عام لا تعتمد على الحكى وحده والقصيدة «الساردة» تمشى دائماً على حد الموسى كى تحافظ على خصوصية الشعر ولا تنزلق إلى ما يجعلها نثراً سردياً محضاً. السر فى كم الدهشة التى تفجرها القصيدة سواء كانت تحكى أو تصف أو تتأمل.
أفهمُ هذا الديوان جيداً وأثر فىّ، ربما، فى جانب من محاولتى للتفسير، لفكرة أننى تعرضت لكثير من التفاصيل التى تتحدث عنها، بما فيها ماركات الطعام وأسماء الساسة وأشكال الشوارع والمدن.. ولكن هل تعتقد أنه قادر على التأثير فى أجيال لاحقة؟
يشغلنى أن هذا الديوان محدد بشدة بسياق زمنى معين وإحالاته مرتبطة بسياق ثقافى- تاريخى فى الستينيات والسبعينيات، بحيث قد يتقادم الديوان بعد عقدين أو حتى عقد، فإذا ما قرأه شاب فى العشرين عام 2030 ربما لا يفهم الإشارات الموجودة بالقصائد إلى أسماء الشوارع أو إلى أحداث فارقة فى الثقافة الدارجة مثل عرض فيلم معين. وأعى تماماً أن قراء العربية من خارج مصر ومن أجيال أكثر شباباً ربما لا تعنى لهم هذه الإحالات شيئاً. لكن أتصور أن القارئ الذى يلتقط خيط التأمل فى الحداثة والتهكم عليها، وخيط اللعب بأسماء الشوارع، يمكنه التفاعل مع الديوان حتى فى غياب الوعى الكامل بالتاريخ الدقيق الذى يمثل سياق الديوان. ثم إن القسم الأخير من «كشك اعتماد» لا يرتبط معظمه بسياق محدد، غير سياق صوت عربى لرجل تجاوز الخمسين فى القرن الحادى والعشرين.
هل استوعب الديوان كل الحكايات التى أردت سردها؟
هناك العديد من الحكايات التى لم أكتبها فى الديوان وإلا صار ملحمةً لا كتاباً، وربما ظهرت فى كتابات قادمة.
أذكر حصة للغة العربية أيام الثانوى صارت مضرب الأمثال والحكايات فى مدرستى. طلب منى زميلى حازم أن أدفع له بحقيبته من النافذة، وخرج هو من الصف بحجة الذهاب إلى المراحيض، ثم ذهب إلى الحوش أسفل نافذة الفصل ونادانى فدفعت الحقيبة. بعد عشر دقائق، فوجئنا به يعود إلى الفصل حاملاً الحقيبة بين يديه وهى تموء بأعلى صوت. كان قد أحضر قطة وُلدت حديثاً فى فناء المدرسة وأطلقها فى الصف. لوهلة لم يفهم الأستاذ عبد الله لماذا انفجر الجميع فى الضحك، ثم أدرك الموقف عندما رأى القطة الملتاعة المنزعجة من ضجيج الطلبة وضحكهم. ثم أمر بإخراج القطة من الصف إشفاقاً عليها، وكاد أن يترك الأمر عند هذا الحد، لولا أن مشرف الدور سمع الهرج والمرج ورأى القطة فنهرنا جميعاً وبدأ فى استدعاء بعض الطلبة لاستجوابهم فرداً فرداً. ولما رفض الجميع أن يشوا بمن دبر هذه الحادثة، عوقب الطلاب جميعاً بالحبس لساعتين، واضطروا للعودة إلى منازلهم بغير باص المدرسة. كنت أظن زميلى يريد أن “يزوغ” ويعود إلى بيته مبكراً، فإذا به كان يدبر “مقلباً” للأستاذ. لكنها كانت تجربة مثيرة تجلت فيها “جدعنة” جميع الطلاب الذين تحملوا العقاب دون أن يشوا بمن نفذ هذا المقلب، وتعلمنا فيها أحد أصول التعامل مع الأسرار: لا تثق بأحد. فما انكشف أمرنا إلا عندما وثق أحد زملائنا بأستاذ آخر للغة العربية وحكى له القصة بالأسماء، ظنا منه أن المدرس يتعامل معه كصديق لا كعضو فى مؤسسة المدرسة.
ما الذى تغير فى إيمان التسعينيين بالتفاصيل اليومية؟
ما زلت أرى أن تعبيرى «قصيدة التفاصيل» أو «واقعية التفاصيل» هما أقرب المصطلحات لوصف قصيدة التسعينيين، بل ولوصف القصيدة السائدة فى عالم الشعر العربى منذ التسعينيات إلى اليوم. المؤكد هو أن مبدأ التفاصيل ما زال حاكماً لكثير من قصائد التسعينيين، لكن التعامل مع التفاصيل صار مبدأً بنائياً وليس بالضرورة اقتصاراً على التفاصيل اليومية، فالقصيدة لم تعد بالضرورة مشغولة بوصف إشعال سيجارة أو التسكع فى الشوارع، لكنها مبنية على شذرات جزئية من الذكريات أو التأملات.
معظمكم تجاوز الخمسين فما الذى حققتموه فى ذلك الوقت وهل استقرت تجربة التسعينات؟
لقد أصبحت الجماليات التى تبناها شعراء «الهامش» فى التسعينات هى السائدة فى القرن الحادى والعشرين: سواء سميناها قصيدة التفاصيل، قصيدة النثر، أو القصيدة المشهدية: معجم بسيط، أسلوب يقترب من اللغة المحكية، إيجاز وتكثيف، شعرية العادى واليومى، اقتصاد شديد فى المجاز. وهنا أصبحت التسمية الجيلية «التسعينيين» أو «جيل التسعينيات» مجازية لأنها ترتبط بجماليات ما اصطلح على تسميته قصيدة النثر، لكنها تشير إلى جماليات شعراء بدأوا الكتابة فى نهاية الثمانينات كما تشمل جماليات شعراء بدأوا النشر فى القرن الحادى والعشرين، حتى أن تعبير «قصيدة النثر» فقد كثيراً من إحالته إلى الهامش وإلى التمرد «على التفعيلة». صارت القصيدة التسعينية نوعاً شعرياً وليست فقط إشارة لجيل بعينه.
كيف كان رد فعل أفراد عائلتك الكبيرة بعد قراءة هذا الديوان؟
من ناحية أسرتى طمأنتنى مى التلمسانى حيال الديوان لأنى كنت أخشى أن يكون «خفيفاً» أو مغرقاً فى العادية. وطوال ثلاث سنوات نشرت كثيراً من القصائد على فيس بوك قبل أن أضمها إلى الديوان، فكان أولاد خالى يتفاعلون باهتمام مع القصائد التى تشير إلى جدى وجدتى وأخوالى، لكن عندما نظمت قراءة للديوان فى مقر دار المرايا التى نشرت «كشك اعتماد» فوجئت بأبناء وبنات خالى وأزواجهم وبعض أبنائهم يحضرون وينصتون ويضحكون. داعبتهم وقلت إنهم لم يقرأوا منذ سنوات الجامعة إلا قوائم الأطباق فى المطاعم، مما يجعل حضورهم القراءة حدثاً جللاً. الحقيقة أنهم يستهلكون الثقافة الدارجة الشائعة من دراما سينمائية وتلفزيونية وكتابات صحفية فى الكتب والجرائد، لكنهم يمثلون جمهوراً لا يهتم عادة بالشعر. قال لى ابن خالى الأكبر – وهو مدير كبير فى واحدة من أكبر شركات الاتصالات – إنه لم يحضر قراءة شعرية فى حياته من قبل. ومع ذلك استمتع هو وبقية أفراد العائلة الكبيرة ليس فقط لأنه كان يتعرف على قصص لم يعشها فى شباب والده (خالى) ولكن لأنه كان يضحك كثيراً من مفارقات السخرية. وهذه القصة تحديداً مثال على أن جمهور الشعر أصبح يتسع خارج دائرة القارئ الشغوف بالأدب بالمعنى المعتاد – بالذات فى زمن يتم استهلاكه عبر فيس بوك وليس فقط عن طريق الكتاب المطبوع – بشرط أن يجد شعراً مكتوباً بلغة غير معقدة ومحتفياً بعوالم مألوفة فى الثقافة الدارجة.
هل تعتقد أنك لا زلت تمتلك القدرة على الاندهاش كما كنت قديماً؟ هل لا تزال قادراً على تخيل معنى للأشياء، حالياً، ثم تفاجأ بأن لها معنى مختلفاً كلياً؟
من يتوقف عن الاندهاش أمام معجزة الحياة لا يكون حياً إلا بمعنى بيولوجى. لكن الشعر لا يكون حياً إلا إذا أدهش القارئ. أتمنى أن يكون استمرارى فى كتابة الشعر وليد اندهاشى المستمر أمام الحياة والأشياء والتاريخ.
هل ترى أن الشعر المصرى لا ينال حظه فى الانتشار؟ وما العوامل التى تؤدى إلى ذلك وكيف يمكن التغلب عليها؟
ما يحدث منذ بداية القرن الحادى والعشرين، ويتأكد عاماً بعد عام فى مصر، أن نشر الشعر فى كتب أصبح فى أزمة، لا سيما بعد اختفاء دور نشر تخصصت فى الشعر، مثل «شرقيات» وبعد تراجع أعداد الدواوين المنشورة. لذلك يكتفى العديد من الشعراء بنشر قصائدهم على فيس بوك أو على مواقع إليكترونية. مثلاً، مؤخراً أنشأ الشاعر هيثم خشبة موقعاً إلكترونياً ينشر عليه شعره دون المرور بالطباعة فى دور نشر. لكن الشعر المصرى يغزو العالم أجمع بفضل الفضاء الاحتمالى ومنصات التواصل الاجتماعى، ويؤكد تمتعه بحيوية كبيرة من حيث الانتشار والتجديد، لا سيما بين الشعراء الذين بدأوا النشر بكثافة فى القرن الحالى.
أخيراً ما الذى يقدمه لك الشعر؟ وما الذى تنتظره منه فى المستقبل؟ وكيف يتجاور الشاعر والأكاديمى داخلك دون كراهية؟
الشعر يساعدنى على خفض ضغطى المرتفع وأتمنى أن يساعدنى مستقبلاً فى الاحتفاظ بالباقى من أبراج عقلى. الشاعر والأكاديمى ممتزجان فى جسدى مثلما نحمل جميعاً نسباً مختلفة من هرمونات الذكورة والأنوثة معاً: أكتب مقالاتى الأكاديمية بكسل الشعراء وأقرأ قصائدى بقسوة الناقد الأكاديمى.