في مواجهة أحذية القمع
يبدأ الروائي المصري وحيد الطويلة روايته الأخيرة «حذاء فيلليني» الصادرة هذا العام عن منشورات المتوسط بمقولة لفلليني «اسحب ذيلاً قصيراً، فقد تجد في نهايته فيلاً» مُستدعياً اسمه في عالم الرواية، وتحديدا حذاءه في العنوان.. فما الذي يمثله حذاء المخرج؟ ولأيّ سبب استدعاه الطويلة؟ وأيّ فيل هذا الرابض خلف ذيلٍ قصيرٍ؟
يُذكرك مشهد بداية الرواية بمشاهد أفلام فيلليني حتى أن الكاتب يعنونه بـ»مشهد ما كان فيلليني ليحبه»، والمتابع لمسيرة فيلليني سيشعر بأن المشهد جاء وكأنه خارج من فيلم «ساتيريكون» تحديداً؛ في رحلة البطل الأرضية ومقابلاته لنماذج من البشر خرافية منهم الأقزام والممسوسون والشواذ بالطبع.. «مطاع» أو «مطيع» الطبيب النفسي -الذي لم يقتل أحداً في حياته سوى النمل والصراصير- يستمع ومن حوله لوقع أحذية السلطة وتنوعاتها في أحد احتفالات الحزب الحاكم.
ولا يُحدد الطويلة زمناً روائياً يُمكّنك من معرفة حقبة الأحداث أو مكانها (سوري، مصري، تونسي، كلها بلاد واحدة وكلنا واحد) -رغم ورود بعض أسماء القادة العرب والمشاهير- إلا أن أحذية القمع الثقيلة التي تتخذ من السلطة ديناً وشريعة تتواجد في كل الأزمان والأماكن، بمجرد أن تعثر علي أيّ تجمع بشري حتى وإن كان خارج فكرة المجتمعات والحضارة، لا مناص وقتها من سماع وقع أحذيتهم.
وانسجاما مع تداولية الأيام؛ فالضحية القديمة تجد جلادها القديم هو الآخر يأتيه مريضاً لعيادته على طبق من ذهب، بعدما خرج من الخدمة وأُصيب بما يُشبه الشلل الجزئي إثر خيانة زوجته مع أحد الضباط، وقد عاشت الزوجة ضحية هي الأخرى لسطوته وجبروته طوال فترة الزواج، وقد حان وقت الحساب بشكل أو بآخر بعد وقوع العجل السلطوي.
حكاية الطبيب النفسي الذي يأخذ دور المريض في الروي؛ الآن هو الذي يحكي ونحن نستمع بعكس ما هو مألوف في جلسات العلاج النفسي، صوت الراوي الممتد عبر الرواية يحكي دون تفاصيل أو أسباب عن تجربته في القمع والسجن دون اقتراف ذنب محدد، وكأن كافكا في محاكمته يكرر نفسه فيما يشبه العود الأبدي، يبتعثها الطويلة مرة أخرى ويبلورها في إهداء الرواية «إلى الذين صرخوا ولم يسمعهم أحد. إلى الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا».. المحاكمة هنا واقعة علي الكل؛ هل كان مُطاع مُدان بحبه لأفلام فيلليني؟ وهل يجوز للزوجة تصفية حساباتها مع مأمون رجلها العاجز الآن.. وكيف انصاع هذا الرجل منذ البداية وتعشق كترس في عجلة القمع السلطوية ليمارس تعذيب البشر! ما هو الجُرم الذي اقترفه صاحب محل العصير وزميل مطاع في السجن.. «حين وقف أمام موظف تسجيل المواليد ليسجل طفله في السجلات، سأله الموظف: ما اسم الأسد الجديد؟ فأجاب: بن لادن، نعم! بن لادن بصوت مأخوذ، ومن ساعتها وعينك ما تشوف إلا النور وهو يدفع ثمن كل جرائم القاعدة والتنظيمات الإسلامية في شتى أرجاء العالم».
وتستمر حالة البوح والحكي عبر جلسات الطب النفسي مع زوجة الضابط لرسم شخصيته الذكورية السلطوية في نفس الوقت فتعترف «عشت مع واحد لا أعرفه».. «الذي يحكي بشواربه عن فيروز، ولم يتذكر مرة: إن شئت تقتلني مرة قتلتني مرتين»، الرجال الغلاظ من هذا النوع كما تقول لا يعبئون بعذابات المرأة معهم وتأوّهاتها في وحدتها الصامتة «لم يعرف مرة واحدة معنى الحنان».. حيث ترى «الضباط يؤمنون أن على رؤوسهم ريشة، شعب الله المختار، يقع من يقع في أتون السلطة وزهوها وتنبت له أظافر من أظافرها»، السلطة هنا تمثل أسطورة العنقاء التي تبعث من جديد كلما ظن أحد الانتصار عليها، وفي نفس الوقت تُجدد أجزاء جسدها من آن لآخر لمواجهة أيّ عصيان.
الأمر الذي يتم تلخيصه من منظور الزوج حين يأتي دوره في الحكي فيميط الحجاب عن الكيفية التي بها تستقبل عقلية القمع المتجبر العالم من حولها «وأنت يا زوجتي العزيزة، تكرهينني الآن، رغم أن مؤخرتك ترقص، صدقيني إنني كنت أريد أن أفض كل النساء لكي يحملن بمثلي، حتى تصير الدولة كلها آمنة من الفئران!».
ولا يتكئ الكاتب علي تيمة سرد التعذيب في المطلق ولهذا لا تندرج «حذاء فيلليني» تحت ما يُسمى بأدب الاعتراف أو السجون أو التعذيب.. «أنا لا أحكي عن التعذيب، فمائة رواية كتبها كتاب من مختلف بقاع العالم لم تشف غليل أحد ولا جعلت السلطة تتوقف عن التعذيب، ولا جعلت الجمهور الغبي يقف ضد التعذيب..»، الصرخة التي يُطلقها الطويلة في روايته تأتي ضد فكرة العبودية من جهة كي لا تتحقق مقولة أفلاطون في العالم «لو أمطرت السماء حرية لرفع العبيد مظلاتهم!»، وعلى جانب آخر هي إعلاء لقيمة الفن الذي يمثله اسم فيلليني؛ الفن الذي هو روح الله ذاته والجمال الذي يُميز الإنسان عن باقي المخلوقات، إذا كان حذاء القمع الغاشم الثقيل يسخر ويُسفّه اسم فيلليني لأنه «يريد أن يُعيد صناعة العالم على مزاجه»؛ فليذهب القمع إلي الجحيم وليقف حذاء فيلليني –الفن- في مواجهة أحذية القمع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، «لا تنس أن حذاءك الذي اشتهر بأنه حذاء فيلليني ربما يكون هو من أوقعك، كانوا يُشيرون به عليك: الذي يلبس حذاء فيلليني أو مجنون فيلليني»، إنه الجنون أو الحُلم الذي أراده مُطاع تحديداً أو وصم به هو نفس الذي نُريده معه لتغير هذا العالم!
ويكسر وحيد الطويلة صاحب «باب الليل» كما يحب أن يفعل في رواياته حاجز الإيهام فيما يرويه؛ فطوال الوقت يتحدث مع المتلقي بصفته القرائية «أنت أيها القارئ أو القارئة» وإن تغيرت الضمائر التي يسرد بها، فيصبح الكاتب وقتئذ مُشاركًا للمتلقي في الحكاية حتى وإن امتلك تفاصيلها، وكما فعل في «باب الليل» يُخبرنا في نهاية الرواية بالمقاهي التي جلس عليها أثناء الكتابة وببعض المعلومات عنها أيضاً.. «تغير اسم المقهى لأربيلا، وزادت الأسعار زيادة فاحشة فانتقلنا بشخصيات الرواية إلي مقهى آخر، وهو ما سبب إزعاجا شديداً لهم، لدرجة أنهم كانوا يغمغمون أثناء كتابة النص».
بعين لا ترمش؛ فهي في لحظة حضور نادرة؛ حالة من الشوف الحاد والكاشف، فقط لنقل التفاصيل وجمع الشظايا ونتف الحكايات، تقرأ ذاتك عبر تفكيك الآخر، أنت وهو في بوتقة واحدة؛ حيث يخفت الضوء وتشتعل الحواس. كل هذا يتم التقاطه برهافة سردية ولغة غير معنية بالزخرفة؛ همّها الوحيد هو رسم المشهد.
في النهاية يتصل الخط الحواري من شخصيات الرواية -حيث كل الفصول حوار طويل يتم بشكل شبه اعترافي- إلى الكاتب نفسه مُتماشية مع المقولات والمفاهيم التي تم طرحها عن تعددية الواقع في الأساس وعدم مصداقية أحداثة تقريباً كما يُخبر فيلليني نفسه سائق التاكسي بأحد المشاهد، ولتكملة الخط الحُلمي يُنهي وحيد الطويلة روايته بعدة مشاهد سينمائية تجمع معظم شخصيات الرواية وتستحضر فيلليني المخرج مُشيراً إلي الحياة التي تنتظرنا على الجانب الآخر من الحُلم، وما بين الحلم والواقع تظل الأحداث الدائرة تحمل طابع الظن أو على حد قوله «على الأرجح، هذا ما حدث!».