قديماً في الفاتيكان، كان الحصول على صوتٍ ذكوري حاد لتأدية الترانيم في الكنيسة من المعضلات الكبرى، فكيف يبقى هذا الصوت الملائكي متواصلاً وغير منقطع من دون أن تحوله هرمونات الذكورة الغليظة فيفقد حلاوته وتأثيره؟ قد يكون الحل بسيطاً: النساء. ولكن فُسّرت قديماً رسالة بولس (لتصمت نساؤكم في الكنائس) على أنها تحريمٌ لأي إنشاد كنسي للإناث. فكان الحل إخصاء الذكور لإبقاء الصوت ناعماً.
في “حذاء فيلليني”، يُفاجئك الروائي بمقدار وعيه وإتقانه تصوير بطل فَقَد رجولته على مهلٍ في غرف التعذيب. فيصير القارئ كأنّه مستمع يتوجّب عليه الوقوف أمامه، قريباً منه، كي ينتبه لما يقول. هذا التحوّل المفاجئ في صوته يقوده إلى التفكير في الانتقام من الضابط المتقاعد بطريقة مماثلة، عبر قطع عضوه الذكري، غير أنّه يعي لاحقاً أنّ فقدانه رجولته لم يُفقده انسانيته. يستعيض عن فكرة القتل الحقيقي بقتل مجازي، فيتخيّل مشهد قتله على يد زوجته، مقتبساً تفاصيله من فيلمٍ لفيلليني. “أنت لا تريد أن تتشفى فيه ولا تتصور موته ولا تتخيل زوال أمثاله من العالم انتقاماً بل خلاصاً لروحه من الهوة”.
ولا يُمثّل صوت البطل المخنوق محور الرواية فحسب، بل إنه يخلّف لدى القارئ شعوراً بأنّه يقرأ الرواية من البداية إلى النهاية على خلفية غناء طفل يقف في جوقة تُنشد بصوت خيالي يشبه السوبرانو، غير أنه يُخصَى في نهاية كل فصل.
كان فيلليني نفسه يُحبّ الغناء، وكان صوته جميلاً في الصغر. ليس فيلليني فقط، بل إنّ “الطليان” عموماً هم أصحاب جينات لأصواتٍ جيدة. وعندما تفوّق أخوه ريكاردو عليه في ذلك آثر الصمت لكنه ظل يغني في السينما. هل يعرف القارئ أن كاتب هذه الرواية يمتلك صوتاً عذباً، بل هو يقول إنه يغني كتابةً؟ الكاتب إذاً يضغط على الجُرح المفتوح ويسكب عليه ملحاً، وهو يعرف تماس الحكايات بين أزمنة وأمكنة وأشخاص مختلفين، لا يوحدّهم سوى الصوت الجميل.
وعلى رغم تعدد الأصوات الساردة في الرواية، نلاحظ أنّ بين تلك الأصوات إيقاعاً واحداً يتماهى وطبقة صوت مطاع، أو مطيع. ومع اختلاف الأصوات، أو الأصحّ تنافرها، نشعر في نهاية الرواية تقريباً بوحدةٍ ما تجمع الجلاد والضحية وما بينهما في الوقت عينه: “على الجلاد أن يجد حقيقته يا مطاع … أنت كنت تصدر الأوامر إليه كأنك تصدرها لنفسك”. ما يفسّر مقولة فيلليني التي بدأ بها الطويلة روايته: “اسحب ذيلاً قصيراً فقد تجد في نهايته فيلاً”.
يتبع الكاتب في “حذاء فيلليني” الإشارات ويجمع الخيوط كمحقّق يريد أن يصل في النهاية إلى “الفيل”، فكتب على لسان الديكتاتور والجلاد وضحاياه.
“الدنيا كلها تعرف السيد فيلليني يا سيدي. إنه رفيق أممي نحن نرى أفلامه وندرس شخصياته وكيف يتعامل معها فيلليني شاعراً وليس مخرجاً فقط يا سيدي”. فيلليني، هذا الفنان الرائع في تاريخ السينما، كانت معرفته ومشاهدة أفلامه ومعالجتها إحدى التهم الموجهة لمطاع، وكم بدا البطل مستغرباً تلك التهمة.
كان يبدو أن فيلليني ليس موغلاً أبداً في السياسة، بل ان مواقفه السياسية يشوبها الغموض، وذلك وفق ما قاله أندريه مينوز في كتابه عنه. كان يقف مع الجمهوريين والاشتراكيين على السواء ولم يصوّت إطلاقاً لمصلحة الحزب الشيوعي، على رغم وجوده في الصف الأول عند تشييع جنازة إنريكو بيرلنغي، السكرتير العام للحزب الشيوعي الإيطالي.
لكنّ السؤال، هل كانت سينما فيلليني بعيدة فعلاً عن السياسة؟ هذا الأمر ينكره معظم المحللين والنقاد. أفلام فيلليني تعمل على تحويل الخطاب السياسي إلى عالم الحلم من دون أن يتحدث مباشرةً عن السياسة. لغة فيلليني السينمائية مموهة. ولكنها أيضاً لغة إنسانية.
فهل أراد الطويلة أن يستخدم فيلليني رمزاً يعبر به عن خوف السلطة من الفن الخالص الذي يمتلك أدواته؟ ثمّ إن سؤالاً آخر: لماذا حذاء فيلليني وليس قبعته؟:
أراد الطويلة حذاءً كبيراً يتّسع لقذارة العالم وقهره وظلمه وحكّامه. وقد يعبّر العنوان عن رغبة البطل الحقيقية في تبادل الأدوار مع فيلليني والذي نفّذ قتل جلاده في النهاية. وقد تكون أيضاً محاولة لإعادة بناء الإنسان من أسفل، من الحضيض. انها السخرية التي تحيط بكل ما له علاقة بالأحذية (رمز الالتصاق بالأرض، منبت الإنسان). تحضر في رواية الطويلة أيضاً نساء فيلليني. كان الرجل العاشق للنساء يرسم النساء كبيرات في لوحاته، بنهود عامرة ومؤخرات ضخمة بينما يرسم نفسه ضئيلاً أمام كل هذا. فيجسّد بذلك قوة المرأة التي يُبرز مفاتنها بأسلوب يمنحها الكثير من العظمة. والمعروف أنّ فيلليني ظل طوال حياته يبحث عن رائحة اشتمّها لأول مرة في ملابس فتاة رقيقة الحال، تعمل في تقشير البطاطا للحساء اليومي. كانت رائحة قشور البطاطا الممتزجة بالحساء هي الرائحة السحرية المثيرة للشهوة.
تعمّد وحيد أن يصوّر نساء “حذاء فيلليني” بصورة مكتملة أنثويًّا، فيجعل القارئ يستكثرهن على أي رجل. تماماً كما كان يرى فيلليني نفسه أمامهن. برع الروائي هنا في تصوير الأنثى من كلّ الزوايا، ولخّص الكثير من الانتهاك الذي يتعرضن له بفعل خِناث لا يقدروا على إشباعهن أو حمايتهن.
بعد قراءة “حذاء فيلليني”، تشعر بأنّ الكاتب المصري وحيد الطويلة استطاع توظيف فيلليني نفسه ليحقق العدالة التي تُشفي الصدور ولو في شكل متخيّل كالذي يحدث في السينما. “حذاء فيلليني” رواية لافتة، قوية، وفيها يُثبت كاتبها مجدداً أنه صوت روائي فارِق يكتب بوجدان أصيل ووعي أدبي عال.