شيماء بدير
راهنتُ نفسي على أنني لن أستطيع الكتابة طالما أريدها، لكن لابد من تدوين ما حدث، تدوينه كي لا ينزوي مكتوما مصمتا.
حسنا، لأخبر بالأمر من منتصفه، كنت في الثامنة والعشرين من عمري عندما استيقظت وأنا مقيد اليدين ضامًا كلتيهما معا، وكذلك قدميّ مقيدتين معا، كنت أشعر بالألم في جسدي كله، وعندها لم أكن أعرف أي جزء بالضبط مصدر الألم، لم أكُ متذكرا كيف أتيت إلى تلك الغرفة، ولا من أنا تحديداً، كنت دائخًا والدوار يلف برأسي أنحاء الغرفة التي لا أرى منها سوى السقف في تلك الأثناء، كنت أشعر أني بغير جسد، وعَطِش بصورة مزعجة، ناديت على منهم بالخارج ولكن لم يجب أحد، مرة تلو الأخرى، ولا صوت يرد، غبت عن الوعي أثناء صراخي وعندما فتحت عينيّ، وجدتني في غرفة أخرى، بها شرفة، وبابها السلكي مفتوح، وستارة تطير للداخل، وأنا الآن، غير مقيد، بجوار خوان أبيض، عليه زجاجة ماء، وكوب فارغ، وبعض الطعام، لكن هنا لاحظتُ أن هناك أنبوبا خرطوميا شفافا متصلا ما بين أحد أوردتي وحاوية مطاطية شفافة بها سائل ومعلقة على عمود بجوار السرير، عندها علمت أني بالمشفى، بحثت عن كابس طلب المساعدة، الذي عادة يكون بالمشافي جوار الأَسرّة، حتى وجدته ودخلت الممرضة.
هنا بالذات، وفي كل مرة أحاول كتابة الأمر فيها أشعر بالاختناق عند تذكري لهذا المشهد، عندما دخلت الممرضة، اكتشفتُ ما حلّ بي من أول نظرة لها.
أنا هناء السعيد، شابة في الثامنة والعشرين من عمري، أعمل صحفية في جريدة أسبوعية، ذات ليلة شعرت بألم شديد في أنحاء جسدي ولم يكن في مقدرتي حتى طلب الإسعاف، هرولتُ إلى جارتي أطلب منها المساعدة، فجارتي ممرضة، وعند وصولي إلى عتبات شقتها، سقطتُ ولم أفق إلا في المشفى مكبلة اليدين، والقدمين وأشعر بعطش شديد.
أخبرتني جارتي عندما رأيتها في غرفتي بالمشفى أنه حدث لي انفجار في الرحم، وعندما حاول الأطباء استئصاله، اكتشفوا وجود جهاز تناسلي كامل لذكر داخل أحشائك، فعزموا على إنقاذ حياتك، وأقدموا على إخراج الذكر المدفون فيكِ للحياة، وبالطبع لم يكن هناك أحد من أهلك ولا أصدقائك يأخذون موافقته، فإذا رفضتِ ما حدث، سيحاول الأطباء بكل قوتهم إثبات براءتهم من حياتك، فقد أُنقذت بالفعل، وهم صنعوا معجزة لن يحتسبها أحد خطأ سهواً.
أي إنسان في مكاني كان سيهد المشفى فوق رؤوسهم، كان سيطالب بإعدامهم، سيطلب أن يعود إلى أنوثته، سيطلب أن يعود طبيعي، يحارب لنقول إنه سيحارب لأجل قضيته، جمعيات المرأة، حقوق المرأة، النسويات، الأمم المتحدة، العالم أجمع، لكنني لم أفعل أي شيء، لم أصرخ، لم أبك، لم أتفوه بكلمة واحدة.
طلبت من الممرضة أن تجلب لي بعض الماء، وأن تساعدني في تناول الطعام، وبعدها تتركني بمفردي، وبالفعل، قامت بكل ما طلبته وهي مذهولة من ردة فعلي.
عندما خرجت، حاولت أن أقف أو أجلس بنصف جسدي العلوي، عدلت جسدي كثيرا لأستطيع الجلوس مرتاحا، بدأت أتحسس جسدي، شعري، ما بين ساقاي، جلدي، أصابعي، أظافري، كل شيء ظاهر أمامي لمسته بأناملي.
