عما هو جيد .. عما ينتهي أولا
في “السنين الكثيرة التي لا ابتداء لها ولا انتهاء“
هكذا تبدأ القصة الصينية، وفيها نقرأ:
عن حكاية التنين والثعبان
وكيف أنهما، انصياعا لأمنيات الملك يو،
أصبحا نهرين
فكان نهر التنين ضخما عميقا،
بينما الثعبان الكسول
بقي يتدحرج للأمام وللخلف
مجرد شق ضحل ليس أكثر
وأجد نفسي مستغرقا في التفكير
في كل هذا القدر من العمل،
العملِ التنيني
الذي تسري فيه المياه الهائلة بسهولة،
والعملِ الثعباني
الذي يترك أقل أثر ممكن
فلا يكاد يحيط بما يجري فيه
ومن ثم يفيض
مغرقا حقول الأرز
جارفا في طريقه البيوت المجاورة،
وأفكر في التنين
وكيف أن حراشفه الزرقاء الساطعة اللامعة على طول لحيته المهيبة
تسطع تحت الشمس
كوفئت من الملك يو
بمكان علِيٍّ في السماوات،
في حين نفي الثعبان إلى المحيط
فلم يزل يضربه الموج بلا هوادة
حتى يومنا هذا.
***
لا نعرف تفاصيل أخرى في الحكاية الصينية القديمة. لا نعرف حتى إن كان ثمة حكاية كالتي تشير إليها القصيدة، أم الأمر كله اختراع من الشاعر. لكننا نعرف حكاية أخرى، عن أخوين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. نعرف أن أحدهما، ذلك الذي لم يقبل قربانه، حقد على أخيه، فشج رأسه ليسقط أمامه صريعا. حكاية قابيل وهابيل.
حتى أطفال المسلمين، بل أطفال كل أتباع الديانات السماوية يعرفون الحكاية. كيف أن هابيل اختار أفضل ما لديه في قطيعه وقدمه قربانا لله، في حين انتقى قابيل ما لم يكن بحاجة إليه من ثمار أو ما زهد فيه منها وقدمها قربانا لله. وكانت النتيجة المعروفة، قتل هابيل. وأغلب الظن أنه ذهب إلى رحمة الله وجنته، في حين بقي قابيل منفيا في الأرض، تضربه وتضرب أبناءه أمواج البحر ورياح البر وتصاريف القدر إلى يومنا هذا.
أهي الحكاية نفسها يشار إليها؟ لماذا إذن؟ أهي قصيدة أخلاقية تحرضنا أن نحسن العمل وننبذ الكسل، فنجازى بالنعيم المقيم بدلا من هذه البروفة على احتمال الجحيم؟ ربما، ربما يكون ديك آلن ذلك الشاعر المسيحي المحرض على حسن الخلق.
ولكن كل قصيدة، شأن كل شيء ربما، سلاح ذو حدين. خامة في يد القارئ يصنع منها بما يشاء، مطية يذهب بها إلى حيث يريد أو يراد له. فهل تتيح لنا هذه القصيدة البسيطة “عما هو جيد وعما ينتهي أولا” أن نتأمل فيما هو أكثر قليلا، أو ما هو مختلف قليلا عن العمل وكيف أن الجزاء عنه يكون من جنسه؟
عنوان القصيدة يتألف من شقين: ما هو جيد، وذلك هو نهر التنين، العميق القادر على احتواء الماء مهما تكاثر فلا يطغى على ضفتيه مغرقا الحرث والنسل. والنصف الثاني هو ما ينتهي أولا، وذلك أيضا هو التنين. فالذي لم ينته إلى الآن هو الثعبان، نعم هو في عذاب لا ينتهي، حيث لم يزل موج المحيط يضربه بلا هوادة، ولكنه هو الذي لم يزل باقيا، على الأرض، حيث أراد دائما أن يكون. في حين ذهب التنين إلى مكانه العلي في السماوات فلم يبق منه في الأرض إلا الذي في حكاية تحكى أو قصيدة تتلى.
قتل هابيل. نعم، نجا من عذاب الأرض. نعم، مهَّد له حسن عمله أن ينتهي في نعيم الله الأبدي. لكن، في الوقت نفسه، إلى من ننتسب نحن؟ إلى من يدين بنو آدم بوجودهم؟ ممن تعلمنا دفن الموتى؟ وممن تعلمنا قتل الأحياء؟ من الذي كان أكثر إسهاما في إعمار الأرض؟ نحن مضطرون أن نجيب على كل هذه الأسئلة بكلمة واحدة: قابيل. قابيل هو الأكثر تأثيرا في مسيرة الحضارة الإنسانية، هو الذي استن سنة القتل فتحمل وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم الدين، وهو الذي استن سنة الدفن فكان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين. وأغلب الظن أن الدافنين أكثر عددا من القتلة، مهما تكن دمويتنا. فلعل الحسبة النهائية تكون في صالح قابيل، والله أعلم.