<<ما رأيك ان نتحايل على الموت، فلا نصل ابداً الى الاكتمال ، لنكن اقل بهاءً،اقل دهشة اقل جمالاً، اعرف ان هذا لن يروق لنا ، لأن الروح فينا تطمح الى الأكثر دهشة وجمالاً وبهاءً، الى الأكثر موتاً، عذراً صديقي المتعب ان كنت لا اكتب لك اشياء جميلة ، فالموت هو فكرة حياتي الجميلة الوحيدة، اريده هذا الموت، اريد ان اسعى اليه بقدمي، سأذهب اليه ، اطرق بابه بأصابع الظمأ واللهفة، اقدم له روحي على طبق من مرح>>.
كنت امشي معها، اه معها كنت امشي، ببطء الخاسرين الحائرين وفزع المنحدرين الى هاوية في شارع المدينة الطويل غير مكترثين لتحذيرات السماء وهي تتوعدنا بطرقات موحلة، سقوف دالفة، نوافذ مهشمة غير قابلة للجبر،تدفعنا الرياح من الخلف تطوح بكلماتنا ومعاطفنا، وفجأة نصحو على خطونا المتناثر وقد توغل بنا عميقاً في ادغال لعبة جنون بلهاء، اراها تتوسد الان فخذي في زاوية شعثاء من بيت قديم متداع مهجور بلا سقف، اراني أمسد بأصابعي المبلولة جسارتها المتراجعة المرتعشة واسوي ارتباكات جلدها المقرور، واربت بعيوني اختناقات نظراتها وتهدل ابتسامتها.
قالت: العاصفة خلفنا والضباب امامنا ، ما العمل ايها الرجل السادر في هشيمه؟
قلت: دعينا نناقش جذور المسألة ، من انت؟ومن انا؟ وماذا نفعل في هذا المكان؟
قالت: هيا نفكر بطريقة آمنة مختصرة لوضع الحروف على النقاط.
قلت: تجربة ” جان جينية” تسيطر علي هذه الايام، اراني اخطط ليلا على الورق والجدران، مشاريع تدمير مخيفة، اصحو فجراً على يدي واسناني وهي تمزق الملاءات والملابس، والوسائد ورسائل الاصدقاء وباقات الورد، والكتب، والمرايا واشرطة الموسيقى الهادئة، وصور الاباء والاجداد والاخوة المعلقة على الجدران، والاوسمة الفضية، التي منحت لأبي تقديراً لتفانيه في التدريس.
<< آه كم اشتهي لو اتعرف على مجرم سفاح، لعلي استطيع ان اعرف كيف عايش الموت، وخالط لحظات الحياة الاخيرة، لماذا لا اختصر الطريق وامارس القتل بنفسي، عندئذ سأكتب عن الموت اشياء جميلة، ذلك انني عايشت التجربة ، لماذا تبدو خائفا يا صديقي المتعب؟ اطمئن لن يكون باستطاعة القتيل ان يكون قاتلاً، ذلك امر يحتاج على الاقل بعض الوقت>>.
وحيداً في الظلام الراسخ اقف ممزق الرؤى ، بجانب شجرة السرو الوحيدة المترنحة، أبفعل الريح تترنح هذه الشجرة اليتيمة، التي تنتصب بذل مفضوح عند طرف احد الحقول البائرة المهجورة بمحاذاة الشارع ؟ ام بفعل تضور الروح وظمأ الجذور ؟ لم استطع الاجابة ، وبذلك يضاف هذا السؤال الى حزمة الاسئلة الكثيرة الحارقة التي يجيش بها دمي وتكتوي عظامي.
الضباب المتكاثف الجهم يهبط على الارض هائل الاكتاف ، فظ التنفس، رجيم الابتسام ، مبتلعاً الشوارع والبيوت والشجرة اليتيمة وانا وكل شئ كل شئ، قبر أبي لا يبعد عن قبر امي سوى عدة امتار وفي كل مرة كنت ازورهما فيها كنت اشعر ان القبرين يتباعدان عن بعضهما البعض وعندما سألت امي عن ذلك قالت لي: شعورك صحيح يا بني فشخير ابيك وضراطة لا يجعلاني انام تماماً كما ايام الحياة الدنيا ،لذلك اضطررت مراراً للنهوض ليلاً بتواطؤ وتضامن احد الملائكة الطيبين لحفر قبور جديدة مجاورة، اما ابي ذو القامة المديدة والابتسامة الساحرة فقد قال لي والدموع تترقرق في صوته: هذا الموضوع لا يستاهل غضبي او استيائي ، فالوحدة هنا قاتلة لا احد يزور احداً لا ضحكات حولنا لا اصوات باعة، لا كركرة اطفال، لا خرير مياه، لا فناجين قهوة ، الموت قاس يا بني، الموت قاس. << لا ادري لماذا هذا التشوق للموت،هل هو الرغبة في امتلاك المطلق ؟ لماذا نسعى نحو تخوم المطلق ؟ احتى تتشبع حواسنا وتاخذ مشاعرنا حدها النهائي احتى تكتمل الرؤى ؟ اجبني يا صديق اسئلتي وحرائق روحي , ترى ذلك هل ستكون الاشياء جميلة , ام ان جمالها في نقصها ؟ يعني ببساطة لماذا نحب الذين نحنهم الاننا ببساطة لم نتشبع بهم؟ الانه بقيت لدينا رغبات مجنونة عطشى؟ هل تفهمي ايها الرجل ياسيد التعب و الاوهام والطرق القفلة ؟ اللعنة الم يقل انني لابد يوما ان امتلك الحقيقة في روح وفي جسد , "رامبو " المجنون سعى الى الموت دوماً ليكتمل، ليكون، لتتشبع حواسه فلا يجوع ولا يعرى ، وحين تتعمق علاقتي معك ونغدو اصدقاء جميلين حين تكتمل المشاعر وتضيع اللغة عندئذ سأفتقدك سيموت شئ بيننا ، فنعود لنمارس العادي مع احساس مروع بالانكسار والضياع، اعرف الان اني سأفتقدك لا محالة تماماً كما فقدت الكثيرين، ليس لانهم ليسو رائعين بل لانهم كذلك، وصلنا الى الذروة الى الاكتمال فكان لا بد من الموت، ارجوك افهمني واهمس في اذني : انت على حق، انت على حق>>. هل آن او ان العودة الى البيت؟ من سيفتح لي باب غرفتي؟ سكان بيتي نيام،والرياح ستخنق صوتي إن صرخت عليهم، ولا مفتاح معي آه لا مفتاح، لا مفتاح.
يداي تتشبثان بالمقود، قدمي على الفرامل، عيناي المنهكتان تبحثان عن منافذ للرؤية وسط الضباب , ببطء اسير وبندم ورعب ايضاً، فجأة شعرت بعجلات العربة تصطدم بحجارة وتتوقف، اصابني ذهول، اذ المفروض انني اسير باتجاه معهود طالما عدت منه الى البيت في الليالي المعتمة الضبابية، هبطت من العربة، فاذا بي اصل لنهاية شارع معبد طويل يسلم بصورة غير مبررة لحقل غريب ممتلئ بالضباب والعتمة واصوات غامضة، هي مزيج من الضحكات والنداءات والاستغاثات، عدت الى العربة، قدتها باتجاه اخر بعد ان اقنعت نفسي مرتعشاً بأنني ضللت الطريق الشارع الجديد مليء بالمطبات لكنه يبدو مسالماً وحنوناً، المفاجأت كانت مشابهة تماماً اذ سرعان ما سلمت للحقل الغامض المعتم ولكن من طرف اخر، يا الهي ما الذي يحدث لي؟ هل اطرق باب احد البيوت واسأل سكانه عما يجري في المدينة؟ حاولت طريقاً اخر معبداً وطويلاً فإذا به يتخلى عني ويهرب كسابقيه خائناً متراجعاً امام سطوة الحقل المرعب، رأيتها فجأة تبزغ بصعوبة بالغة من طيات الضباب متجهة نحوي بخطو مكسور وذاو؟، تحاول ان تركض لكنها تتعثر وتسقط، لا ادري اكانت تبتسم ام تستعد تقاطيعها للنحيب، توقفت امام زجاج العربة الامامي، الان اراها بوضوح، صديقة الاسئلة والجنون والرحيل، كانت تبتسم، تشير لي بيدها لأن اخرج من العربة واتبعها باتجاه الحقل المعتم المرعب، رأيتني اهبط من العربة ممتلئاً نشوة وفضولاً واسرع نحوها، اغرقتني بالقبلات، امسكت يدي، قادتني باتجاه الحقل وعند حافة الشارع المرتفعة قليلاً والحادة وقبل ان نخطو، اقتربت من وجهي وهمست: جهز جناحيك ايها الرجل السادر في هشيمه، وقبل ان احرك جناحي لاختبر صلابتهما سمعت اصوات اشخاص ليست غريبة عني قادمة متهدجة من جوف الحقل، كان ابي وامي ومعهما جمع من العراة شاحبي الوجوه يقفون امامي هلعين يلطمون وجوههم، يصيحون في وجهي والقزع يتطاير من نظراتهم وعظامهم الصفراء: – عد الى البيت عد الى البيت، نظرت الى صديقتي ، فإذا بها تقترب وتهمس في اذني بصوت كالفحيح: هؤلاء هم اعداؤنا، تقدم، ولتشحذ جناحيك وتضرب بصيحاتهم عرض الضباب، وبينما كنت انقل الطرف المرعوب الحائر المشروخ بين صيحات امي وابي والجمع العاري وبين ابتسامة صديقتي المغوية القوية العميقة، كانت روحي الغضة الصغيرة قد غصت بالذهول .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* زياد خداش
خاص الكتابة