وقائع ثورة تموت .. خلف العالم!

وقائع ثورة تموت .. خلف العالم!
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هل يمكن التعبير عن القهر إلا بوصفه قهرًا؟؟ هل ينتهي الحديث عن الظلم والكبت والقمع لمجرد أن ثمة حكايات "عادية" و"متشابهة" تدور حولها المجتمعات البشرية باستمرار؟

يبدو أن للأدب رأي آخر، وفي هذه الرواية طريقة أخرى للتعبير عن ذلك "القهر" و"الظلم" المجتمعي الذي يبدأ بالمرأة ليجعلها أمثولة للعالم كله، رجالاً ونساءً كبارًا وصغارًا، يتساوى فيه من عاشوا حياة مترفة ومن عاشوا على الكفاف!

في روايتها الثالثة (خلف العالم ـ الصادرة مؤخرًا عن الدار العربية للعلوم ) تركز “سهام مرضي” ومنذ بداية الرواية، أنها تختلف عن “إيزابيل الليندي” في اختيار أبطال روايتها إذ تعلن انحيازها إلى “الطيبين أصحاب الرؤى النمطية” في الحياة من بين الحشود الباهتة والمتشابهة، الجماهير التي يختلط صوتها فيكون غالبًا صاخبًا وحشيًا لا يفهم لكنه مخيف،

 وهكذا تراهن الكاتبة على أحقية بطلتها “نادية” في خوض غمار تجربة روائية، بل واختيارها هي بالذات للتعبير عن المجتمع وما يمارسه على الفرد البسيط المهمش، حتى الموت، بل وتدخل رهانًا آخر وتحديًا أكبر حينما تقتصر أحداث الرواية وأماكنها على غرفة “نادية” التي تجد نفسها فجأة محاطة بين جدرانها الأربعة، تلك الغرفة التي غدت بعد يومٍ أو يومين بمثابة المعادل الموضوعي للعالم الذي دارت “نادية” حوله طوال عمرها، لتكتشف أنها عاشت عمرها كله أسيرة “غرفة انتظار” كبيرة لم يعد بإمكانها الآن، بعد أن تخلت الحياة عنها إلا أن تستلم لمصيرها فيها ..

تبدو الرواية “كابوسية” إلى حدٍ ما، فثمة امرأة تموت خلف جدارٍ صلب، ولا أحد في “العالم” يشعر بها، وهي بذلك  في الوقت نفسه تدق ناقوس الخطر، بشكل رمزي غير مباشر حيث تغدو تلك البطلة وعالمها المغلق معادلاً موضوعيًا لكل قصص القهر والكبت في المجتمع على اختلافها وتنوعها، أجادت سهام التعبير عن بطلتها بشتى الطرق، واستطاعت ببراعة خلال 100 صفحة أن تمسك بتلابيب القصة وتجر القارئ إلى عالم بطلتها مهما كان نمطيًا وعاديًا ليتحد تمامًا مع أزمتها ويعيش خلف العالم مراقبًا صامتًا ..

(كانت تشعر وهي تتحرك في غرفتها أنها تجر خلفها آلاف النساء الساكتات، يرتدين ثوبًا واحدًا ويبكين ويقطِّعن أيديهن، ولم تكن لتقودهن إلى أي مكان بل كانت تجلس وتنتظر، فهي لا تعرف أي طريق، والطرق لا تنادي أحدًا، ولا تسحب القاعدين، وكان هذا يناسبها، ويناسب فكرتها عن الصبر والقناعة)

 (لقد كانت في تلك الشقة أو في حياتها أشبه بأسماك الزينة، التي تذرع الأحواض الزجاجية جيئة وذهابًا بسعادةٍ وبهجة منطفئة لكنها مستمرة بشكلٍ أبله، معتقدة أنها تسبح في المحيط، والأسماك المهذبة المطيعة لا تقفز أبدًا، لذلك يطول بها المقام، ولذلك لا تكتشف الحقيقة)

إلا أن صوت الراوية يبدو متمردًا هو الآخر، تريد من خلاله الكاتبة أن تعرض القضية بشكل مباشر وواضح وصريح، فتقول:

(إن المظلوم جزء من إرث الظالم، والضحية هي التي صنعت المجرم في النهاية، والكثرة الضعيفة هي التي يتسلق عليا البطل، أناس مثله يحبون ويحلمون ويتنفسون، وحده الإنسان الحقيقي يسمع صراخهم المكتوم تحت جهورية خطاب من سحقوهم، ويقرؤون حكاياتهم خلف أسطر وشعارات القتلة والمجرمين والظلمة …

إن مجتمعًا تتعفّن فيه نساؤه خلف القيود والضعف والقهر لن يكون رجاله سوى رجيع الجنس البشري، ولن يعرفوا الشجاعة ولا الرجولة، وسيكون طبيعيًا أن يتمرغوا لقرونٍ وعثاء الاستبداد والقمع، دون أن يخطر لهم الرفض أو تعز عليهم نفوسهم أو يرفعوا رقابهم ليروا السماء)

(إن الذي يربي مسخًا ليخيف به الناس ويقمعهم، لا يعرف أن صيرورة الحياة بالضرورة تجعله في يومٍ ما الفريسة المتبقية الأخيرة لسد جوعه، وذلك يحدث حين تصير الشعوب مسخًا ضخمًا، حفظ مشية جلاده، وصوته ومواعظه، .. لكنه هذه المرة يثور مدفوعًا بالقهر والغضب لا طمعًا في السيادة وهنا تكون النهاية المدمرة للجميع!

إن وعي الحرية لا يحتاج إلى فهمٍ ولا فلسفة ولا تنوير، حين تكون العصا هي لسان المستبد الوحيد، وحين يسجن الجميع ويقتل الجميع ويظلم ويفتقر ويغرق في الجهل الجميع، ستكون حرية متدافعة ومسعورة كارتداد السيل الذي يفتت حتى الحجر …)

وهكذا جاءت الأحداث والمواقف التي مرت بها البطلة “نادية” وإن كانت مؤثرة وقاسية كأحداث عادية، فكان طبيعيًا أن تتعلق بحبها الوحيد “ناصر” الذي سرعان ما يخذلها، وتبقى كما هي واقفة مستسلمة للمصير الذي ينتظرها وتنتظره، محاولة بشتى الطرق أن تحافظ على ما تبقى مما تعارفت عليه من أخلاقيات “المرأة” الملتزمة كما يفرضها ذلك المجتمع، وتواصل الحوقلة والاستغفار، رغم أن داخلها يضطرم بثورة صامتة لا تجيد حتى التعبير عنها!

كان طبيعيًا أن تنتهي تلك النهاية العادية، التي لا تبدو فارقة مع أحد، تمامًا مثلما عاشت على هامش الحياة، لا تلفت نظر عابر، ولا تثير فضول أحد، تؤدي دورها كما يطلب منها في كل حين، ولا تمل الانتظار! 

كان طبيعيًا أن تموت، دون أن تثير أي ضجة، وتبقى رواية كتلك شهادة باقية على ذلك العالم الرابض “خلف العالم” منتظرًا لحظة الانقضاض التي قد تأتي وقد يموت دونها!!

 ـــــــــــــــــــــــ

*ما بين الأقواس من الرواية

مقالات من نفس القسم