جسدي كان منهكا ومتعبا فلا يمكن تحسس تغيراته في تلك اللحظة، شعري صار قصيرا، رغم أني أعرف رجالا ذوي شعر طويل، جلدي أصبح أكثر شعرا مما كان، يفتقر إلى الترطيب قليلا، وأصابعي كما هي، لكن أظافري مقلمة بالكامل، أزالوا عنها طلاءها.
ووصلت إلى ما بين ساقاي، شعرت بألم شديد أسفل معدتي، شعرت بمعدني خاو وممتلئ في نفس الوقت، أستطيع الآن فهم شعور الأنثى والذكر في الوقت نفسه.
أوقات أنثويتي، كنت امرأة تعاني لأكثر من أربعة عشر سنة ولاثنتي عشرة مرة في كل عام من آلام الطمث والحيض، كانت دورتي الشهرية تؤلمني فوق أي وصف للألم، يقولون إن ألم الولادة ثاني أشد ألم بعد الموت حرقا، ذلك بالطبع لأنهم لم يقيسوا حجم الألم الذي كنت أعانيه، كل شهر كنت أعاني كأنما هناك طفل سيسقط مني، بالطبع أعرف الآن أنه لم يكن هناك طفل، ولكن لأقول جسم ما يحاول الفكاك كل شهر، لم تكن أمي تصدقني في هذا الأمر، ولم أجرؤ على مواجهة أي أحد بأني أود زيارة الطبيبة المختصة بأمراض النساء، فجرت العادة أن تلك الطبيبة لا تزورها سوى المتزوجة، وعندما وصلت للسن الذي اعتقدته مناسبا للعمل والاستقلال، كنت تعودت الألم، فلم أفكر أن أنبش في هذا القبر.
درستُ وكنت متفوقة للغاية، حتى عملت بالصحافة، وكنت أتهرب من فكرة السؤال عن الزواج، فقد عشت مراهقتي كلها أحاول فهم الألم الشهري، فكنت أبتعد عن الجميع، وعندما وصلت إلى الجامعة، كنت أخشى أن يخبرني طبيبي أني أحمل مرضا يمنعني من الإنجاب أو يستأصل لي رحمي، فأكون أنثى شكلا وحسب، عانيت من خوف مرير بعد وفاة أمي وأبى قبل عام من عمليتي، ففي ذلك الوقت، كنت وحيدة تماما وسأكون هكذا للأبد.
أنا الآن مهدي السعيد، رجل في الثلاثين من عمره، صاحب متجر للعطور ومستحضرات التجميل- عمل أبي الدائم وميراث عائلتي- أشبه في شكلي الآن الممثل عزت العلايلي، بطوله وبُنية شعره، لدي حبيبة أحاول أن أتزوجها لكنها تخشى ألا تصي أما، فعدتُ لمعاناتي مع الوحدة مرة أخرى.
كل صديقاتي على مدار سنوات ابتعدن عني، من الأساس كل واحدة منهن كانت تبحث عن ذريعة للتخلي عني، فأنا كنت جميلة وشابة وناجحة وغير متزوجة، فسهل جدا أن أجذب أزواجهن ذوي العقول الضحلة، فكل واحدة منهن تعرف أنها تزوجت من بهلوان لكن تكتم ذلك في قلبها، وبعد أن صرت “مهدي”، طلب أزواجهن منهن أن يبتعدن عني، فأنا رجل وسيم الآن.
يا إلهي، مصيبتي دوما تكمن في الجمال، الجمال الذي يقول أنتِ امرأة لا حظ لكِ من جمالك فأنت ِ مريضة، والجمال الذي يقول لي أنت رجل وسيم وناجح لكنك متحول، أنا لست متحول، أنا أحمل النوعين جملة وتفصيلا، حيواناتي المنوية سليمة، كانت تتغذى باستمرار، درجة حرارة جسدي كانت مناسبة لهم، وفحوصاتي الطبية تقول بأني أستطيع أن أنجب لكن الإنسان يخشى ما لا يفهمه.
أكتب ذلك، لأن الكتابة كانت رغبة هناء دوماً، فأنا حريص على استكمال وجودها في الحياة، كما حافظتْ على وجودي لسنوات طويلة، وعدتها بأني سأكتب كل شيء وأخبر بكل شيء كانت تريد أن تقوله، سيكون شاهد قبرنا يحمل اسمينا “هنا يرقد/ ترقد هناء / مهدي السعيد”
لا مجال الآن لأقول كم أعاني كمهدي فهناء عانت بما يكفينا معا.