ورم مشاكس يؤنس وحدتى

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لم يكن هناك مجال لأى كلمات، فقط تربيتات من أصابعى على يدها القابضة على الكرسى فى طريقها لإجراء أشعة تداخلية لأخذ عينة من الورم.. أرشدنا الممرض لمكاننا فى آخر الممر الأزرق الطويل، أسندت ظهرى بجوار أحد الأبواب الرمادية التى تفتح بين فنية وأخرى، لتخرج منها أجساد منهكة من الألم، وأجساد تابعة لها مرهقة من الترقب والرجاء والخوف والأمل.

سندت رأسها لجذعى، فانتقل إلىّ نبضها وانحنيت برقبتى كى أتابع وجهها الأبيض الشاحب، كان جلدها أملس نقيًا دون مسام، كقطعة من عجين لدن تعكس تقلصاته وحركات عضلاته المرتجفة والمباغتة ما بداخلها من ألم، وكان الضغط على أسنانها وتشنج فكيها يخبرانى بما تحاول أن تكتمه.. لم يكن الألم موجعًا فقط، لكنه كان معذبًا، جلادًا لا يعرف الرحمة وسياطه تتوالى على وجهها، تموجات الألم كانت مقروءة واضحة مسجلة على صفحته، أمام انقباضات وجهها كانت تنزاح وتنمحى كل تعبيرات: الألم نعمة، الألم رحمة، الألم حياة. كان الألم جحيمًا، مصلوبة فى أتونه، قضمات وحش كاسر ينهش فى داخلها، ومع كل قضمة كانت تخرج منها همهمات مكتومة ماااااماماااااماماااام تنفث بها بعضًا من ناره.

لم تكن أمامها فرصة لترويض ألمها للسيطرة عليه بحيث يخف أثره، كان مصدر ألمها يعمل منذ فترة فى صمت يأكلها برَوية، كان ماكرًا مراوغًا.. ضرب كل عملياتها الحيوية.. الضغط منخفض، السكر منخفض، بروتين الدم منخفض، كان يرسم مخططه بدأب ومهارة سفاح.. ويرسل إشارات ألم محتمل يشخصه الأطباء بالكشف الظاهرى: التهاب فى القولون، لكنه كان أكثر من مجرد تقلصات أو التهاب.. كان ورمًا قابعًا فى حوضها، يرسل لها إشارات مراوغة بدربة الذين تعودوا على الظلمة والخديعة.

الورم الذى تكاثر فى داخلها لا يمكن أن يكون وليد يوم أو شهر أو عام.. لكنه كان مراوغًا وظل متناغمًا مع مسببات إرهاقها اليومى وكدحها لزوج وطفلين كان لهما من فرط الحركة والشقاوة النصيب الأكبر. الشعور المتواصل بالإرهاق الشديد، كانت مسبباته الظاهرة واضحة وجلية، مع سيدة مصابة بوسواس النظافة والترتيب والتنظيم.

السؤال الذى لم نطرحه بحروف، لكننا أرهقناه فحصًا بالصمت، بالحيرة، بالدقة فى اختيار الكلمات والإشارات هو: ما الذى جعل خلاياها تحيد عن طبيعتها تتمرد وتخرج عن خطها المرسوم، فتتكاثر وتتضاعف دون الحاجة لذلك؟. كان لى تفسير ولأمى تفسير، نتبادل التنهيدات فى صمت.. فى أسى الغافلين.. تراكم الإجهاد، مع الإحساس الدائم بالضغط والقهر، أن شيئًا من أحلامك لم يتحقق، الشعور بعدم الأمان، بعدم وجود حليف يدافع عنك، حائط تستند إليه دون قيد أو شرط، عدم الولاء الكامل، كل ذلك أدى إلى نوع من الفتور فى علاقتها الزوجية، شعور بالاغتراب، بالوحدة، لم تكن الحياة محبطة طوال الوقت، لكن الحذر الدائم من الألغام التى يمكنها أن تنفجر فى أى لحظة فى وجهها إذا حادت عن التوافق والمراعاة والتواؤم، جعلها دائمًا فى توتر وترقب.. عيناها دائمًا للخارج، وإذا حدث وانفجر لغم فى وجهها، عليها أن تستعيد توازنها سريعًا لتلملم أطرافها المبتورة.

مع كل انفجار تعود وتلملم أشلاءها وتعيد تركيبها، وببعض من اللطف والاعتذار وقليل من الندم كان زوجها قادرًا على إعادة تجميع أطرافها.. لكن ما لم تلاحظه وما لم يلاحظه أحد أن أطرافها المبتورة كانت تفر منها خلية، خليتان.. شىء لا نراه بالعين المجردة، لكنه يتجمع فى تجويفها، تتجمع الخلايا الفارة، الهاربة، المتمردة، الباحثة عن خلاصها لتنفث عن غضبها وحنقها من الملل والتكرار والخوف والوحدة، لكنها فى غضبها الأعمى لم تدرك أنها ستسقط فريسة ذئب ماكر، وأن خلاصها ليس له ثمن سوى الألم والوجع وانتظار بائس حائر فى ممر أزرق طويل، بجوار أحد الأبواب الرمادية.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال