عبد الرحمن أقريش
الخريف. مالت الشمس نحو المغيب، تسللت خيوطها الدافئة من بعيد، ترسم ألوانا وظلالا لغسق جميل وحزين.
وضع الكتب والجرائد على المائدة، بدا متعبا وحزينا، جلس متهالكا على الكرسي، طلب قهوته بإشارة من رأسه، وراح ينظر لحركة الشارع بنوع من اللامبالاة، نظرة يائسة، عمياء، كان ينظر، ولكنه لم يكن يرى، لم يكن يسمع.
انتبه للحظة، بدا المكان كافكاويا، غارقا في البؤس وبدون تفاصيل مترفة، موائد وكراسٍ خشبية فقيرة وباهتة، اجتاحته كآبة عارمة، أشعل لفافة، وراح ينفث دخانها بكثير من الرغبة والشراهة، ثم انخرط في لحظة غياب، لحظة بياض قوية.
تساءل :
– لم أنا هنا…لم قذف بي في هذا العالم الغريب والقاسي ؟!
عندما عاد إلى نفسه، وجد الشلة يتحدثون عن ظروف العمل، والغربة، وقسوة المنطقة، وملوحة الماء الشروب، وانقطاع الكهرباء، وأعطاب التنمية المستحيلة…
شعر بالملل، هو خطيب ومحاور ممتاز، يتقن فنون السجال والمناظرة، ولكنه هذه المرة قرر ألا ينخرط في الكلام، فضل الصمت والتأمل.
تساءل:
– ما الجدوى ؟!
لسبب ما، أحس أن نزعة الشكوى والبكاء في كلامهم غير صادقة، فبعضهم يبدو مسرورا، البعض يبدو سعيدا، البعض الآخر يبدو سعيدا جدا.
كلهم ينحدرون من أسر شعبية متوسطة الحال، آباؤهم موظفون، حرفيون، وتجار صغار، ينتمون إلى خلفيات فكرية مختلفة إلى حد التناقض، خليط غريب من النماذج البشرية، منهم الفقيه المعتدل، والإسلامي المتحجر، والماركسي الدوغمائي، والمثقف المتنور، والمهووس بالكتب، والمهووس بالمال، والتائه بدون بوصلة، والغبي السعيد، والمتخلف عقليا، المؤمن المطمئن، والمتمرد العدمي، واللامبالي، والمستهتر، والطيب الخدوم، والكسول، والغشاش الإنتهازي، والأناني المريض…
دفع كرسيه إلى الخلف، تحصن بالصمت، وراح يتفرس وجوههم.
مد (بريكس) يده للكتاب، كتاب أنيق، قلبه مرة أو مرتين، مرر أنامله الرفيعة بلطف على الغلاف الأنيق، قرأ العنوان (تاريخ الجنون…) مسح بعينيه الكحليتين الإضاءة المكتوبة على ظهر الغلاف، حاول أن يفهم، كان وجهه الأمرد يفضح حيرته…
هو يفهم أن يكون للحروب تاريخ، تاريخ للممالك والدول، تاريخ للسلاطين والسلالات الحاكمة، وآخر للمجاعات والأوبئة، ولكنه لا يفهم هذا الربط بين التاريخ والجنون.
يفكر بصمت:
– عم يتحدث هذا الكتاب؟…إنها فلسفة بالتأكيد…الفلاسفة أشخاص أذكياء، لكنهم أشخاص غريبو الأطوار…أوووف، إنهم يعقدون الأمور !!
راقبته، فكرت في صمت، راهنت مع نفسي :
– لن يجرأ على فتحه، فهو يهاب كتب الفكر، يهاب الكتب الأنيقة !!
وأخيرا، وضع الكتاب، وضعه برفق على المائدة، وراح ينظر إليه كمن ينظر لطفل رضيع.
(بريكس) كائن غريب، يجمع بين الوسامة والغباء، وجه طويل ونحيف، بقسمات وخطوط رفيعة، كأنما رسمت عنوة، عينان كحليتان، شخص جامد، متكلس، روح متخشبة وبدون إحساس.
عندما رأيته للمرة الأولى عرفت توا، نوع من الحدس ، أن جماله يخفي غباء مستعصيا، يردد دائما أنه لم يقرأ أبدا كتابا !!
في الجهة الأخرى يجلس (العروبي) يضع محفظته الضخمة بجانبه، وعينه على الشارع، بين الحين والآخر يرشف الشاي من كأسه بصوت مسموع:
– آه…الله…إوا كاس هذا !!
يتلمض، يفرقع شفتيه.
تفتح المدارس أبوابها، يخرج التلاميذ على شكل جماعات، يخترقون الشارع الوحيد للمدينة، يحدثون ضجيجا وحيوية، ينظر إليهم، تستيقظ غريزة الفلاح بداخله، يفكر بصوت مسموع:
– دوماج…لو كان كل هؤلاء قطيعا من الأغنام والبقر !!
ينظر إليه (سي أحمد) بغضب:
– أنتا أستاذ أنتا ؟!
