سوسن الشريف
تبدأ الكاتبة بعبارة “اختصروا كل التفاصيل غير المهمة كي تصلوا للحقيقة”، يبحث القارئ عن التفاصيل غير المهمة في الرواية عبر الأبطال والمواقف والعلاقات ليكتشف أن هذا مدخل الكتابة لدى “منى ماهر”، فلا يمكن ترك عدد من السطور والكلمات كما يحدث أحيانًا عند قراءة بعض القصص والروايات، فالمواقف والشخوص والأحداث مكثفة، متلاحقة، سريعة، تمتلئ بالتوترات الداخلية رغم هدوئها الظاهري،.
تتصف الرواية بانتمائها للون الرومانسي لتناولها علاقات عاطفية ومشاعر ورغبة وحاجة، لكنها خالية من الحب بمعناه الحقيقي الكامن في العطاء والصدق والوفاء، رغم استعداد كل الأبطال للعطاء. فمنهم من يعطي مشاعره، ومنهم تعطي أموالها، ومن يعطي من وقته، لكنه عطاء من النوع الأناني المنتظر للمقابل من الطرف الآخر. وهذا ليس حبًا، هو أقرب للشعور بالحرمان، والرغبة، والحاجة، مشاعر تعلق واعتياد تصل إلى المرض، فيما يشبه إدمان المواد المخدرة، ويتضح التأثير السلبي عند انسحاب كل منهم من حياة الآخر، فيجعله في حالة ضياع وخدر كامل وفقدان الاتزان والتوازن، بينما الحب الحقيقي يمنح حياة للحياة.
تدور الرواية حول بطلتين رئيسيتين “حياة” و”همس”، رسمت الكاتبة تفاصيل كل منهما بعناية ودقة، اختارت لهما أسماء ناعمة تنبض بحياة تفتقدها كل منهما، يستغرق معهما القارئ تمامًا في البداية حد يضطر للعودة إلى الصفحات الأولى لتذكر تفاصيل وملامح كل شخصية، وقد أفردت الكاتبة لكل منهما فصل مستقل. وببراعة وسلاسة ونعومة تجعلهما تلتقيان في منتصف الأحداث، تتداخل حياتهما بدون افتعال أو جهد يربك ويشتت من يقرأ، بل يبعث في نفسه ارتياح وإجابة على سؤال تردد في عقله منذ البداية عن علاقة الشخصيتان ببعضهما البعض. تتشابه التفاصيل بينهما وهو ما ورد في مواجهة بين البطلتين، تؤنب إحداهما الأخرى بكلمات قاسية واتهام بالأنانية، وتستمع إليها من تتلقى التأنيب في ألم ومحاولة للدفاع، وكأن كل منهما تنظر في مرآة، تتهم وتدافع عن نفسها في ذات الوقت.
الشخصيات الذكورية تتشابه أيضًا في أنانيتها مع البطلتين، يبحث كل منهم عن الحب مع امرأة أخرى غير الزوجة، ويمنح بكرم مشاعر مجانية وابتسامات وزهور، فيقول أحدهم للبطلة عن زوجته “هي في عقلي، وأنتِ في قلبي، وقلبي هو الحياة”، فأي أمرأة لا تذوب من هذه الكلمات!!، بينما يضن بكلمة واحدة حانية على زوجته ورفيقة عمره . والرجل غير المتزوج يوزع مشاعر مجانية على النساء باحتراف وسخاء ولا مبالاة، المرأة بالنسبة إليه لوحة ينتهي منها مع أخر لمسة يضعها، فهو من يقرر متى وكيف يبدأ العلاقة ورسم خطوط اللوحة، وهو من يقرر أنها انتهت، ولم يعد لها دور في حياته، لتأتى لوحة أخرى يعلقها على الجدار بجوار معرض لوحات نسائه، ويظهر ذلك عندما سألته البطلة “هل عشقتهن جميعًا؟، فيجيب لم أعشق أيًا منهن”. يلعب دور الإغواء بسهولة، فهو صياد ماهر، كلما قاومت فريسته أيقظت بداخله الرغبة في الامتلاك، لا يهتم بالوقت، فحرفته تجعله لا يقبل الخسارة، متعطش دومًا للفوز.
تنتصر الكاتبة في النهايات إلى جانب العقل أكثر من العاطفة والمشاعر المؤقتة غير الحقيقية، فتغازل الواقع بنعومة وقوة، ولتستمر واقعيتها وتبتعد عن المبالغات الدرامية تضفي على بطلاتها المشاعر الإنسانية التي تخطئ وتصيب، وأخرى صعب تغير طباعها وعاداتها مهما تقدمت في العمر، وتتحدى أمنيات القارئ بتحسن أحوال الشخصيات التي أشفق عليها، لكنه يصطدم في النهاية أنها تسير في طريقها المظلم ولم تتعلم من عثراتها السابقة.
لا تغفل الكاتبة البيت الدافئ الحنون، وصورة الجدة والمربية بديلة الأم، وصور الراحلين معلقة على الجدران، لكنها الونس في أيام الوحدة والحزن والمرض، والحمامات تسكن المنازل التي نظنها مهجورة، لكن الأرواح الطيبة تطفو حولها وبداخلها، تستمد منها البطلات القوة والدواء والشفاء لجروحها، وتسكن بها وإليها، بجوار الحمامات، وتضمها الجدارن الدافئة بصور الأهل والأحباب.
رواية “جدار الذاكرة”، تستمد جمالها من بساطتها واقعيتها، لم تلجأ الكاتبة إلى تراكيب لغوية صعبة معقدة، أو أحداث عنيفة لجذب انتباه القارئ، حتى المفاجأت اتسمت بالنعومة والسلاسة، وفي ذات الوقت لم يكن من اليسير توقع الأحداث والنهايات. كأن القارئ يطفو على صفحة بحر هادئ ملون خال تمامًا من الأمواج، ورغم ذلك من آن لأخر ينظر إلى الأفق البعيد محاولُا التنبؤ بما سيحدث، لكنه البحر، مهما كان هادئًا يحمل كثير من الغموض والسحر والجمال.