وحيد الطويلة: سارد مصري “يلعب” مع الثورات ” ألعاب الهوى”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أنيس الرافعي *

في واحد من أفلام إيليا كازان يتحدث البطل مارلون براندو عن بلاد بعيدة يحلق في سمائها طائر غريب  بلا سيقان. لا يكف عن الطيران. ينام في الريح، ولا يُحط سوى مرة واحدة في حياته...مرة واحدة لا غير كي يموت . 

  هكذا رأيت دائما  القاص الروائي المصري وحيد الطويلة، لأن عشرته تعلمك بأن الأمكنة لا تفي دائما بذريعة المكوث، وبأن عليك أن تمتثل سريعا لوصية الأجنحة .    وبما أنه الكاتب المصري الذي يقيم في كل مكان ، كناية عن كثرة  ترحاله بين الجغرافيات والأفئدة، فمستقر وحيد الطويلة الأثير هو المقهى ، لدرجة أن رهطا من أترابه وخلانه قرّ عزمهم على تنصيبه رئيسا شرفياً لرابطة المقاهي العربية، مع وعد قاطع من لدنه بعدم المكوث في منصبه لأكثر من دورة واحدة، نكاية في حكامنا الطغاة الذين يصير الكرسي جزءا من أطرافهم، ويتحولون إلى جلطة مزمنة في دماغ الديمقراطية .

   في انتظار تبلور حلم تأسيس دولة المقاهي، يقيم وحيد الطويلة عرشه فوق ﺃرجيلته. لا يشرب سوى معسل ” الجيراك ” الهندي الخاص بعتاة المحترفين، ولا يعتمر سوى قبعات مكسيكية، ولا يعلق على باب روحه سوى  قولة سعدي يوسف ” عش في الهامش ، واكتب في الواجهة “، ولا يسامر سوى من يضمر له هكتارات فسيحة من المحبة أو الصداقة.

   وإذا عزّ الجليس، فإنه ينسحب إلى ﺃبعد نقطة من نفسه الأمارة بالتواري، ليغدو مثل ممثل بدور واحد يقتصر على إلقاء برولوغ قصير في مستهل مسرحية تحت بقعة ضوء حاد، وبمجرد انتهائه يتقهقر إلى الظلام.

  الظلام حيث يحلم يقظانا بأن عصفور الجنة سوف يدخل عما قليل، حاملا ابنتيه البعيدتين على جناحيه .  يقول وحيد على لسان ديريك والكوت ” شكراً لليد  الكريهة التي لا تنتبه للسرعة الفائقة التي تحطم بها آنية الورد ، شكرا لمقدار الحب الذي تبذله اليد ذاتها لجمع الشظايا ” . يقول شكرا للظلام، ويتفتت كبده كمدا ومرارة ، كلّما تذكر الطريقة السريالية التي نفاه بها النظام المصري السابق من وظيفته إلى ما يوازيها في تونس ، بيد أنّه يكون مظفرا في هزيمته ، فكلّما رأى نفسه مشروعا خاسرا في الوجود كلّما ربح نصوصا أجود.

  يقول شكرا للكتابة التي تحمل أوجاعه في قلبها، وحيثما مالت به يميل. الكتابة التي كانت دائما بالنسبة له بمثابة اليد الفريدة التي تستقر فوق مفرق الأحزان. وكلّما خرّبه البطش رمّمته الكلمات .

  يتمسك بخيار المقهى أكثر من أي وقت مضى، فيجعل  الأنفاس الحارة للملائكة التي تمصلت لتوها من ﺃسر الدخان تطوف حواليه ، ثم ينخرط في عملية احتجاز الحكايات، وتكبيلها بحبال وهمية إلى أرجل  الطاولة كي لا يسمح لها بصقل فكرة الهروب .

 هناك كتب وحيد الطويلة مجموعتيه القصصيتين البديعتين ” خلف النهاية بقليل ” و ” كما يليق برجل قصير ”  بروح المنصت إلى قراءة الشيخ مصطفى اسماعيل، حيث يتدرج إيقاع السرد ويصعد مباغتا إلى ذروته ، وبعقيدة المغني الذي يتفاعل مع مقامات زياد الرحباني وتمددات الحنجرة الفيروزية التي تصعد إلى أعلى القوس، ثم تهبط حنونة إلى القاع مثل حركة البجع .

  ومن لحظتها وهو شاعر القصة وصاحب حرفة مائزة فيها ، شيمتها  أناقة المزجّج ودقة الصائغ كمن  يكتب ليصقل ﺇهاب المرايا، أو ليشحذ الحجر الكريم على ظهر المِسنّ .

 ” ويتسع جرح الموسيقى ” كما قال جمال القصاص، ليلقي وحيد الطويلة بحجره في بركة الرواية . ومن المقهى  ذاتها الذي يقع أينما سقط ياطر الكاتب، يستقر مثل الملاك الصامت لريلكه، ليشكل حيوات ﺃكثر وليشيد عوالم  أفدح في عمليه ” ﺃلعاب الهوى ” و ” ﺃحمر خفيف ” ، بلغة حية طازجة، لا مخنوقة ولا مفتعلة، أو متشيئة، بل بنت بيئة الرواية وسليلة تقاليدها الشفوية  العريقة، لدرجة أن  بمقدورك أن تقرﺃها بصوت جهي، أن تغنيها، أن ترتلها ترتيلا، وأن  ترويها كقصّاص الأثر في ساحة شعبية  و تدهش الحاضرين وتضحكهم وتبكيهم في الآن ذاته بالواقعية السحرية لتلك الأرض، التي ملؤها رجال غلاظ يسرقون كي لا يسرقوا ، وصيادون بلا سمك ، وشذاذ آفاق  هربوا من كل الأصقاع سواء بسبب سجن أو ثأر، غير أن الحكومة لم تستطع ولوج منطقتهم،  ولا اختراق قانونهم الخاص الذي أقاموه في غفلة منها، ثم انصاعوا له بحذافيره .

ترى ، هل فعلا يؤمن هذا الصعيدي الأصيل مع أهل قريته الفقيرة، التي تسمى صومال مصر، بأن  على الناس أن يحكوا مصائرهم  بالسجع والتكثيف والموال والجوع  والفظاعة ، كي تسمعهم الملائكة جيدا ؟.

  بيد ﺃنه في عمله الروائي الثالث، المرتقب الصدور مطلع العام 2012 ، تحت عنوان ” أماكن حساسة ” ، سوف يستعير وظيفة المونتير التي طالما تاق لأن يشتغل بها منذ نعومة خياله، وهو يتابع أفلام فلليني وبازوليني وفرانسوا تريفو وجون لوك غودار وصلاح أبو سيف ، فيسلط  نظره عبر كرة بلورية من مختلف الزوايا على  واحد من أشهر مقاهي العاصمة تونس، ليرصد ما يمور بين أوصاله وكواليسه من فساد مزمن يمتد من أسفل الجسد إلى أعلى السلطة. فساد يتم احتجازه داخل الزمن وتحويله إلى سرد بصري مسجل بمختلف الجنسيات ، حيث تدون كاميرا الكاتب البيولوجية سيرورة الأحداث والوقائع في مشاهد متعاقبة ، تثبت تدفق الزمن وسيلانه، ليتحول إلى نقطة تابثة غير أنها لا تني عن توليد دينامية المحكيات الصغرى الموازية، تماما  ككبة من الصوف وقد سحبت منها بالتناوب أياد خفية  خيوطها في شتى اﻹتجاهات . 

وحيد الطويلة، أيضا، هو الصوت الرخيم الطروب مثل طائر ” الققنس ”  الأسطوري، الذي قيل بأنه

يموت كلما انقطع عن التغريد . لذا فهو يغرد بذاكرته إذا ما فاض كرم مزاجه،  قصائد شعرائه المفضلين: محمد عفيفي مطر وعبد المنعم رمضان وعبد الرحمان اﻷبنودي ويانيس ريتسوس وحلمي سالم ، أو اﻹلتمعات السردية  للرواة الأقرب إلى نبضه: خيري شلبي وسعيد الكفراوي وعزت القمحاوي وزيد مطيع دماج  .

   أما إذا ناسب الطرب مقتضى الحال، فإنه يتحفك بجولة فنية مشفوعة بالشرح الموسيقي المعمّق لصناعة القصبجي ﻟ ” رق الحبيب “، أو  لدور وجيه عزيز في نداوة صوت جوزيف صقر، أو للطيور الحزينة التي تنطلق من حنجرة نبيهة كراولي، أو لحلاوة حرف الحاء في غناء فايزة ﺃحمد،  وللعسل الصوفي  المتقطر من بحّة أخيه الفنان ﺃحمد الطويلة حين يغني لك ” قلوب العارفين لها عيون ” . وهلم شرحا مستفيضا للمقامات والإيقاعات، وشدوا  لا ينقطع ” بحنجرة رائقة ، تزقزق في مسمعك كالوتر الراجف ” مع المواويل الشعبية والأغاني  الموريتانية والجزائرية والمغربية والسودانية، حتى يتآكل فحم الليل من كثرة السهر .

 وما لا يعرفه الكثيرون، أن وحيد الطويلة هو الرجل الذي عاش ثورتين . فبوصفه المنتمي الأبدي إلى صفوف المقاومة الشعبية  العفوية ، والمثقف الذي أدرك مبكرا أن الثورة ﺃكبر من عقول النخبة، فقد رابض مع شباب الفيس بوك  في شارع الحبيب بورقيبة منذ انطلاقة شرارة عربة البوعزيزي، وكتب بالقلم وبالفعل معا أجمل يوميات الثورة التونسية .

  ولما زمجرت إرادة الحياة وفر ذلك البعبع الذي كان وكيلا لشعب بأكمله في الوجود مفسحا الطريق ﻹندلاع الياسمين ، طار في ليلة سقوط قصر قرطاج إلى ” الكعكة الحجرية ” و طالب من ميدان التحرير بالوطن المؤجل،  وبتنحي ﺃكبر مؤسسة للقهر في عالمنا العربي .

  صاحب الفؤاد الوحيد، الغريب المكتظ بالأصدقاء والأماني، استعصت عليه اليمن وسورية ، غير أن كلماته صارت لسان حال ” رابطة شباب مستقبل سوريا ” لما نسخوا  بأعداد غفيرة مقالتيه  ” أن تأكل من صحن السيد الرئيس ”  و ” النداء الأخير على  بشار الأسد ” ، وعلقوها على الجدران ووزعوها سرا ً كالمناشير الممنوعة داخل  ردهات ” جمهورية الرعب “، تماما  مثل  نظرية تحقق المتخيل في الواقع ، وكما يحدث بالضبط  لشخصية الكاتب في  واحدة من روايات أميركا اللاتينية  ” أنا الأعلى ” للباراغواياني ﺃغوستو روا باستوس.  

 ثمة أبطال كُثر مزيفون لأنهم يخافون أن تسقط نجوميتهم إلى حصى القاع ، وأن  ينتحر مجدهم في الذبول . عدا أن وحيد الطويلة بطل حقيقي لهذا الزمان. بطل سري لا يدعي مزاولة البطولة، ولا يهرع لإنقاذ الأعمال الكاملة لصيته غبّ أي زلّة شاشة. وحيد  أسطورة شخصية لا شاشة لها، غير أن الجميع يراها .

وحيد….كوكب صالح للحياة .

 ….

* كاتب وقاص من المغرب.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم