“وردات في الرأس” لأحمد يماني. خذوا قلبنا الى المياه العميقة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 71
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عماد فؤاد

على عكس ديوانيه السابقين، يأتي الديوان الثالث للشاعر المصري أحمد يماني "ورداتٌ في الرأس" والصادر اخيراً عن دار "ميريت للنشر والمعلومات" ضمن سلسلة "تجليات أدبية" 2001، محاولاً طرحاً شاملاً وبعيد المدى لمجموعة من الرؤى والقضايا، الفلسفية والفكرية والشعرية، تدور على محورين رئيسين، هما الموت والحياة والتقاطعات بينهما. هذه الثنائية الفضفافة التي لمحنا جذورها الاولية في شكل مراوغ ضبابي في ديوانه الاول "شوارع الابيض والاسود" 1995، اذ زاحمتها الرؤى الشخصانية، أو تلك النابعة من هيمنة الأنا، والولع بالسرد والحكي عن كل ما يتعلق بالذات وعلاقاتها بالآخرين، مثله في ذلك، مثل غالبية الشعراء الشبان في تجاربهم الاولى. وذلك الصوت الشعري ونبرته التي تجلت بوضوح اكثر في ديوانه الثاني "تحت شجرة العائلة" 1998 حيث كان الهمّ الرئيس لأحمد يماني هو التأريخ لذاته من خلال رصد صورة فوتوغرافية لعائلة ولذات، في شكل سيرة غير ذاتية، أو ذاتية، ترصد أدق تفاصيل افراح واتراح هذه الذات وهذه العائلة.

 في ديوانه الجديد، يلج أحمد يماني نصوصه العشرين، والتي تنتمي في شكل قاطع وصريح الى قصيدة النثر، بمدخل رئيس يقول: “العاصفة/ ستحمل ذرة من رفاتي/ خرجت مسرعة عند فتح الباب/ لتستقر في اصيص نبات الظل/ النائم سعيداً/ بجانب سريرك” ص7. وعلى هذا النحو، يشكل هذا المدخل، بوابة للتعامل مع ثنائية “الموت” و”الحياة” التي اشرنا إليها بداية، فالرفات/ الموت، والذي تفتت إلى ذرات متناهية الصغر، ستحركه العاصفة/ الحياة، والتي تسبب فيها فتح الباب “هل نقول الحرية؟” هذه الذرة التي تتضمن في طياتها سر الحياة من جديد، ستتخذ من اصيص نبات الظل الساكن بجوار سرير الحبيبة موطنها الجديد، ورحْمها الذي تتوالد عبره مرة اخرى.

وإذ تنفتح قصيدة أحمد يماني على معنى الموت والحياة بكل اتساعه وتشظيه، نجده يرصد سكونية الاشياء من بُعد، كعين غير مرئية تراقب كل شيء بلا تعب او توقف. ففي قصيدته الاولى “قدر الغرف” والتي يستوحي عنوانها من مجموعة قصصية للكاتب المصري الراحل عبدالحكيم قاسم “قدر الغرف المقبضة” يحكي الشاعر عن غرفته او عزلته الاختيارية، تلك الغرفة التي لم تغيرها السنون، وعن سريره الذي لم يتحرك قيد انملة من موضعه، وكأنه يُمسْرح المكان الذي يحكي عنه ويشتبك معه. وفي قصيدته الثانية “حفلة استقبال” يرثي حياة رجل يتم الاستغناء عنه في العمل، ويرصد الشاعر موته البطيء بشكل دراماتيكي أمام شاشة التلفاز وعشرات من زجاجات البيرة الفارغة. يكتب أحمد يماني كل هذا، واضعاً أمام عينيه المدى اللامحدود لقصيدته. فهو يتخذ من السرد والحكاية والسخرية محاور لانتاج شعريته، وإذا كانت قصيدة النثر الغربية اعتمدت في أسسها على ثلاث نقاط رئيسة هي “الايجاز” و”المجانية” و”التوهج” فإن قصيدة أحمد يماني تطيح اثنتين من هذه النقاط الثلاث، مبقية على النقطة الاخيرة ألا وهي “التوهج” النابع من سحر الحكاية وجمال التفاصيل الصغيرة، وهي تتراكم متخذة في الاغلب شكلاً سردياً تؤكده سطوره الطويلة وجمله المعقدة. وهكذا، تراوح قصيدة أحمد يماني باستمرار دؤوب ما بين حقلي الموت والحياة، مستوحية مفرداتها من خصوصية العالمين وسحرهما، فإذا كان يرثي الآخرين في واحد من اجمل وأعذب مقاطعه الشعرية التي ضمها ديوانه هذا، فيقول:

“ماتوا يا قلبي

دون أن يعرفوا شساعتك

دون أن يخلعوا أحذيتهم ويستريحوا قليلاً

جذبنا حبل مركبهم

ثبتناه بكل قوة على الشاطئ

فرشنا ظهورنا ليعبروا عليها

لكنهم يا عيني

ماتوا من غير أن يلمسوا ايدينا

ماتوا في اماكنهم

التي اتسعت فقط لموضع اقدامهم

خذوا شساعة قلبنا

خذوها معكم الى المياه العميقة

دعوها تنبت في أرواح الحيتان

علّها تكف عن انتحارها الجماعي

علّ البحر ينهمر بحنان – لم نطله – على الرمال”.

هل هناك علاقة بين قصيدة يماني وبين “التشكيل”؟ وعلى رغم أن السؤال يكاد يكون ساذجاً للوهلة الاولى، على اعتبار أن الشعر، اي شعر، يشتبك ويتقاطع مع الفنون الاخرى، كالموسيقى والمسرح والرواية وكذلك التشكيل بالطبع، الا انني كنت اقصد من تساؤلي طرح علامة استفهام واضحة وصريحة حول اشتباك نص أحمد يماني مع التشكيليين والفنانين وأعمالهم. فولعه بكتابة الصور الشعرية المهووسة بالاسماك ودلالاتها مثلاً يذكرنا على الفور بأعمال عدد من الفنانين التشكيليين المصريين الذين استوحوا في اعمالهم “السمكة”، وعلى رأسهم عبدالهادي الجزار وحلمي التوني وجميل شفيق. ويبلغ اشتباك نص يماني مع التشكيل حداً يجعله يرى الوجوه وكأنها لوحات زيتية رسمت بدقة، فنجده يقول: “يزينون وجوههم بمساحيق ثقيلة/ تاركين للعرق آخر لمسة للوحاتهم الزيتية” ص47. او يقول في موضع آخر: “تتابع فقط كيف يصبح الوجه لوحة متحركة” ص47 بل نجده يكتب قصيدة كاملة بعنوان “في صحبة فرانسيس بيكون” وكذلك نجد قصيدة بعنوان “درس اللغة الاسبانية” يهديها الشاعر الى التشكيلي المصري عادل السيوي.

ــــــــــــــــــــ

جريدة الحياة 24/ 10/ 2001

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم