هذا كتاب يرتّق فراغات الذاكرة ، يحفظ المشاهد والناس والأيام ، بعد انتهاء القراءة سنعرف أن علاء خالد وضعنا في مأزق ، فلن نستطيع أن نفلت من إساره كلما زرنا المدينة . الشاعر المشّاء ، العارف بالدروب والناس ، يكتب عن المدينة الملهمة أصلا بشاعرية دافئة وحميمية ، هذا الكتاب سيظل مرشدا في شوارع الإسكندرية لكل من قرأه لفترات طويلة . يضم الكتاب العديد من الصور الفوتوغرافية شديدة الجمال ، وإن كان عيبها الوحيد أنها بالأبيض والأسود فضاع كثير من جمالها .
لم يتعامل مع المدينة بشكل تقليدي ، وضع ذاكرته نقية بين أيدينا ، الحضور الأقوى للبشر والأماكن ، والبحر يغلف كل هذا برائحة اليود وطعم الملح . جمال الدولي يكتب على الحائط ” أنا بحب ليلى علوي ” ، وكلما طُلي الجدارعاد يكتب من جديد ، عباراته كأنها احتجاج على شيء ما ، يكتب متخفيا بالليل ويهرب ، لم يرَ أحد جمال الدولي ولا يعرفه أحد ، وظلت سيرته متناثرة تتناقلها الألسن .
المغني الهندي يسير جوار الترام البطيء يقدم عرضه ، يسير بالدراجة ، يد تمسك المقود ، ويد تحمل الكاسيت الكبير ، يوازن نفسه ويغني ، تعابير وجهه تشي بنشوة كاملة ، العرق يتفصد من جسده جراء المجهود ، ويظل يغني ولا يبالي بأعين الساخرين ، عايدة بائعة الورد ، تظهر في كل مكان ومن لا مكان ، وغالبا ما تظهر في المقاهي حاضرة البحر ، كبريائها يشي أنها كانت تعيش حياة مستورة ، يجبرك كبريائها أن تشتريَ منها وردة ، عايدة لم تعد تظهر منذ أعوام وقال البعض انها ماتت .
في مقهى الحاج صالح وأولاده تختفي الحواجز تماما ، أولاد الحاج صالح ، محمد وعبده وأختهما الكبرى عايدة أو عيدة، يعيشون حياتهم كاملة في المقهى وسط الجالسين ، يأكلون ويشربون وينامون ويتشاجرون ، كل شيء يتم بأريحية تامة ، كأن الجالسين من أهل الدار ، عبده الفتوة ، محمد الذي يجمع عشاق الاتحاد السكندري في المقهى كل أسبوع ، وعيدة الضخمة السمراء ، العانس طيبة القلب ، وإن أظهرت غير هذا .
عم عربي الشحاذ الذي أراد أن يفر من أسر الحياة فيه مس من جنون وشذوذ ، هؤلاء المدينة دونهم ناقصة ، وصف علاء خالد يجعلك تتمنى أن تراهم إذا ذهبت إلى الإسكندرية .
بطبيعة الحال ، لا يمكنك أن تتحدث عن الإسكندرية ولا تتحدث عن البحر ، كل شيء يرد إليه ، هو أصل المادة الخام التي منها خلقت المدينة وله فيها كل شيء ، يصلح لكافة الأغراض ، تكلمه وتبث إليه همومك وسوف يتقبلك دون أي اعتراض ، يمنحك ما تريد عندما تجلس مع الحبيبة ، يوفر لك ما تشاء عندما تسير مع الأصدقاء ، تستلهم منه الرحابة إن كنت ضيق الصدر .
وأينما وليت وجهك ناحية المدينة ستكون المقاهي المطلة عليه ، التجارية والوطنية والكريستال ، وللأخيرة الحضور الأهم ، حيث كانت في التسعينيات – وحتى الآن على ما أظن – الراعي الرسمي لنقاشات مثقفي وكتاب الإسكندرية ، مقاهي الإسكندرية بشكل عام تختلف عن المقاهي في أي مدينة أخرى ، فلن يكون مستنكرا أبدا أن تجد عائلة كاملة تجلس على المقهى ، فالمدينة تتحول إلى مصيف طيلة 3 شهور كاملة .
بار الشيخ علي وبار الوطنية – تحولت إلى مقهى الآن – وبار سبيد فاير ، كلها في مربع واحد تقريبا ، ورويدا رويدا ، حاصرها المد الديني بعد أن كانت أماكن عادية مثلها مثل المقاهى ، صار الداخل والخارج محل استنكار من العابرين وأصحاب المحلات المحيطين ، فيما سبق كانت توفر مكانا ممتازا للنقاشات الفكرية والثقافية المحتدمة . والبارات بشكل عام عالم غريب ، لن تستطيع أن تسبر غوره في جلسة واحدة ، سوف ترى كل الأطياف ، سوف يحكي لك الغرباء حكاياتهم سواء بشكل مباشر أو إذا سمعتها عرضا ، سوف تجد الباكين والضاحكين ، ولكن للأسف اختفت زهوة البارات في الاسكندرية في منتصف التسعينيات
يتحدث الغرباء عن الشيء الرائق في الإسكندرية ، هذا الروقان الذي انعكس على تصرفات أهل المدينة – وخاصة في السيتينيات – الإسكندرية المدينة الكوزموبوليتانية ، مأساتها أنها تجمع الأشتات وتفرقها في وقت واحد ، هل تطوّق البحر أم يطوّقها ؟ ، البعد عن القاهرة جعل علاء خالد قلقا ، فالمركز مليء بالأحداث والأشياء ، يخشي أن يفوته شيء ، جعل الإسكندرية مركزه ، يستغني بها عن صخب القاهرة وإزعاجها ، ويعود إليها بعد كل رحلة ليستريح ، مثلما يفعل العاشق أو المحارب أو المهزوم سياسيا .