وقفــــة
هُدنة، واحة صغيرة، وسط المعارك المتوالية، معارك السياسة والقوانين والمحاكمات، ومعارك المشاوير اليومية ولقمة العيش والفوز بمكان وسط الزحام. هُدنة ليس علينا أن نقاتل فيها، ليس علينا إلّا الاستسلام لدعة الطقس والنوم والأكل والتحيات والسلامات والعيديات. هُدنة، ولكنها حتّى عند بعضهم لن تخلو من المتاعب، سوف يستعدّ بعضهم لزيارة المقابر والترحّم على الراحلين، وآخرون سوف يتجمعون على أبواب السجون مع أول ساعات العيد؛ لزيارة الأحباب المحرومين من سخونة المعركة، والمفروضة عليهم هدنة مجانية طويلة، وما أبشع أن تقيّد جسدًا شابًا وتمنعه الحركة والفعل.
المقولة الشعبية القديمة تخبرنا أن "الوقفة عيد الشباب"؛ ربما لأنهم يتركون نهار العيد للأطفال والعائلات، أمّا شياطين الليل فيبدؤون عيدهم بمجرد انتهاء إفطار آخر أيام رمضان "ولّى هاتها يا ساقي، مشتاقةٌ تسعى إلى مشتاق"، كما قال أمير الشعراء. يجتمعون في عصابات صغيرة للانتقام من العالم، حتّى ولو وجّهوا طاقة غضبهم ورفضهم ضد أنفسهم في الأساس، لن يعودوا إلى بيوتهم قبل أن تسري تكبيرات صلاة العيد في كل ساحة وشارع.
نساء المناطق الشعبية والأرياف، قبل الوقفة بأيام، اختطفن ساعة أو ساعتين وسط الواجبات الثقيلة، وتسللن إلى أقرب كوافير، أو حتّى إلى حفّافة المنطقة في بيتها، طقس لا بدّ منه قُبيل العيد. من حقها أن تفكّر في نفْسها قليلًا، حتى ولو لم ينتبهْ أبو العيال مهدود الحيل. البنات محرومات من هذا المشوار، كلام شائن يلاحق من تأكل حواجبها بالفتلة كل فترة، لكن بعضهن لا يبالي، وقد يُسلمن وجوههن لصاحبة شاطرة رغم ذلك. العيال المقاريض ذهبوا مع آبائهم إلى الحلّاق، ورفعهم المزين على خشبة فوق مقعد الحلاقة وطلبوا منه جميعًا نفس قصّة الشَّعر، حسب الموضة السائدة. هل سينام بعضهم الليلة محتضنًا ثيابه الجديدة أم أنّ هذه صورة لا وجود لها إلّا في القصص القصيرة القديمة؟
بعضهم شدّ الرحال إلى مُدُنِهِ وقُراه، واستقرّ وسط الأهل والأحباب. ليس للوحيد عيد. وهم هناك ينتظرونه من السنة للسنة. سيتحمّل الأسئلة عن الحال والمآل، والاستفسارات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة في حياته الخاصة، كان قد نسي هذا الفضول الطيّب السخيف، ولكنه يستعيده بضربةٍ واحدةٍ ما إن يهلَّ الأقارب.
لعلّ الملاهي الليلية والبارات انتفعت بإجازة رمضان، وأجرتْ بعض التجديدات والصيانة، واستعدَّت لهجمة العطشى، ستمتلئ عن آخرها في الأيام الأولى بلا شك، بمختلف أنواع الزبائن، سواء القدامى المعهودين أم شباب صغار شجعتهم العيدية على الاستكشاف ربما لأوّل مرة في حياتهم. الزحام أمام دور السينما مشهد آخر مُتوقّع، وأخبار التحرش الفردي والجماعي لا مفر منها على ما يبدو. نجوم الدراما الرمضانية سوف يُسافرون بعيدًا؛ طلبًا للاستراحة والاستجمام بعد ماراثون رمضان، غالبًا على شواطئ نظيفة ساحرة لا يراها الناس إلّا في إعلانات التليفزيون. سينشط النشّالون والنصّابون وبائعو كل الأشياء المبهجة من البلالين والصواريخ وخلافه. سيتفق الناس ضمنًا على حالة قصوى من الهَرج والمَرج، في نوبة جنون مؤقت، في إطلاق سراح الشياطين التي ظلّت مُسلسلة ثلاثين يومًا. مَن يخشى الزحام والضجيج والمفرقعات وعصابات المراهقين لن يتجاوز عتبة داره، سيتابع العيد من النافذة أو على شاشة التليفزيون وكأنه مسلسل آخر، سيؤجل خروجه حتى ينفضَّ المولد وتختفي المراجيح من الساحات دون أن يعرف أحد أين تذهب. أيام معدودة وتنحسر الموجة، ويعود كلٌّ إلى قواعده سالمًا، أو بخسائر محدودة، أو بجرحٍ من مشاجرة في حديقة أو سينما. انقضت نوبة الجنون، ولم يتبق منها إلّا الكعك والبسكوت والترمس والفول السوداني. اتسخت الثياب الجديدة، وتبخرت العيدية، وعلى هذا الطفل الانتظار حتى العيد التالي. وإذا الدنيا كما نعرفها، معارك الليل والنهار، معارك السياسة والقوانين والمحاكمات، ومعارك المشاوير اليومية ولقمة العيش والفوز بمكان وسط الزحام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشرت بجريدة القاهرة المصرية