دابيد دي لا تورّى
ترجمة: أحمد عويضة
حسبما أتذكر كان هناك، دائما ينتظر. كان يكنس الرصيف المقابل لنا بينما أبي على قيد الحياة، وعندما مات، عبر إلى رصيفنا. لم يحبه أبي قط. قال إن رائحته تشبه وحل الشتاء، وأمطار الخريف، وعرق الصيف. أبي، الذي كان ثريًا ومتعجرفًا في السابق، كان يرى في رامون ما لم يرد أن يكونه.
كل يومٍ، ماطرًا كان أو مشمسًا، ينتظرنا رامون على الناحية الأخرى من الشارع ويحيينا بتوجس عندما يرانا خارجين من بوابة منزلنا، إن كنتُ خارجًا مع أبي، وذلك لم يكن يحدث إلا مراتٍ معدودة. أيام البرد القارس لم يكن حتى يرفع يده، ولكني كنت أرى من ارتفاعي المنخفض ابتسامته ترتسم على وجهه، كنتُ أدرك أنه يحييني.
في الليلة التي سقط فيها أبي في مدخل المنزل، ترك رامون كنس الرصيف المقابل لمنزلنا كي ينظف رصيفنا. ومنذ ذلك الحين أصبحت أمرّ به عند ذهابي إلى المدرسة. دائمًا ما كان يهديني عملة معدنية لا أعرف قيمتها بينما يمسك بيدي وينظف أظافري من بقايا البسكوت العالقة بها تحت عين أمي المُراقِبة.
– لا يمكن أن تذهب هكذا إلى المدرسة، ماذا سيقولون عندما يرون تلك الأظافر؟
كان يقولها همسًا وهو خافضٌ رأسه ناظرٌ في عينيّ، ودائمًا كان يتلقى ابتسامة من أمي عندما يرفعها.
– دعه يا رامون، سيدافع عن نفسه بأفضل ما يستطيع.
دائمًا ما كان يهندمني، إن لم تكن أظافري، ينظف لي أنفي، أو يزيل بعض الوبر من معطفي، خافض الرأس دائمًا، ينظر إلى بعطفٍ، بعد ذلك العملة. ذلك كان ذلك سرّنا، لذا كان دائمًا ما يعطيني إياها بينما لا ترانا أمي، حتى أتى اليوم الذي وجدتهم فيه أمي في جيب معطفي.
– ما هذا؟
سألت وقد ضاقت عينيها حد الإنغلاق، ورفعت يديها إلى السماء.
– أهداني إياها رامون.
– بحق الله! الآن سنذهب لنعيدهم إليه، ياله من رجل مسكين.
كذلك فعلنا، ذات ظهيرة شتوية. رامون كان يكنس الرصيف بالضبط عند شجرة تنمو بضعف معدل نموي. عندما رأى أمي ابتسم بقلق، شعر بأن هناك خطبٌ ما. وعندما تلقى كيس النقود من أمي شرعت عيناه في الإلتماع. كنت أحدق في السماء، أراقب السحب الداكنة التي كانت تحوم فوقنا، حتى شعرت بيدٍ تسحبني من ذراعي بعيدًا عن رامون. في تلك الليلة بكيت، بكيت بحرقة، كنت أظن أنني لن أرى رامون مرة أخرى. من شدةٍ بكائي سمعتْ أمي عويلي، دخلت إلى غرفتي وأضاءت المصباح الصغير. ارتعش الضوء مشكلًا ظلالًا على الحوائط العارية لغرفتي الباردة، لكن ابتسامة أمي أنارت كل شئ وملأت الأركان بالدفء.
– إذًا، هل سنراه ثانيةً؟
– بالتأكيد يا بني، أولًا لأن ذلك هو عمله، وأنا لا أرغب ولا أملك القدرة لأنقله من الشارع. وثانيًا لأنه لم يفعل شيئًا سيئًا، كل ما في الأمر أن احتياجاته أكثر من احتياجاتنا.
ظللت أفكر.. إلى أي احتياجات تشير أمي؟ منزلنا واقفًا بالكاد، غرفتين وحمامٍ واحد. أرتدي نفس المعطف منذ أن بدأت ذكرياتي تتشكل، ونعل حذائي بدأ في التشقق. احتياجات أكثر من احتياجاتنا؟ ونمت وأنا أفكر.
مرّ الوقت وبقي رامون هناك، لم يعد بحاجة لأن يخفض رأسه ليتحدث معي، أصبح ظهره محنيًا. وأمي أيضًا.
استمرت الشجرة في النمو، وأنا معها، جنبًا إلى جنب في الشتاءات الثلجية، والأخرفة الممطرة، حيث عمل رامون بجدٍ على كنس الرصيف من أوراق الأشجار المتساقطة حتى لا نتعثر في شيء أثناء سيرنا.
حتى أتى اليوم.
شتاءٌ آخر، بالنسبة للآخرين لا جديد فيه، ولكنه بالنسبة لي كان عالمًا قد توقّف في لحظةٍ ما. دقيقة أبديةٍ أمام سريرٍ فاقدٍ للحياة، وذكرى أبي الذي سقط في مدخل المنزل.كليهما الآن معًا، يستريحان في مكانٍ ما بين السماء والأرض، مكان غير معلوم، ربما هو مُظلم، وربما هناك شخصٌ ما يكنس أرصفة قلوبهم.
في صباح اليوم التالي، بعنوان دار الجِنازات في يدٍ والمظلة في الأخرى، خرجت من المنزل. نظرت أمامي فلم أجد أجدًا يسير على الرصيف المقابل. نظرت إلى رصيفنا، كان خاليًا أيضًا، إلا من الكثير من أوراق الأشجار التي غطته. كيف يمكن ذلك؟ لم ينظفه أحد. في ذلك الصباح كان الرصيف كله بنيًا كخشب المقاعد في الحدائق. ثم سمعت صوت عجلاتٍ على بعدٍ، وظهرت سيارة سوداء حول الناصية. وهي تسير، سحبت امرأة المكناس والمجارف منها.
و رامون؟
دون تفكير، رفعت ياقة معطفي واقتربت من المرأة عندما بدأت رياح عاصفة في اللعب بالأوراق وخلقت دواماتٍ حولي.
– صباح الخير
التفتت لي المرأة بوجهٍ مُتعَب. حدثتها عن الرصيف عند مدخل منزلي، وعن أن أوراق الأشجار لم تكن تمس الرصيف لأن شخصًا ما كان مسؤولًا عنه، لأنه كان دائمًا متواجدًا طوال سنواتٍ يكنس الشارع لأجلي. حدثتها عن رامون، عن أنه كان ينظف لي أنفي وأظافري، وعن النقود التي كان يعطيني إياها، وكيف أعادتها له أمي، ولكنها دعته إلى شرب القهوة بعد ظهر اليوم، وكيف تعانقت أيديهم عندما قالوا وداعًا، وكيف أنه في جميع الأمسيات التالية، كان رامون يترك الرصيف لامعًا من النظافة ويصعد إلى منزلنا لتناول القهوة مع أمي وللعب معي، علمني كيفية بناء البيوت الصغيرة بالعيدان والصوف. وانتهى بي المطاف إلى إخبارها عن الليالي التي ذهبت فيها إلى النوم وتركتهم وحدهم في غرفة المعيشة. إلى أن فركت المرأة عينيها، واخرجت منديلًا من جعبتها وأفرغت أنفها بصوتٍ مرتفع.
في تلك اللحظة اعترفت لي بما تخيلته بالفعل ولكني كنت رافضًا تصديقه.
– رامون مات قبل ليلتين، كان زوجي. عشنا سويًا لثلاثين عامًا تقريبًا، كان يكنس هذا الشارع وأنا في منزلي على الناصية. كان معلقًا ببوابتكم، وأنا كنت عالقةً بمنزلي. كان دائمًا يعتني بوالدتك وأنا كنتُ أفكر أين هو.
عند ذلك فهمتُ شيئًا آخر لم أكن أشك فيه من قبل، إذًا رامون لم يكن يحييني، لم تكن لفتاته تلك لي. رامون كان يحب أمي دائمًا، اعتنى بها، حاول الحفاظ على الأرض، حيث كانت تخطو، نظيفةً دائمًا، كي لا يحدث لها شيء. بينما زوجته على بعدِ عدة أمتار، داخل منزلٍ فارغٍ وكئيب، ترتق روحها برقعٍ من الذكرى.
لم أستطع أن أقول وداعًا، فقط أخذت ورقةٍ أعطتها لي، بها عنوان دار الجِنازات حيث يستريح رامون. أمسكتها مع حطامي الذي تناثر على الرصيف، فقط تمكنت من الاستدارة بسؤالٍ يختنق في حلقي، سألتها: ألن تذهبي لتوديع رامون؟
ابتسمت برفقٍ وألم، وقد توقفت عينيها عن اللمعان.
– لا. يجب عليّ أن أنظف الشارع من أجلكِ كي لا تتزحلق بسبب الأوراق.
…………………
* نُشِرت القصة على موقع زِندا في ديسمبر 2021