هلوسة

موقع الكتابة الثقافي writers 37
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا، لكن التفاصيل ما تزال حاضرة، طرية، وترفض الإنمحاء…

نظرت للصينية، مددت يدي، تناولت لفافة محشوة، وقطعتي حلوى مسكرتين، أدخن، وبين الحين والآخر أرشف من كأسي رشفات خفيفة…

في الجهة الأخرى من الغرفة، تجلس الشلة متحلقة حول المائدة، يدخنون، يلعبون الورق، يضحكون من اللهجة المكسرة للمعلق الخليجي، وهو يصف مجريات المباراة، يتحول الضحك إلى قهقهات منفلتة وجامحة، قهقهات مجنونة، لا تتوقف إلا لتبدأ من جديد.

كنت غارقا في قراءة رواية لنجيب محفوظ، لم أعد أذكرها، ربما كانت (ثرثرة فوق النيل)…

مرت لحظات، وقفت عند عتبة أحد البيوت المظلمة، تنزل دموع الصيف على شكل زخات خفيفة، بللت بالكاد الإسفلت والأرصفة، زخات خفيفة تبخرت بسرعة، وفاحت معها رائحة الأرض، ثم تحول المطر شيئا فشيئا إلى طوفان جارف، شعرت بالخوف، تسمرت في مكاني لكي لا تجرفني المياه…

في الجهة الأخرى، يسارا، أسمع أصوات استغاثة جماعية ويائسة لأشخاص جرفتهم السيول…

مرت لحظات، وأفرغت المدينة جوفها، اختلطت الأسمال بالطين والأتربة ولزوجة القذارة التي لفظتها البالوعات…

غير بعيد، نصبت منصة خشبية مكشوفة، تجري عليها أطوار مسرحية أو محاكمة غريبة، ينتظم صف طويل، رجال، نساء، أطفال وشيوخ، بعضهم يمسك سجلات ضخمة، البعض الآخر يمسك كنانيش صغيرة، كتلك التي يستعملها تلاميذ الطور الابتدائي، تتحرك عيونهم في كل الاتجاهات، ترتسم علامات الحيرة والاستغراب على وجوههم، يلتفتون في حركات عصبية ومتشنجة، ربما بسبب القلق، ربما بسبب الخوف، أو هما معا، ينظرون خلسة للصفحات الأولى للسجلات والدفاتر…

أمام المنصة، يقف محامون بأجسامهم الممتلئة وبدلاتهم الرسمية مثل طيور البطريرك، يقلبون الأوراق والملفات، ثم يرفعون رؤوسهم، يشيرون بأديهم في كل الاتجاهات، يترافعون بإشارات وبدون أصوات، يعدلون هيآتهم في حركات نمطية ومفتعلة وكأنهم ممثلون مبتدؤون، على المنصة  يبدو القضاة مثل أصنام حجرية في وضعية جامدة…

كانت المحاكمة سريعة ومريبة، يساق المتهمون بعدها إلى أماكن مجهولة، تسمع أصواتهم وهي تبتعد…

كنت ما زلت أقرأ، عندما انفتحت فجأة كوة صغيرة في الجدار الحجري، تسربت منها ريح قوية، يسمع صفيرها، يملأ المكان، تندفع أوراق الكاليبتوس الجافة إلى الداخل، أشم رائحة الغبار المبلل، شعرت بالجوع، بعدها، شعرت ببرودة شديدة تخترق تفاصيل جسدي، برودة مؤلمة مثل نصل سكين حاد وجارح، تابعتها وهي تسافر، تختفي، وتستقر في مكان ما بداخلي، رفعت الملاية الصوفية، وغطيت وجهي، في الأفق لاحت سحابة بيضاء عابرة، من بعيد بدت مثل قطعة ثلج طائرة، مددت يدي، فكرت أن أمسكها، أن أنتزع منها ندفات  لأرى، قدرت أنها بعيدة…

رأيت بعدها جسدي وروحي ملتحمين، ثم رأيتهما ينفصلان ويخرج أحدهما من الآخر، يبتعدان، ويحلقان في اتجاهين مختلفين، ثم رحت في غيبوبة حقيقية…

أسمع صوت جنازة آت من بعيد…

– مولانا يا رحمان…جد علينا بالغفران…

التفت، كنت وحدي، الساحة خاوية، وقفت أمام بوابة كبيرة، بوابة خشبية ضخمة من زمن القرون الوسطى، كتلك التي تستعمل في الحصون والقلاع، بوابة عالية وبأسنان معدنية قاطعة، فكرت أنها ربما كانت مقبرة، أو سجنا رهيبا، أو قلعة مهجورة، رفعت بصري، نظرت للأعلى، وبدأت أقرأ…

كانت الكلمات مثل أصابع أو أسنان منفرجة إلى الأعلى في حركة استجداء وتوسل، ومن السماء تنزل حروف نيزكية حادة بلون اللهب…(رياض اللذات، نادي خاص، ممنوع على العموم)

نقرت البوابة نقرات خفيفة، خرج رجل شديد ذو ملامح صارمة، وسيم، يلبس الأبيض، شزرني بنظرة غاضبة، نظر إلى قائمة في يده اليمنى، ثم قال:

– لا، ليس هنا…أنظر في الجهة الأخرى!!

تلصصت قليلا من فرجة الباب، رأيت فضاء خلابا وآسرا، ربما كان متنزها، أو حديقة، أو فندقا فخما، في الداخل أشخاص بأعمار مختلفة ووجوه جميلة وباسمة، أجساد مجنحة، ملابس ملونة…بعضهم يسبح، بعضهم يأخذ حمام شمس، بعضهم يأكل من أطباق طافحة بالفاكهة، البعض الآخر يقرأ أو ينخرط في أحاديث حميمية…

يبدون في منتهى الهدوء والسعادة.

سمعت صوتا يناديني، رأيت سيدة جميلة تتوسط عصابة من الحسناوات، سيدة بجسم مشدود وممتلئ، تتمايل، يتحرك شعرها الأسود مثل شلال دافق، تشير جهتي، وتلوح بيدها وكأنها تدعوني أن ألتحق.

هفت نفسي…

ثم أغلق الباب بقوة.

إلى اليسار، رأيت بوابة أخرى، بوابة حديدية ضخمة بنفس التفاصيل، وقفت أمامها، ترددت قليلا، ثم نقرت نقرات خفيفة وجلة، أطل وجه ضخم من كوة كبيرة، وجه بتفاصيل مكبرة، نظر إلي نظرة قاسية، تجهم، وقال بصوت غاضب:

– ليس هنا، لقد أغلقنا الأبواب!!

نزعت الملاية، كشفت وجهي، عدت إلى نفسي، كان صندوق التلفزة يبث صورا صامتة لأطفال صغار، يقفون في مكان مرتفع، يقفون مثنى مثنى، يحملون على ظهورهم محافظ مدرسية، ويرتدون ملابس موحدة، يلقون بأنفسهم من مكان شاهق، تبتلعهم آلة جهنمية ضخمة، وتلفظهم من الجهة الأخرى معلبات معدنية وورقية بأحجام مختلفة، أعواد كبريت، سمك، مربى، خضر، فواكه…

في نفس المكان، وعلى بعد خطوات يقف أشخاص هائجون، منفلتون، يضرمون النار في بناية ضخمة، يدمرون كل ما تطاله سواعدهم القوية، رجحت أنها ربما كانت كنيسة أو مدرسة داخلية أو معزلا طبيا للأمراض النفسية.

أيقظني صوت البوابة وهو ينغلق بقوة، صوت رج بعيدا، تبعثر، تلاشى، ثم عاد رجعا رهيبا يملأ الكيان…

استرجعت وعيي، تأكدت أنني ما زلت حيا، وأن الجنازة كانت لشخص آخر.

كانت الشلة غارقة في نوم عميق، انتبهت، نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار، نظرت للدجاجة وهي تنقر الفراغ، في حركة ميكانيكية، تشير إلى زمن ما، كنت ممددا ويدي ما تزال تمسك الرواية، كنت أقرأ، أقرأ، وأعيد قراءة السطر الأول.

أقرأ :

– الجميع في هذا العالم يستحقون الرحمة، حتى الكلاب، حتى اللصوص، حتى القوادون!!

قرأت الجملة مرة، مرات، حاولت أن أتقدم، حاولت أن أقرأ أكثر، ثم انتبهت أخيرا لغرابة الموقف، كانت الرواية كلها عبارة عن جملة واحدة تتكرر إلى ما لا نهاية…

غطيت وجهي بالملاية مرة أخرى، عدت إلى غيبوبتي، وقفت إلى جانب الرجال، ابتسموا، ابتسمت أنا منتشيا…

كانت البناية ما تزال تحترق!!

مقالات من نفس القسم