لم أكن أقرأ، بل كنت ألهث بين السطور وأنا أشاهد عوالم تجمع ما بين الواقع والأسطورة الذي اعتمد عليهما الكاتب في خلق حبكة فنية لواقع مرير، بل شديد المرارة وهو يلقي بكل ثقله على أبطاله.
ولقد استعان الكاتب بتيمة سردية قد لا تكون جديدة، استعان بها الكثيرون من قبل في أعمالهم، لكن الجدة في الأسلوب والطريقة التي استحضرها، بعيداً عن أسلوب الفلاش باك، أو الراوي الذي يستحضر أبطاله واحداً تلو الآخر، بل ما فعله أن جعل الموت الماثل في شخص محروس الذي يحتضر على سريره بالمستشفى يستدعي أبطاله ورفاقه واحداً بعد الآخر، أو يحضرهم جميعاً أو بعضهم، حسبما يستدعي المشهد. ثم يصعد الحدث نفسه على مسرح الأحداث ليلقي بظله تماماً ليحجب كل ما عداه من أحداث، حتى نراه ينسحب في هدوء مفسحاً المكان لمجموعة أخرى من الأبطال.
وشخصيات الرواية تسير كلها بالتوازي معاً انطلاقاً من مكان صغير هو عزبة إسرائيل الصغيرة وكوم الدهب.. وهي أماكن حقيقية في الواقع، لكنها تعيش على هامش الحياة، بعيداً عن العيون والأسماع حتى جاءت رواية «أحمر خفيف»، لتطيح بهدوئهما الطويل من خلال شخصية محروس كبير الوادي الذي يرقد في المستشفى، بكف مبتورة إثر محاولة قتل على يد قاتل مأجور كان من ورائها منافسه عبدالمقصود، وكذلك شخصية ناصر الذي فرش الرعب في المكان بسكينة ليخافه الجميع، وأنصاف ابنة محروس اليتيمة التي كانت تلقي بظلها على كل الأحداث، وهي رابضة بجوار سرير محروس.
وكما كان للبشر أدوار، فللحيوانات دور من خلال شخصية «عزت ريفو» المركّبة والمدهشة وحمارة محروس، وزوجة عزت التي تركت البيت ولا تعود إليه إلا بشروط عندما تقول له: يانا.. يا الحمارة.
وشخصيات عناني وأبو الليل والشيخ عثمان والطبيب وفرج وأبو العشم وعزيزة العمشة.
ولم يكتب وحيد الطويلة حسب مدرسة أو منهج ما في الكتابة، بل أراد أن يلقي برائعته «أحمر خفيف»، وليترك الأمر من بعد للنقاد.
وكانت القرية المصرية ومازالت مجالاً خصباً للكتابات القصصية مع اختلاف المضمون وطبيعة الصياغة اللغوية وتنوع التقنيات مثل «زينب» لمحمد حسين هيكل و«الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي، و«الحرام» ليوسف إدريس، وعبدالحليم عبدالله صاحب الواقعية. لكن لم تعد القرية ذلك العالم الصغير الذي يتسم بالشفافية والبراءة. ويتسع الأمر ليتخطى الصراع المحتدم بين القيم الروحية والاستهلاكية وطغيان المادة إلى شيوع الرذيلة.
أما لغة الكتابة فهي مزيج من فصحى تدرَّجت، ودارجة تفصّحت، حسب تعبير د. خشيم، وهي لغة شاعرية آسرة، ويحسب للكاتب تمكنه من أسلوبه السردي، فلم يترك لقلمه العنان في الاسترسال حتى يصاب النص بالترهل، بل ظل قابضاً على عنق أبطاله الذين يقودهم جميعاً حسبما أراد هو، لا حسبما شاء كل شخص من شخوص الرواية المأزومة.. ولكن في النهاية يترك الأبواب مفتوحة.. لعل من أراد حلاً فلن يعجزه الولوج من أي من تلك الأبواب.
ولعل وحيد الطويلة يشير مجازاً إلى تلك الجماهير المغيبة، ويقول: ما لم تتغلب على خوفها ستبقى أسيرة هذا الخوف ما عاشت من سنين.. وأن المشاهدين إذا أرادوا أن يبقوا على مقاعد الفرجة، فلا بأس فليبقوا كمشاهدين بعيدين عن النص وأحداثه، ولن يتغير شيء.
لكن إذا ما أرادوا التغيير، فليصعدوا للحدث وليقوموا هم بالتغيير وليتركوا مقاعد المشاهدين ليعتلوا خشبة الأحداث، ويغيروا ما شاء لهم من تغيير.
الرواية صرخة ضد الخوف، وضد القهر وضد السلبية والخنوع، فلقد نال طفل صغير من ناصر الذي ألقى بالخوف في قلوب الجميع، وألقى به على الأرض أكثر من مرة وهو يدافع عن شرف شقيقته الذي أراد ناصر النيل منها، ولم يكن أمامه إلا أن يغرس سكينته في قلب الصبي الذي كشف ضعفه أمام الجميع لينطلق الطوفان الهادر من القلوب الخائفة لتقبض على ناصر وتفتك به وتمزقه بلا رحمة انتقاماً للخوف الذي غرسه بقلوبهم سنوات طويلة.
لقد أراد المؤلف أن ينزع نفسه من ماضيه ومن بين أهله، الذي نشأ بينهم في مكان قصي من الريف، لكن الريف لم يخرج من قلبه، بحكاياته وأساطيره ومرارة واقعه، وفقر أهله وغرائبية أحداثه!!
إن الواقعية السحرية التي كتب بها وحيد الطويلة روايته لا تقل عن أعمال جورج أمادوا أو إيزابيل الليندي، أو حتى العبقري ماركيز، ولكن ما ينقصنا لنقف معهم أو أمامهم أو بالتوازي معهم هو بعض من الثقة بالنفس وكثير من التشجيع لمواهب دفنتها حاجات وصراعات الوظيفة والكد اليومي للوفاء بمتطلبات الحياة.
والعمل الأدبي يحتمل في النهاية تفسيره بأكثر من وجه، فقد يبدو واقعياً من خلال أحداثه البسيطة، وواقعياً سحرياً ترتطم فيه الخرافة بالحقيقة، أو مجازاً يبدو للعيان ضيقاً محدوداً، لكنه من الناحية الرمزية لا يحد رحابته مكان، وقد تكون شخوصه وأبطاله مثالاً للملايين من أبناء المقهورين الذين تجرفهم هموم الواقع المعاش.