والحقيقة أني كلما قرأت ما تكتب سارة علام في المجمل، فإني أتحمس لسارة شخصياً وأجدني أعيد البحث عما وراء الكتابة والصفحات: عن الفتاة الصعيدية التي وفدت للقاهرة لتعيد التعرف على ذاتها وعلى القاهرة والصعيد والكتابة في آن واحد!
ربما لأني تعرفت سارة في وقت كنت أنا نفسي أعيد التعرف على قلمي، وربما لأني تعثرت بكتابتها بينما أبحث وراء نساء الصعيد وأحاول فهم ما يحرك سواكنهن وما يثير روح التحدي لديهن ومتى تقرر الواحدة منهن أن تصمت وأن تستكين كأنما لم توجد قط إلا في مخيلتك!
لذا، فحين دعيت من قبل دار العين للنشر للتعقيب على ديوان “آثار جانبية للوردة” لم أتردد، ليس لأني متحمسة فقط لما تكتب سارة علام، ولكن أيضا لأني قررت أن أقرأ بعضا من خرائط الفتاة الصعيدية في أحد مواسم هجرتها إلى الكتابة والنشر واكتشاف الذات.
ولذا أيضًا لم أستطع بينما أتصفح الديوان أن أركز على الألفاظ والتراكيب اللغوية والصور، على الأقل ليس بقدر تركيزي على الرحلة ذاتها ومن تخوضها وكيف فعل بها عقلها وجغرافية نشأتها وحقيقة وعيها بهموم الوطن في هذه اللحظة المحملة بالثقال- الأفاعيل التي انتهت بها إلى هذه النصوص المشحونة بالأسئلة والشكوى والحيرة والألم. فالكتابة كما تعترف سارة في ص 8 من الديوان قد أنقذتها من أن تتحول إلى غول…
“بعين واحدة ورأس أشعث
أخيف الصغار في القرى البعيدة
أو أطارد أحلام العذراوات في فارس أكحل”
والكتابة كذلك لديها فعل قهري، حتى إنها “قصت إبهامها” في ص 42 من الديوان حتى تمنع ذاتها قسرا عن الكتابة!
“قصصت إبهامي
لن تجد حروفي من يساندها”
وهو ما يذكرنا بما كتبه الإنجليزي “جورج أوريل” عن أن الكتابة بالنسبة للكاتب كالنزف القهري أما الآلة الكاتبة، أو ما كتبه الأمريكي تشارلز بوكوفوسكي عن أن الكتابة للكاتب هي البديل عن القتل أو الانتحار!
امتدادا لتأمل الشاعرة علاقتها بالكتابة – وهي في تقديري لحظة شديدة الخطورة والأهمية تلك التي يقف الكاتب فيها ليعيد تأمل علاقته بالكتابة وبالتالي تشكيل وعيه بهذه العملية ومكانها من حياته ومن رحلته في الأرض- تكتب سارة في ص 83 من الديوان:
“قصائدي
حاصل جمع أمراضي
مع قدرتي على الهلوسة
أم رسائلي تلك المهمل في بريد الأصدقاء
مجرد محاولات لتأجيل الانتحار
أو الجنون”
مع هذا المقطع أجدني تلقائيًا أستعيد ما قاله الكاتب المرهف علاء الديب رحمه الله، حين استهل كتابه “وقفة قبل المنحدر” بقوله: “هذه أوراق حقيقية..دم طازج ينزف من جرح جديد. كتابتها كانت بديلا للانتحار” .
هكذا تكون على ما يبدو أقدار من يصيبهم اختيار نداهة الكتابة والاشتغال بالهم العام …دم طازج ينزف وحروف هي بدائل الانتحار.
في معرض تأملي للديوان على ما أعلمه منخلفية الشاعرة الشخصية والمهنية توقفت عند المقاطع من قصيدة “أشلاء” التي تخاطب فيها الشاعرة السيد المسيح فتقول له:
“يا سيدي المسيح
تعال
اترك خشبتك
وانزل
في الأرض كر وفر وقتال
ياسيدي المسيح أسرع
استل سيفك
قبّل العذراء وابدأ المعركة“
يذكرني هذا المقطع بحقيقتين تخصان الشاعرة، أما الأولى فهي كون سارة ابنة الجنوب (تحديدا أسيوط) حيث قضت طفولتها وصباها في حالة من التعايش القديم بين الأسر المسلمة والأسر المسيحية، حتى أنها–وهي ابنة أسرة مسلمة تقليدية محافظة- كانت على الدوام صديقة لفتيات مسيحيات دون أن تتوقف لحظة بالسؤال أو حتى المباهاة الساذجة عند تلك المسألة. الحقيقة الثانية التي يعرفها على الأقل بعضنا عن سارة هي عملها كمحررة صحفية متابعة ومتخصصة بالشأن المسيحي المصري، وقد قرأتُ بقلمها بالفعل عددا من التحقيقات اللافتة بجديتها واتزانها ذات الصلة بالشأن القبطي.
فكيف إذن لا ننتظر من الشاعرة بخلفيتها تلك إلا أن تسكنها الشجون مع الأحداث الطائفية الحزينة التي ضربت مصر في الأعوام الأخيرة؟
زد على هذا المقطع الموجع من قصيدتها “ورقة بفرة” كتبتها على خلفية النزاع على جزيرتي تيران وصنافير والذي كتبت سارة فيه تقول:
“كان لأبي علم
صار مع الوقت
ورقة بفرة
يمزق خيوطها برفق
يقسمها على دخانه
الأحمر للقمة العيش
الأبيض لقدرته على الحياد
الأسود لنا ولأولادنا“
مع هذا المقطع كان علي أن أشفق على فتاة في عمر سارة كتب عليها مع بنات جيلها أن تحمل إرثا ثقيلا من النزاعات والمواجهات والجدالات الوطنية. تذكرت بينما أقرأ هذا المقطع حين سألتني مذيعة الإذاعة عن عنوان ديواني “سأعيد طروادة إلى أهلها ثم أحبك” كيف أني صمتُ لحظة ثم قلت لها: هذا قدر بنات مصر (بل والوطن العربي كذلك) اللاتي وعين على الأحداث التي شهدتها وتشهدها المنطقة منذ 2011 بل وما قبلها بعدة سنوات…بناتنا اليوم تؤجلن أنوتهن لحين يفرغن من ضبط موازين الأوطان المختلة..نحن جيل من الفتيات ليس الأسعد ولا شك!
المعنى ذاته يبر لي من قصيدة سارة علام التي عنونتها “فصل عنصري” والتي يبدو من عنوانها (رغم أنها قصيدة غزلية بحسب التصنيف الكلاسيكي للشعر حيث إن موضوعها هو الحب) كيف أن الشاعرة كبنات جيلها، متأثرة بالقضايا العالمية وحركة الحضارة الإنسانية ومواقفها من النبذ العنصري ومن قضايا الإدماج وخلافه من القضايا الكبرى التي غدت تشغل المرأة المعاصرة حتى وهي تغازل وتكتب عن العشق!
لكن سارة تأبى إلا أن تعيدني من أطراف الكوكب ومن أحاديث العولمة والعنصرية، إلى الصعيد الجواني حيث شوارب الآباء لا تكتفي بالتطليل على الفتيات، بل أيضا تتمدد وتتفرع وتلتف حولهن تحكما وتصلبا وتملكا، إذ تقول في قصيدتها “صراط” ص 107 –في تمرد مألوف في عالم الفتيات المتنورات اللاتي تضربهن حُمى الكتابة في العواصم المغوية بالتمرد والكتابة :
“أريدُ
أن أتخلص يا أبي
من أبوتك
ومن كل الآباء
الذين مرّنوا رأسي على الطأطأة“
تماما كما تتمرد في موضع آخر من ديوانها – وإن بلطف أكبر وتعاطف أبرز- على أمها في قصيدة خيوط التي تقول فيها:
“تطاردني ماما بالإبرة والخيط
كلما ارتديت فستانا
ترتق بأصابعها فتحات اندفاعي
تكبح بالخيط أحلامي في الطيران”
ختاما، أعتقد أن ديوان “آثار جانبية للوردة” إذا ما قرئ في ضوء خلفية سارة الشخصية والمهنية، فيمكن القول إنه يمثل أوراق بنات مصر ممن ينتمين للطبقة الوسطى، ويشتغلن بالعمل العام، ويحملن في صدورهن جدالات الوطن والحب والحشمة والحرية المنشودة إلى اللامنتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وشاعرة وباحثة مصريّة