وجهٌ يكتب ليُضيء

hany al kot
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هاني القط

ليس من السهل أن تمسك بخيطٍ واحد حين تكتب عن سمير درويش. فالرجل موزَّع، عن قصدٍ أو قدَر، بين مجالاتٍ متشابكة: شاعرٌ يكتب من طين الوجدان، روائيٌّ يفتِّش عن شظايا الهوية في مرايا الزمن، ومثقفٌ لا يخشى أن يضع إصبعه على الجرح العربي، ولو كلَّفه ذلك العزلة.

لكن خلف هذه الأدوار جميعًا، ثمَّة إنسانٌ لا يطمئن إلى الاستقرار في جهة واحدة من روحه. يكتب لأنه يحب، ويصمت حين يعجز الحرف، ويحاور لأنه لا يحتمل عزلة الفكرة. في شعره شيء من الخشوع العذب، وفي نثره وجعٌ جميل، كأنه يقطِّر سيرة الذات من فم اللغة، لا ليفضحها، بل ليطهِّرها من العطب.

منذ بداياته في جيل الثمانينيات، لم يسعَ ليكون امتدادًا لغيره، بل ليؤسِّس نبرته الخاصة التي لا تتكئ على صدى أحد. كتب تسعة عشر ديوانًا شعريًّا حتى الآن، تُرجم بعضها إلى لغات عدَّة، لكن الأهم من التعداد، أنه ظل يكتب من منطقةٍ لا تُقلَّد، بل تُحاور الحياة بموسيقاها الخاصة. يرى الشعر بمنظور أبعد من كونه ترفًا جماليًّا، بل كحالة وجودية، وهواء يُستنشَق لا يُدرَّس. وحين يتحدَّث عن قصيدة النثر، يُدرك أنها شكلٌ مراوغ، لا يُقاس بأدوات العروض، بل بما تحدثه من رجفة، وما تفتحه من نوافذ في الروح.

وحين يغادر ضفاف القصيدة، لا يضيع، بل يعثر على نفسه في سردٍ يحمل ذات الحسِّ الشعري، متَّشحًا بعباءة الوعي والأسئلة. روايته الأخيرة “ليس بعيدًا عن رأس الرجل.. عزيزة ويونس” ليست مجرَّد حكاية، بل تيار من الوعي المتقافز بين طبقات الزمن. محاولة صادقة لاسترداد الإنسان من تحت ركام الخيبات. “يونس” ليس بطلًا، بل شظية في رياح التاريخ، تتقاذفها وجوه النساء، لا كعاشقات، بل كرموز لما فاته وما لا يستطيع احتواءه. “عزيزة” حبُّ الطفولة الذي لا يعود، “وئام” متعة الجسد التي تُشبه الندم، “ماهيتاب” حوارٌ ناضج مع الظلِّ، و”آية” نزاعٌ طويل مع فكرة التغيير. لا زمن مستقيم في الرواية، بل دوران متوتِّر، حيث الماضي لا يأتي من وراء الحاضر، بل ينبثق من داخله.

أما حين يكتب مقاله، فلا يستعرض أفكارًا مرتَّبة كما في الكراسات، بل يُثير غبار الأسئلة، ويمضي إلى أكثر المواضع انزلاقًا: الدين، الجنس، السياسة. لا لأنه يهوى المشاكسة، بل لأنه مأخوذٌ بحقيقة الأشياء. يؤمن أن دور الكاتب ليس أن يُعطي أجوبة، بل أن يوقظ السؤال. سؤالٌ قد يُزعج، لكنه يُنقذ. لا يرى الحرية زينةً على جدار النص، بل شرطًا ضروريًّا لولادته. “المجتمعات المغلقة لا تتطور” يقولها دون مواربة، كما يقول: “الثوابت وُجدت لنراجعها، لا لنركع لها”.

دخل العمل الثقافي لا ليعلِّق وسامًا على صدره، بل ليدفع حجرًا في نهر الحياة الثقافية. رئاسته لمجلة “الثقافة الجديدة” و”ميريت الثقافية”، لم تكن جلوسًا على مقعد، بل انغماسًا في همٍّ حيٍّ، حيث الملفات التي أعدَّها تكشف عن حرصه على أن تكون المنابر الثقافية صوتًا لا صدى، وأن تُضيء ما يُراد له أن يبقى في الظل: صناعة الديكتاتور، جذور الاستبداد، تفكيك الخطاب الديني.. كلها ملفات لا تُمسّ إلا بشجاعة الداخل.

لا يقاتل من أجل الجوائز، ولا يزاحم على موضع في الصف الأول. كثيرًا ما مرَّ اسمه دون أن يُرفع على لافتة أو منصَّة، لكنه لم يتأفَّف، وكأنَّ الرجل اختار أن يظلَّ في الظل، لأن النور عنده ليس ما تراه العين، بل ما يُحدث أثرًا. عاش متنقِّلًا بين نيويورك والقاهرة، بجسدٍ يتنقل، وحسٍّ لا يغادر مكانه. هذا التباعد الجغرافي منحه ربما القدرة على أن يرى مجتمعه من مسافة تتيح التأمل لا الحُكم. لذلك حين يقول: “مجتمعاتنا غارقة حتى أذنيها في موضوعات الجنس والدين والسياسة، لكنها ترفض من يصرِّح بذلك”، فهو لا يتهكم، بل يصف وجعًا يعرفه من الداخل.

كان لقاؤنا الأول في الشارقة، لقاءً عابرًا لا يزيد عن دقائق، لكنَّه ترك أثرًا لم يمحه الزمن. لا أذكر ما قلناه، لكنِّي أذكر النظرة: مزيج من الهدوء والتمعُّن، كأنَّه ينصت لما لم يُقل. ثم حين قرأت أعماله، شعرت أنني أعرفه من زمنٍ بعيد. ومع تتبُّعي لسيرته، اكتشفت أن بعض الوجوه تُضيء أكثر حين نقرأها لا حين نُصافحها. في جلِّ ما كتب، كنت أراه لا ككاتبٍ يطلب المجد، بل كإنسانٍ يشتبك مع الحياة بكل توترها، ويحمل على كتفيه مهمة الإضاءة، حتى لو ظلَّ واقفًا وحده في العتمة.

في عالمٍ تتناثر فيه الأصوات ويعلو فيه الضجيج، يبقى صوت سمير درويش هامسًا لكنه نافذ، إنسانيًّا لكنه حادٌّ، حرًّا لكنه منتمٍ.. وربما لهذا السبب نحتاجه الآن، أكثر مما نظن.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم