وربما كانت هذه من أولى الإطلالات الإبداعية التى يقوم بها كاتب مصرى – يعتبر نفسه من المركز – على الواقع المغاربى الذى طالما اشتكى من تهميشه – بعد معايشة طويلة امتدت لسنوات عديدة مكثها وحيد الطويلة فى عمله الصحفى بمكتب الجامعة العربية فى تونس، وخبر فيها مذاق الحياة وإيقاعها الباطنى، ودرس الشخصية التونسية بطابعها الطاووس الرزين، وعرف ما اشتهر به أهل «صفاقس» من خواص، وتمرغ طويلاً على عتبات المقاهى التى يعدد منها سبعة ولدت فيها الرواية، مثلما فعل فى بعض رواياته السابقة، لكنه هنا ينتج «بنية سردية» ترتكز بقوة على جماليات المكان فحسب، حيث تقوم بتجميع أشعة الأجساد الأنثوية التى تخطر بخيلاء فى المكان وتصنع منها بؤرة درامية بكل مفاتنها المتنوعة، لتبنى من خلالها أسطورة الغانيات فى عاصمة جربت منذ عقود دخول العصر الحديث بإطلاق العنان للحريات الشخصية وحدها، مع استلاب السلطة الكامل للحقوق السياسية والاجتماعية والإنسانية المتحضرة، ولأن الكاتب يمتلك موهبة شعرية بارزة فى أسلوبه الحيوى المفعم بالصياغات المركزة، فإنه يستهلّ عمله بمشهد سردى لافت، يوجزه فى جملة افتتاحية تصلح لأن تكون عنواناً للرواية – وهى ذاتها التى تختتم بها – إذ يقول «كل شىء يحدث فى الحمام» – يقصد حمام المقهى – حيث تتحرك البنات صوبة واحدة واحدة، أو اثنين اثنتين، خلفهن بمسافة معقولة رجل أو اثنان – كل نوع يدخل إلى بابه الداخلى بعد بهو المرايا المشترك، وسرعان ما يتبادلون الأوراق الصغيرة التى تحمل أرقام الهواتف «كلهم يغشونه، يرمون شباكهم أمام مرآته، يعقدون صفقاتهم، تغمز صنانيرهم ويرتفع خطاف هنا وهلب هناك. وعندما يعودون لمقاعدهم يطلبون بعضهم سريعاً فى الهواتف، يتواعدون على اللقاء خارج المقهى، ينطلقون متعجلين بسياراتهم وصوت العجلات يصل عالياً إلى الداخل لينجزوا المهمة، كل شىء يحدث فى الحمام، كلهم يزورون هذا المشهد التجارى الفج يشى بواقع مشوه لا يجد أفقاً أمامه سوى حرية الجسد يفتقر للعواصف الراقية، تموت فيه الرومانسية على حد ما تلاحظ مغيمة – إحدى نجماته فتقول لجارها على المنضدة المجاورة «لن تجد واحداً يضع يده على كتف واحدة أو يحمل وردة لها، قد يشترى لها عقداً من الفل إن أصر البائع السمج على مطاردته لا ذراع حول خصر، لا غمزة طرية بالعين تحمل وعدا، لا قبلة فى الهواء، ولا كلمة تفوح منها الرومانسية، لذا يحسدون زوجات المصريين واللبنانيين على اللسان المعسول لرفقاتهن، لا غرام فى هذه المدينة، بل لا غرام فى هذه الدنيا.. الفلوس، الفلوس فقط ومهما كانت الصورة كاريكاتيرية مبالغاً فيها، التقطتها عين شاب مصرى مولع بالعواصف متمرس بها، فإنها تشير إلى تطور فعلى ودعت فيه تونس عصر الطرب وأغانى أم كلثوم وعبدالحليم ليحدث كل شىء فى الحمام.
وعندما يشكو جار نعيمة من أن ابنته لا تلتزم بالعودة للمنزل قبل العاشرة مساء، لأنها كبرت وتريد أن تتأخر مع صاحبها تنصحه بأن يتقبل الأمر الواقع ويسلم به، فيرد عليها والغيظ يخنقه «منك لله يا بورقيبة، صحيح عملت الاستقلال والتعليم وتنظيم النسل، محسوب لك، عملت الباهى، لكنك عملت الخائب أيضاً، قويت المرأة على الرجل، مددت الاستقلال، كل حاجة هنا تمتزج اللهجة التونسية بالموقف النقدى للجيل القديم الذى يعترف من التقدم بما يرضيه، ويستنكر ما يصدمه، وتتجلى حينئذ ازدواجية المعايير المبررة فى انتقاء نوع من الحريات ورفض النوع الآخر فى منظومة القيم العربية بصفة عامة حتى اليوم.
تقاعد النضال:
ترتب على البطولة المطلقة للمكان فى رواية «باب الليل» غيبة الحدث الكبير الناظم لجميع التفاصيل فى مدى زمنى ممتد يرصد تحولات الحياة، وحلول مجموعة من الصور اللافتة والنماذج البشرية المجسدة بعناية فائقة مكانه، مما أتاح الفرصة لموهبة الحكى السريع، قصير التيلة، التى يتميز بها وحيد الطويلة، لتجتاح الرواية بأكملها، حيث تترى مجموعة من المشاهد المركزة تحكى قصة شخصية واحدة فى صفحة أو صفحتين على الأكثر، قبل أن تتركها على أحد مقاعد المقهى دون أن تعود إليها إلا نادرا فى سياقات لا تسمح لها بالمشاركة فى الأحداث – لو كانت هناك أحداث – سوى بتعليق عابر، وكأن فصول الرواية التى أطلقها عليها الكاتب أبوانا مجرد تمثيل بصرى لمناضد المقهى يجلس عليها الرواد وتنتقل عين الكاميرا بينهم لتضئ وجوههم برهة من الزمن ثم تتركهم إلى منضدة أخرى، إلى أن يتم إنتاج الفيلم المصور من مجموع هذه اللقطات، على أنها تحتفى فى مجموعها بعرسين لا ثالث لهما، هما الجنس والنضال المتقاعد الملتبس به، والذى تحتكره بعض الشخصيات الفلسطينية التى ترسبت فى قاع المدينة التونسية بعد عودة المنظمة إلى رام الله بالضفة الغربية، فلم يبق لهم سوى حنين الذكريات، وشبق الثورة المنطفئة، واستخدام بقايا معجمها فى التوصيف، حيث يسمى أحدهم فوج الداخلات من بنات الهوى «كتيبة المناضلات» أو يدعو إحداهن للجهاد معه فى المنزل بعد هجرة زوجته يأسا منه، وتتشكل هكذا منضدة المناضلين المتقاعدين المثبتة فى المكان باعتباره الدائرة الوحيدة التى ترسم أفقاً غارباً من الكوميديا السوداء، يتصاعد إيقاعه من فصل إلى آخر، فتتعدد نماذجه بطريقة درامية نامية تعوض خلو الرواية من حدث رئيس جامع، وتوازى فى الآن ذاته مصائر الغوانى البائسة، حتى تلتحم بها فى تعاطف إنسانى ومصيرى فاجع فى ختام صفقات الجسد والثورة إبان وهجمها المشترك.
والطريف أن الكاتب يسمى أول باب يقدم فيه بعض هذه النماذج «باب الهوى» حيث يقول: «عاد الفلسطينيون إلى رام الله وإلى غزة بعد أن قضوا أعواماً فى ضيافة تونس منذ الخروج من بيروت عام 1982 بسرعة لملموا تاريخهم وما اتسعت له حقائبهم وتجمعوا صفوفا ليتأكد من أسمائهم، بضعة أفراد لم يجدوا أسماءهم فى كشوف العائدين، هو واحد منهم، اسمه كان فى كشوف الإسرائيليين، ممنوع من العودة، يده ملطخة بالدماء قضى عشرين عاما من النضال تحت راية الثورة الفلسطينية فى بلاد الله ومثلها فى تونس بعد أن طارت الراية أو تبدلت، يتذكر دائماً طعم العملية الأولى، كانت فى بوخارست ضد واحدة من عصابة الهاجاناة اليهودية التى دبرت مذبحة دير ياسين.