يرد عليه بسخرية:
– أنا مابغيتش نكون أستاذ…المانظة (الأجرة) ديال الأستاذ ما تشري حتى رويضة (عجلة) ديال التراكتور!!
انفجرت الشلة بالضحك.
ابتسم هو بمرارة، نظر إليهما طويلا، فكر في صمت :
– إنهما يلخصان فشل المنظومة ككل…الأول لم يقرأ أبدا كتابا، والثاني يتمنى أن يتحول الليسي إلى حظيرة للبهائم !!
ساد الصمت للحظات…
فجأة، يمر (مبروك) بدراعيته السوداء، والسلسلة الذهبية في عنقه، وصدره الممتلئ المدفوع إلى الأمام، يمشي بخطوات متكسرة، ينظر إليه الجميع بصمت.
(مبروك) أحد المعالم البشرية المتفردة للمدينة، زنجي، وسيم، شاذ، وسيط دعارة، نكاف وكوافور للنساء، خبير في صناعة الحلويات وتهيئ الأعراس والحفلات…تورط يوما في قضية أخلاقية، وتدخل أعيان المدينة للإفراج عنه بسرعة، لكي لا تفوح رائحتهم خارج أسوار المدينة، فهو علبتهم السوداء، وعنده مفاتيح أسرار المدينة المانوية.
يسأله (سي خالد) المولوع بفنون العيطة الشعبية وأهازيج البوادي، يسأله من باب الثرثرة:
– شفتي السهرة دالبارح ؟
يحرك رأسه نافيا.
– خسارة…كاع الشيخات دالمغرب كانوا حاضرات…سهرة واعرة، الحاجة الحمداوية، الحامونية، فاطنة بنت الحسين العبدية، فاطمة تاشنويت، الشيخة حادة…شيخات واد زم…الشيخة فاطمة الزحافة…
يتدخل (العروبي) معترضا :
– إوا احبس شوية…الشيخة الزحافة الله يرحمها، ماتت من زمان !!
غير بعيد وفي ركن منزو، يجلس (الصديق) وحيدا، يأخذ جسده وضعية جنينية، هو شخص إنطوائي انتقل من النقيض إلى النقيض بسبب قصة حب فاشلة، وربما أيضا بفعل رواسب طفولة قاسية وغامضة، يرشف رشفات خفيفة من كأسه، يأخذ نفسا عميقا من سيجارته، يطرد الدخان من أنفه وفمه بالتناوب على شكل أعمدة مستقيمة وقوية، يمرر يده على لحيته السوداء الكثيفة، يمشطها بأصابعه في حركة رفيقة وتلقائية، يبدو منخرطا تماما وكأنه يقرأ في كتاب، كان دوما ميالا للعزلة والانطواء.
ولكنه قبل سنوات كان شابا دنيويا، مقبلا على الحياة، يقضم كعكتها ويمتص رحيقها من غير تردد، أناقة، سهر، روج، نساء وسفر…
استقبله (الحاج الناصري) في قصره الفخم المنتصب وسط جنان من النخيل، بدا الرجل العجوز هادئا، مطمئنا وسعيدا، ابتسم، رحب به، خاطبه بصوت هادئ ونبرة أبوية:
– ها أنتذا يا بني ترى أين تعيش ابنتي…أنت إنسان طيب…أعرف أنك تحبها…إن كنت قادرا على إسعادها فأنا لا أمانع…
سكت لحظة، تغيرت نبرة صوته، ثم واصل.
– وإن كنت ترى أنك لا تقدر…فدعها حرة !!
نظر إليه، اجتاحته مشاعر متناقضة، مزيج من الغبن والعجز والغضب.
أحس بالحرج، أطرق برأسه، انحبست الكلمات في حلقه، ابتسم و لم يجب…
عادة، عندما تتقاطع الطرق، ويلتقي الحب والفقر والمال، تتساقط قصص الحب مثل أوراق الخريف الجافة.
تمر اللحظات ثقيلة ورتيبة…
ينتصب (العروبي) بقامته الفلاحة، وبدلته التي تفضح تفاصيل جسده الممتلئ، يغادر المقهى، يمسك محفظته الضخمة، بدا واحدا من هؤلاء المفتشين الذين جابوا أرض العراق بحثا عن أسلحة الدمار الشامل.
في الخلفية بعيدا، يسمع صوت الآذان، صوت بنغمة حادة وبدون جمالية، انقطع التيار الكهربائي فجأة، هبت ريح الشرقي محملة بحبات الرمل القاسية، ورائحة الغبار القوية…
غادر الآخرون تباعا، انقطعت الحركة تدريجيا في الشارع، أقفلت المحلات تباعا.
مثل مدينة الأصنام السحرية، بدت المدينة فضاء مقفرا ومخيفا.
غادر هو أيضا، نظر إلى ساعته اليدوية، لاحظ أنها معطلة، مشى ببطء، أحس بالتراب ورائحة الأرض تملأ عليه كيانه، استعاد السؤال بداخله:
– لم أنا هنا ؟!
كنت ما أزال في الجهة الأخرى، راقبته وهو يختفي في ظلام المدينة.
تساءلت:
– فعلا…لم نحن هنا ؟!