هيجل وحرب العقل والحرِّية

هيغل، هيجل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

الحرِّية والعقل محوران أساسيان في حياة كل فرد؛ وهما الكنز الأعظم في حياة البشر أجمعين، لكنهما في نفس الوقت أحد الأسباب الأساسية لنشوب العديد من الخلافات والحروب، للحفاظ على الحرِّية، وعندما يكون لدى القائمين على الحروب والنزاعات عقلًا راجحًا يصبح بمقدورهم تسوية الأمور في أسرع وقت والتغلُّب على الخصم بكل دهاء. لكن السؤال الجوهري، هل الحرِّية والعقل هبة، أو منحة مُكتسبة؟ علمًا أنه في كلا الحالتين يسعى البشر للحفاظ عليهما باستماتة.

ومن أهم الفلاسفة الذين ناقشوا تلك المعضلة الفيلسوف الألماني “جورج فيلهلم فريدريش هيجل” Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1770-1831) الذي يعد أحد كبار الفلاسفة الذين أثَّرت أفكارهم ليس فقط على المنظومة الفكرية والفلسفية في ألمانيا، بل في العالم أجمع. أضف إلى هذا، تعد أفكاره أحد الأركان التي قامت عليها منظومة الفكر الحديث؛ وذلك لمناقشته موضوعات جدلية هامة تغلغلت في الأطروحات الفلسفية المعاصرة مما يجعل تأثير آراءه الفلسفية واضحًا حتى في العصر الرقمي الحديث. فلقد تطرَّقت فلسفة “هيجل” للقضايا الميتافيزيقية، والفلسفة السياسة وتاريخ الفلسفة وفلسفة الفن وفلسفة التاريخ وفلسفة الدين.

كان ينادي “هيجل” بوجوب فرض الإنسان سيطرته على نفسه وآراءه حتى لا يصبح خاضعًا أو خانعًا لآية مؤثِّرات قد تعيق تطوُّره الفكري والمعرفي، وكان يؤكِّد دومًا أنَّ “الشرط الرسمي لتحقيق أي إنجاز عظيم هو الاستقلال عن رأي الجمهور”، ويعني ذلك أن رأي العامة يجب ألَّا يؤثِّر على الفرد عند محاولة إنجاز أي عمل، وهو بذلك يؤكِّد على وجوب التمسُّك بحريِّة الفرد في التفكير وفق ما يراه ملائمًا لظروفه، أي يكون الإنسان سيدًا لقراراته وليس تابعًا لأراء الآخرين التي تفقده ميزة العقل والحرِّية. ولا يعني ذلك أنه يجب العيش بمعزل عن الآخرين وإطلاق العنان للأهواء الشخصية، فكلماته تلك نابعة من اعتقاده أن أساس المآسي في العالم ليس الصراع بين الخير والشرّ، بل الصراع بين وجهتين نظر كلاهما صحيح. وعند البحث عن الحقيقة التي يمكن من خلالها معرفة ما إذا كان الأمر خيرًا أو ينطوي على شرور، من الواجب الأخذ في الحسبان أن الحقيقة لا تكمن لا في الرأي العام أم المُخالف، بل في التركيبة (أو الرأي) الناشئة التي تظهر عند محاولة التوفيق بين الأمرين.

وبالرغم من كلّ هذا، يجد “هيجل” أن الشعوب والحكومات لا تتعلَّم أي شيء من التَّاريخ؛ فلم يتصرَّف أحدهما وفق الدروس المستفادة من خبرات الأسلاف. وللأسف، لا نزال في الوقت الحاضر نلمس ذلك؛ فلا يزال يقع البشر والدول في نفس أخطاء الماضي، وكأنَّهم لم يتعلَّموا أبدًا من خبرات السَّابقين، ولذلك يتكرر على سمعنا مقولة “التَّاريخ يعيد نفسه”، وكأن الإنسان يسلم عقله وحرِّيته لآخرين طوعًا ويكتفي لأن يكون تابعًا خانعًا، أو بمعنى أدق عبدًا لسيد استفاد من دروس التاريخ.

ومن ثمَّ، يصرّ “هيجل” أن العقل والحرِّية إنجازان تاريخيان، وليس معطيات طبيعية ممنوحة للفرد منذ لحظة ميلاده. فالحرِّية لا يقتنصها إلَّا من له القدرة على ركوب الأخطار، حتى ولو كان ذلك يعني المخاطرة بالحياة، لكنه يستطرد مؤكِّدًا “يجوز – دون أدنى شكّ – الاعتراف بالفرد الذي لم يخاطر بحياته أنه “شخص”، لكنه لا يصل لحقيقة ذلك الاعتراف باعتباره وعيًا ذاتيًا مستقلًّا.” الهدف الرئيسي لتلك الجدلية هو اكتشاف كيف يمكن للبشر تحقيق الحرِّية، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة ما الذي يجعل الأشخاص يرتقون لمرتبة البشر.

