وجوه الملاك

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسني حسن

استدعاه رئيسه على عجل، وللأهمية. أشار له بالجلوس على المقعد الوثير بمواجهة المكتب ريثما ينتهي من التأشير على الأوراق أمامه. راح يتنفس، بعمق، محاولاً إبعاد تفكيره عن الموقف وتفاصيله، في مسعى منه لإخفاء انفعاله والسيطرة على قلق غامض أحسه يتمدد بروحه، ويستبد بخاطره، مذ أخبروه بسؤال الرئيس، الملِح والمتكرر، عليه طول النهار.

-في الأمر سر.

 قال لنفسه. لم يطلبه رئيسه من قبل، أبداً بمثل هذا الإلحاح. بل ربما ما استشعر وجوده في المكان، أصلاً، يوماً! عموماً فليهدأ ولينتظر، وخبر  غالي الثمن الساعة، هو خبر بلا ثمن بعد ساعة. أزاح الرجل المهيب آخر الوريقات، التي قام بتوقيعها والتأشير عليها بالحبر الأحمر، جانباً قبل أن يرفع رأسه بتؤدة، ويواجه مرؤوسه بوجه شمعي خاوٍ من الانفعال، وبعينين زجاجيتين تتوامضان كانعكاس الشمس على سهل شاسع من الرمال البيضاء. أخيراً، اغتصب الرجل ابتسامة صغيرة، عقفت زاوية فمه المزموم فأضفت عليه مزيداً من الغموض والقبح، ثم قال:

– أحتاج إليك في مهمة على درجة عالية من الأهمية، وقد قدرنا أنك أفضل من يمكنه القيام بها.

أفلتت الكلمات من بين شفتيه بلا روح، برغم مضمونها الإيجابي والمشجع، فيما لاحت، للجالس المتصلب في مقعده، ظلال ابتسامة غريبة، ماكرة وشهوانية، تُبشِع وجه رئيسه مزيداً من التبشيع. سيطر على اشمئزازه، الذي أخذ يصّاعد في قلبه، ورد بثبات محسوب:

– تحت أمر سيادتك.

– ستجد كل التفاصيل، ونص التكليف، في هذا المظروف. اقرأه بعناية، ونفذ فوراً.

نهض من مقعده، وتناول المظروف الأبيض المغلق الذي قدمه له الرئيس. انحنى انحناءة خفيفة محيياً، وقبل أن يدير للرجل ظهره، ويهم بمغادرة المكتب، عاجله الأخير، مردفاً:

– لستُ في حاجة للقول إن القيادة مهتمة جداً بهذا الأمر، وعلى أعلى المستويات.

صمت المتحدث لثوانٍ، ثبت فيها نظرته الكريستالية بعيني المرؤوس، ثم غمزه بالقول:

– وربما وجدتَ في المهمة شيئاً يمتعك، ويرجع بك عبر الزمن.

حياه وانسحب مسرعا، فيما تعالى في صدره صخب السؤال عما يعنيه، بحق الشيطان، ذاك الثعلب العجوز بكل هذا اللغو المريب!

للأحلام المجهضة، حين تستعاد، مذاق الملح؛ كاوية ومغوية. يخال للإنسان أنه يؤسس لوجوده، بل لخلوده، على الحجر الصوان، فيروح يقطع الأرض، شرقاً وغرباً،  شمال جنوب. يضم العالم بين جناحيه، ويحلم؛ مثلاً يحلم بأنه سيغير العالم، بأنه سيقيمه على قدميه بعد أن بقي، كل تلك القرون والحِقب، واقفاً، ومن دون أن يدري، على رأسه! ويحلم كذلك بالحب، لا بالحب الملتبس المعجون بطحين الكراهية والنفور، والذي يجدر بقرد عارٍ، لم تنتصب قامته تماماً بعد مهما توهم أنه قمين باقتطاف النجوم، بل بالحب الراشد والراشح بالنضج الروحي والشعوري، الحب الذي لا تستطيعه حتى الملائكة ولا كائنات النور. ويوماً بعد يوم، عاماً إثر آخر، يعي الحالم هشاشة حلمه، تلك الهشاشة الملحية الكاوية الغاوية. لكن، ما الضير؟ للملح رسوخه وصلابته أيضاً. تذكر بحيرات الملح البلوري في واحة سيوة. قال لهم المرشد السياحي إن أهل الواحة كثيراً ما لجأوا إلى بناء بيوتهم، وإقامة جدرانهم، بقوالب الملح وشقفاته البيضاء. صحيح أنه استغرب، حينها، ذاك التزاوج، المدهش، المركوز في بلورات الملح، بين الصلابة والهشاشة، بين الكثافة والخفة، غير أنه قبل ذلك، بفرح وبتشفٍ غامض.

انكب على دراسة الملف الذي وضعه رئيسه بين يديه دراسة مدققة. ظل مقيماً على تساؤله الحيران بشأن الأسباب التي دعتهم أخيراً، وأخيراً جداً، إلى تذكره والعهدة إليه بمثل هذه المأمورية الدقيقة التي لا يكلف بها إلا الأكفاء من أهل الثقة. صحيح أنه لا يقل، بحال من الأحوال، كفاءة عن أكفأ زملائه، لكنه لا يُصنف، عادة، بين أهل الثقة والحظوة. عندما قرأ اسمها في الأوراق أمامه، انكشف كل شيء أمام ناظريه بغتة! كانوا يعرفون قصته معها طول الوقت، وكانوا يحتفظون بصفحاتها القديمة المصفرة، التي ظن أنها اندثرت تماماً، في قاع خزانة عتيقة من رصاص وصُلب، خزانة الذاكرة البيروقراطية التي نفضوا عنها غبار السنوات والعقود  حين دعت الحاجة. هل يمكنه أن يعتذر عن المهمة؟ بالقطع لا، إلا إذا أراد وضع رقبته تحت مقصلة أمن البيروقراطية. سحب أنفاساً طويلة من سيجارته المستوردة، وأخذ  يخرجها بهدوء شارد. كان قد اتخذ قراره، وعليه  أن يشرع في التنفيذ من فوره.

قدم نفسه إلى مسؤول الاستقبال بالفندق، مؤكداً على أن “الضيفة الأمريكية” على علم بقدومه، وأنه  يرغب في إعلامها بانتظاره لنزولها. استجاب الموظف الأنيق بابتسامة مهنية لزجة، وهاتف “الضيفة” في غرفتها، ناقلاً إليها مضمون الرسالة، ثم أشار عليه، بتهذيب معلب بالغ البساطة، بانتظار نزولها باللوبي في غضون دقائق. جلس بمواجهة المرآة البلجيكية الشهيرة التي وصفها “داريل” في روايته “جوستين”، فشعر بالانزعاج قليلاً! لماذا تتآمر عليه الذكريات، مع الأحلام، مع الخيالات الروائية، مع الانتظارات الصعبة، كلها دفعة واحدة على هذا النحو؟ أحس بقلبه يخفق بقوة في صدره. ود لو أن اللحظة تتطاول وتدوم، حتى الأبد، فلا يراها داخلة عليه، بقامتها القصيرة، وسمرتها المصرية الشائعة، وعينيها الملائكيتين الرحيمتين، وسنتها الأمامية الناتئة قليلاً، وبصليبها الذهبي، دقيق الصنع، الذي طالما رآه يتطوح فوق صدرها الصغير المراهق. ود لو يندثر في النسيم الواني المنسل من النافذة الكبيرة للفندق المواجه للميناء الشرقي الحبيس الذي قطعا كورنيشه الدائري، مراراً، قبل ثلاثة عقود، أو أكثر قليلاً. واشتهى، متعجباً مستنكراً وملتذاً، لو أنها عرفته من أول نظرة، لو أنها ألقت كل شيء وراءها، أو أمامها، ولم تهتم إلا بأن تضمه إليها، وتستريح بين ذراعيه، وتهبه قبلة لم يرشفاها أبداً!

– حنان حكيم.

فوجئ بها قبالته، مباشرةً. قام من كرسيه كالمستيقظ، لتوه، من نوم قصير مجهد تناوشته الأحلام والكوابيس. بذل جهداً خرافياً للسيطرة على جسمه، وملامح وجهه، ودقات قلبه، ونظرات عينيه، مذكراً نفسه أنه، قبل كل شيء آخر، في مهمة رسمية ووطنية.

– شرفت بلقائك. أرجو ألا أكون قد جئت في وقت غير مناسب.

– أبداً. أنا انتظرك مذ أخبروني بمرافقتك لي في جولتي بالإسكندرية. هل شربت شيئاً؟

– لا داعي، لا أريد أن آخذ من وقتك الكثير.

– إذن نشرب القهوة ونحن  نتحدث في العمل. تحبها مضبوطة، إذا لم تخني الذاكرة؟

أحس وكأن  قلبه قد انتزعته يدٌ ضخمة غليظة من بين ضلوعه، وصارت تضغطه وتفركه وتلوكه. نزلت كلماتهما، القليلة الرسمية والمتحفظة، كمطرقة ثقيلة على رأس الأحلام والذكريات والتخيلات، لتهشمها تهشيماً، وتذروها في ريح فلاة جليدية باردة. وبالرغم من ذلك، فقد كانت هي أول من يشير بينهما إلى الذاكرة.

– الحقيقة، لم أتوقع، أبداً، أن أقابلك أنت، بالذات، في مثل هذه المهمة. لما بعثوا لي بالاسم تحيرت قليلاً عما إذا كنتَ أنتَ هو، وفي الأخير، خمنت أنهم، ربما، قد اختاروك، أنت بالذات، لنفس السبب الذي يُشعِرك، ويُشعِرني، بالحرج في هذا الموقف.

ابتسمت واحدة من ابتسامتها، الملائكية اليسوعية، التي بقي لسنوات يراها معلقةً في أفق رغبته واشتهائه، ثم همست بأسى:

– كنتَ تتخيل أنك قادر على تغيير العالم، انظر، العالم لا يتغير، وإنما نحن!

– ولماذا تعودين الآن يا حنان؟

استسلما للصمت، لدقيقة، سمحت للنادل أن يصب لهما قهوتيهما، ويذهب. زفرت:

– سؤالك رسمي، أم شخصي؟ على كل حال لا فرق، سأجيبك، لكن عليك، أنت أيضاً، أن تجيبني عما يدفعك لقبول كل ما يجري هنا، بل والسكوت عليه، وربما تبريره، أو حتى التورط فيه، على هذا النحو أو ذاك؟

– أنا أعيش في هذا البلد، هو بلدي وهم ناسي.

– وأنا أمريكية! هه! جئت ممثلة لأحد المراكز الحقوقية والمدنية وثيقة الصلة بالكونجرس! ودورك أن تنقل لي صورة وردية، أو حتى مجرد إيجابية، عن أوضاع حقوق الإنسان هنا! وأن تقنعني أن الأقباط لا يعانون من أي تمييز، ولا اضطهاد! أليس كذلك؟

– لا أريد إقناعك بأي شيء، فقط أنا لا أصدق وجوه الملائكة، رأيتها كثيراً مرسومة على الأيقونات أو أسقف الكنائس، لكني لم أصادفها، أبداً، في كل النهارات القائظة التي عشتها طول خمسة وخمسين عاماً، لو أن الملائكة معنية بنا حقاً، لو أنها مهتمة لهمنا، أفلا كان يجدر بها ألا تهجرنا، و تذهب إلى هناك، إلى أسقف الكنائس الباذخة، أو إلى أرض الأحلام الفارهة؟

– ألم أقل لك؛ إننا نحن من يتغير؟ أنا وأنت؟! عموماً، ستكون خطوتنا الأولى، في جولتنا بالإسكندرية، هي زيارة الكاتدرائية “المرقسية” التي شهدت التفجير الأخير.

كانا قد فرغا من احتساء القهوة. نهضا خارجين، وقد أوليا ظهريهما للبحر، متجهين إلى كنيسة الأقباط. بطريقة ما، أدركا، ربما متأخرين جداً، أن طريقهما لن يكون، لم يكن، أبداً، واحداً! فلاكا الصمت، حتى وصلا لهناك.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project