كان يستمتع ببقية عمره سعيداً فى رمانيا.. تقدم منه أبوشندى وأرداه قتيلاً باسم الثورة الفلسطينية ثم رفع يده بعلامة النصر وانتقل للإعداد والتخطيط وتكوين المجموعات، وكان من بين أعماله شراء ماخور فى ألمانيا وتخصيص الدور الأول فيه للقمار، والأعلى للسكنى والمبيت، والأسفل مخزنا للقنابل والخرائط وأجهزة الاتصال، كان يفاخر بأنه حتى الثورة تحتاج للمومسات، نموذج آخر للمناضلين أبوجعفر المنصور حامى الثورة فى العراق الذى وجد نفسه بعد سقوط صدام مهزوما فى أعز ما يفاخر به «الناس هنا تناضل فى كرة القدم وعجيزات النساء، فى لقمة العيش وتفكر بشره شديد فى النقود»، وعلى الرغم من أن العراق ظل يسكنه حتى النخاع فلم يعترف بموت صدام بل ظل يهتف بصدق «صدام لم يمت، إنه قلب الأمة» وبين مناضد البغايا وبقايا المناضلين تتم ألعاب الهوى وحركة الحياة فى هذه البؤرة الساخنة من المجتمع التونسى.
سيدة المقهى:
لكن حفاوة وحيد الطويلة بالجانب الأيروتبكى فى روايته تتجلى فى مشاهد طويلة من أوصاف الجسد الباذخة لنماذجه المتنوعة، نكتفى منها بالإشارة إلى ربة المقهى لتعدد أبعادها فهى «امرأة ذات ثديين سخيين يمكن لطائر صغير أن يحط عليهما، وذات وعود – كما يقول شاعر مصرى اسمه عبدالمنعم رمضان – الإثارة تتقدم إلى الأمام بكامل زينتها وأناقتها كأنها مدعوة إلى حفل على شرفها يؤمه الوزير الأول لا ذاهبة إلى مقهى.. على رأس الطاولة تجلس كطاووس بأبهى الألوان، تبدو كيدة أولى لولا أن سيدة أولى فى المدينة قابعة فى قصرها لن تسمح لها، والمدينة صغيرة، وكل همس فيها تحمله ريح خفية إلى أذن أو سريرة، هى لا تريد أن تصل إلى هذا الحد حتى لا يقام عليها الحد.
لذا تضع صورة الرئيس فى ثلاثة مواضع بارزة من المقهى، لا تكتفى بواحدة معتمدة كبقية المقاهى، تشترى الرضا من بعيد وتوهم الآخرين بقربها وتتفوق عليهم، ما من أسبوع يمر حتى تحكى كيف انفتحت لها طاقة القدر عندما اختار الرئيس أن يجلس إلى طاولتها لدقائق فى سهرة ما، ويبادلها الحديث وتأكل من طبقه، لعل هذا الخيط السياسى الرفيع الذى أدمجه الكاتب بمهارة فائقة فى نسيج الرواية أن يكون العصب الحى الذى أخذ يتعاظم باحتلال رجال الشرطة والأمن والمخابرات، ومن يلوذ بهم منضدة أخرى فى المقهى حتى يكونوا على مقربة من التقاط كل شاردة وواردة فى الشارع العام، وقد تذبذبت علاقات سيدة المقهى بهم فى ظل الخضوع التام والحماية المطلقة، ولكن متابعة مصائر بعض الشخوص الأخرى أبرزت فداحة إدارتهم للحياة فى الدولة البوليسية القامعة، فغسان المنحدر من أب سورى وأم تونسية والذى كون ثروة وجاها أتاحا له أن يطمح إلى لعب دور سياسى بالترشح فى الانتخابات يتم إقصاؤه بقسوة لأن ولاءه غير مضمون للحزب بالرغم من تقديمه جميع القرابين، وعندما تهب رياح التغيير غير المنظورة فى الرواية لا نرى من علاماتها سوى خلو منضدة رجال الأمن، بعد أن ألقوا اللوم بشدة على السيدة درة، لأنها فى فورة حماسها لإظهار تأييدها للنظام علقت يافطة كبيرة لتهنئة الرئيس بقدوم الخريف، وكأن هذا إيذان بخريف البطريرك، وتشرع السيدة فى إعادة هيكلة مقهها ودهانه، فتركن صور الرئيس فى الحمام، وفى لفتة ختامية رمزية دالة تنظر إليها لبرهة قبل أن تستعد للخروج، ثم تعود فى اتجاهها مرة ثانية، وفجأة تركلها بقدمها فتتساقط مبعثرة على أرضية الحمام، فتحمل بأطراف أصابعها بقاياها لتلقيها فى سلة القمامة، وبهذا نرى مرة أخرى أن كل شىء يحدث فى الحمام.