ويطرح “هيجل” كتابه “ظواهر الروح” Phänomenologie des Geistes (1807) وخاصة الفصل الرَّابع منه نظريته التي تناقش جدلية “السيِّد والعبد.” وفي ذلك الكتاب يشرح بإسهاب  تطوُّر الوعي البشري باستخدام مصطلحات مجرَّدة، ثمَّ يضعها ضمن سياق اجتماعي وعملي قابل للتطبيق. فهو يطرح أسس الصراع بين الاعتراف والاعتراف العملي ب”الشخصية” Person والإنسانية” Human أو ما يسميها العالمية Universality، والتي تشير إلى اعتراف الآخرين بأحدهم أنه “بشرًا” Human أو مجرَّد “شخص” Person اعترافًا عمليًا (وليس نظريًا) لنوعي الوعي الذَّاتي المتعارضين؛ فما يعيه الآخرين عن المرء يتعارض مع وعي الإنسان بنفسه، وحدوث توافق بين الوعيين يتطلَّب الدخول في مخاطرة فعلية قد تجعل حياة الفرد على المحك لاكتشاف الفرد قدراته وكذلك لاعتراف الآخرين بتلك القدرات، وبذلك يصل الفرد لمرتبة السيِّد.

ويستكمل “هيجل” جدليته تلك بشرح وافٍ في كتابه “فلسفة الحق” Philosophy of Right (1820) الذي يشرح فيه كيفية حصول الرُّوح على حريتها في سياق العصر الحديث (آنذاك). ويتضمن ذلك الكتاب أفكار جوهرية عن العدالة والمسؤولية الأخلاقية والحياة الأسرية والنشاط الاقتصادي والبنية السياسية للدولة، مما يجعل منه وثيقة ذات أهمية كبرى للبشر على مرّ العصور، ولذلك يعدّ ذاك الكتاب من أعظم الأعمال الفلسفية التي تتناول الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.

وبالتطبيق العملي على حياتنا الرقمية المعاصرة، يلاحظ أن دور الإنسان بدأ ينحسر، وبالتالي طال ذلك الانحسار وعيه بنفسه  الذي لم يضعه فقط في مرتبة “العبد”، بل جعله يعترف داخليًا بعبوديته التي يقرّ بها الآخرين الذين – للأسف- يقعون تحت طائلة نفس تلك العبودية. والسبب الرئيسي وراء تدهور وعي الإنسان بذاته ووعي الآخرين به هو استسلام البشر لحياة رقمية تزداد تعقيدًا يومًا تلو الآخرين، وتجعل حياة البشرية على المحكّ مع التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي الذي أثبت في وقت قصير أنه “ضرورة” وليس “رفاهية”.

وبسبب فقدان أسس الحفاظ على الوعي الذَّاتي، ظنّ الأفراد في العصر الحديث أن الحرِّية والعقل الذي يمكن اقتناصهما بالابتعاد عن آراء الآخرين – كما جادل “هيجل” – تتم من خلال الاندماج في العالم الرقمي الافتراضي الذي يحقق لهم حرِّية التجوال عبر البلدان والثقافات والتعبير عن جميع ما يدور بخلدهم من أفكار، حتى ولو كانت الأكثر جرأة. فهناك إيمانًا عميقًا بأن الولوج في ثنايا العالم الافتراضي هو السبيل لتحقيق “منطقة حكم ذاتي مستقلَّة” يقوم فيها الإنسان بدور السيِّد المسيطر، وكأنه الرئيس والقائد لتلك الدولة. لكن للأسف ما حدث أن العالم قد تشرذم لدويلات منفردة يحكمها العالم الرقمي المعترف به إجماعًا وبالتجربة العملية أنه المهيمن، وبذلك تحوَّل البشر إلى “عبيد” لسيِّدهم الرقمي الذي وضع شرط الدخول عبر بواباته الاستسلام والخضوع التَّام لشروطه التي تسلب حرِّية وتفكير المرء الذي يوافق طوعًا أن يتحوَّل لمجرد شخص “تابع”، أو بالأحرى “عبد”. وأكثر الأمثلة توضيحًا لذلك هو ضغط الفرد لخيار “موافق” عدَّة مرات عند الدخول لأي موقع حتى ولو تسبب ذلك الموقع لإصابة الجهاز فيما بعد ببعض البرمجيات الخبيثة “malware” أوالفيروسات.

فالهيمنة الرقمية تشبه ممارسات الزعماء الروحيين على أتباعهم، التي تسلب الأتباع حرِّية النقاش والجدال وتفرض عليهم اعتبار أن ما يحدث في جنبات العالم الافتراضي من المسلَّمات الحتمية، واعتقد أن الجميع يلمسون تلك الحقيقة بشكل أو بآخر.

لقد أصبح العالم الرقمي هو “الحقيقة الجديدة” التي تلتهم العالمي الواقعي الذي بدأ بالفعل في التآكل لأن البشرية لم تعد تقوى على الاستغناء عن العالم الرقمي، وآثروا العيش في شبيهه الافتراضي الذي يوفِّر لهم سبلًا جديدة من الرَّاحة النفسية والسعادة. وبذلك، بدأ بالفعل العالم الواقعي في التلاشي بسبب قلة استخدامه.

والأمر المحيِّر هو أن العالم الرقمي أصبح بالفعل ضرورة جوهرية ولا يمكن الاستغناء عنه بأي حال من الأحوال. وعلى هذا، فإن الحرب القادمة لاقتناص حريَّة البشرية من براثن العالم الرقمي لسوف تصبح ضروسًا لأنها حربًا تتطلب عقلًا راجحًا وإيمانًا عميقًا بحريَّة الفرد، فهل لا يزال يمتلك الإنسان العقل الواعي لاسترجاع حريته ووضع نهاية سلمية لحرب الهيمنة تلك؟

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم