في طريقه إلى العجوز التي تطعمه كل صباح يقابل فَرَح، صديقته الوحيدة. فَرَح لها أم انحدرت من عائلة ألمانية قديمة. أحضر الخواجة جدها و جدتها ذات يوم إلى مصر بالباخرة و باعهما هناك لعائلة ثرية. و مرت سنوات كثيرة و هربت أمها من صاحبها الذي كان يوسعها ضرباً و تزوجت كلباً بلدياً و سكنت معه المقابر قبل أعوام. أورثتها أمها سيقان طويلة و قوية، و أورثها أبوها لونه الباهت. لم تكن أجملهن، ولكن كانت لها روح قوية وكلمة مسموعة بين عشيرتهم، ولها أيضاً قلب هلال. فَرَح هي الوحيدة التي تكلمه بعد ما حدث، ولكنها تكلمه على استحياء، فهي من المهمين بين عشيرتهم ولا يجب أن يراها أحد وهي تتحدث مع هلال أو وهي تتمشى معه.
هلال يحب فَرَح ولكنه فشل في إقناعها بأنه يرى كل صباح ضوءاً ملوناً ينتشر من أقصى يمين السماء إلى أقصى يسارها. هلال كلب استثنائي يرى قوس قزح بوضوح ولا يعرف اسمه ولا كيف يصفه لها. كان يحدثها كثيراً عنه ولكنها لا تفهم. فكلما نظرت للأفق لم تر سوى خطوطاً رمادية وبنية مصفرة ولا شئ سوى هذا. ظن هلال أن بعينيّ فَرَح خطب ما وأنها هي الوحيدة التي لا ترى ما يراه، فأراد أن يثبت لها أنه لا يهذي ولا يتخيل الأشياء. في البداية طلب من شَكَل أن يخبر فَرَح عن الضوء الملون. فنبح شَكَل بصوت عالٍ ودفع هلال على الأرض صائحاً : “أي ألوان يا أحمق. وهل كان ينقصنا جنانك! تعالي معنا يا فرح قبل أن يعديك هذا المجنون“. نظرت فرح إلى هلال في يأس وإشفاق قبل أن تدير ظهرها له وتذهب مع شَكَل و عصابته.
فزع هلال. “كيف يحيا رفاقي دون رؤية الضوء الملون؟“. ” ما الذي يتطلعون إليه إذاً كل صباح حين يرفعون أنوفهم عن صناديق القمامة وأفواههم ممتلئة بطعام الفطور؟” “و هل يتطلعون إلى شئ من الأساس؟“. حتى هذه اللحظة كان يظن أن الجميع يرى الضوء الملون مثله وأن عيني فرح بها خطب ما. أصر هلال على أن يثبت للجميع أن الضوء الملون موجود، يريد أن يريهم ذلك الضوء الذي يبهجه ويطرب له قلبه كل صباح. قطعاً ستتغير حياتهم لو أنهم فقط يرون. أمضى هلال أياماً في البحث عن مكان مناسب يتجمع فيه الضوء الملون بوضوح كي يريه لعشيرته. ولكنه لم يكن بحاجة للبحث، فالألوان تنتشر في كل مكان في الصباح الباكر من كل يوم. يراها من فوق التل القريب، يراها في الأفق تظلل شواهد قبورٍ منسية، بل ويراها محبوسة فوق جدار بيت متهدم أو مقبرة ينفذ الضوء بطيئاً من بين أركان بابها الحديدي، فكيف لا يرون كل هذا الجمال؟
ذات صباح جمع هلال رفاقه وآبائهم وكل كلاب المنطقة، علّ أحدهم يرى ما يراه. طلب منهم أن يتبعوه إلى كل الأماكن التي يشاهد فيها قوس قزح. أخذ يشير إلى الأفق تارة وإلى شواهد القبور والجدران تارة أخرى، لكن دون جدوى. انصرف الكبار وهم يلعنونه لأنه أفسد عليهم فطورهم الذي لم يجمعوه قبل أن يسبقهم إليه الكنّاسون وأطفال الشوارع. أما الباقون فقد تحلّقوا حوله و أخذوا يوسعونه ضرباً حتى يفيق من ترهاته ويحيا حياة الكلاب الطبيعية. أخذوا يضربونه ويعضّونه ولم ينقذه من بين مخالبهم سوى صوت فَرَح:”كفى، أظنه فهم ما تريدون، ولن يزعجنا بعد اليوم“. فتركوه لحاله وانصرفوا جميعاً، تسبقهم فرح. ومن يومها لم يتحدث إليه سواها، فقط من خلف ظهورهم. هلال يحب فرح، وهي تشفق عليه ولا تعرف كيف تقع في حبه.
في ذلك الصباح ألحّ عليها أن تذهب معه للسيدة العجوز، لكنها رفضت وقالت إن شَكَل وباقي رفاقهم ينتظرونها، فاليوم سيختار كل كلب أنثاه لتحمل له جراءاً صغيرة تكبر و تقوى بها عشيرتهم. تلاشت ضحكته على الفور. خفض هلال بصره و أدار لها ظهره ومضى دون أن يتكلم. هو يعرف أن فرح تخجل من صداقتهما، فكيف تخيل أنها ستتزوجه؟ ثم إنه ليس مدعوا لمثل هذا الاحتفال، لا أحد يريده، لا أحد يُصدّقه، لا أحد يتكلم معه سواها، لكن دون علمهم تجنباً للإزدراء. فكيف سيدعونه إلى الزواج من بينهم؟ لكنه رغم كل هذا لم يتخيل يوماً أنها ستتزوج غيره. أخذ يمشي و يفكر أنه ربما أثر الضوء الملون على عقله و جعله يتخيل أشياءاً لن تحدث. ربما هم على حق. ربما لا يوجد ضوء ملون من الأساس. فكّر هلال ملياً في ذلك الضوء الذي سيحرمه من حبيبته التي لا تفهمه و لا تصدقه. فكّر و اتخذ قراره دون تردد.
عاد هلال ركضاً يدفعه حبه لفرح و رغبته في الاحتفاظ بها و البقاء بجوارها. نسي العجوز التي يؤنسها و تطعمه. نسي الضوء الملون الذي لم يلتفت له منذ أدار ظهره لفَرَح. ذهب هلال إلى أهله و رفاقه و أعلن أمام الجميع أنه لا يوجد ضوء ملون و أنه شفي تماماً من تخيلاته. أخبرهم أنه من الآن و صاعداً سيحيا حياتهم و يأكل مثلهم و يتزوج مثلهم أيضاً. تمتم بعضهم في ريبة وابتسم البعض في رضا و ارتياح، وظلت نظرة متحفزة تستقر في عينيّ شَكَل. لكن لم يعد هناك سبباً لإقصاءه عن جماعتهم الآن، وهذا ما أراد. ظن هلال أنه إذا اعترف بهذيانه وشاركهم في حياتهم التي لا يحبها ولا يعرف كيف يحياها سيجعلونه واحداً منهم و سيكون له الحق في المطالبة بفرح الليلة، حتى وإن كلفه ذلك عراكاً مع شَكَل نفسه. وفي الصباح سيعاود مشاهدة ضوءه الملون و أكل طعامه من يد السيدة العجوز وبائع اللحم. كل ما عليه هو أن يتحمل اليوم، واليوم فقط.
اتخذ هلال قراره ولا سبيل للتراجع الآن. عليه أن يدس أنفه في صناديق القمامة بحثاً عن فطوره، ففعلها. ابتسم لفَرَح وهو يلوك طعامه الجديد فرآها لأول مرة تبتسم له بتلك الفرحة. لمعة ما في عينيها جعلته يدس أنفه مرة أخرى وسط القمامة ويخرج بقايا دجاجة تفوح منها رائحة نتنة ويعطيها لها. لتشير له وينهمكا معاً في مضغها. لأول مرة منذ ولادته يقضي هلال يومه وسط عشيرته من الكلاب الضالة. يتعارك ويلتهم الطعام ويترك فضلاته ملقاة على الطريق. في يوم عادي لم يكن ليحب كل هذا ولكنه يحبها، فلم يجد في نفسه كرهاً لما يفعل، ولم يستغربه. في المساء تزين الجميع. فركوا ظهورهم في الجدران، و تحمم بعضهم في ماء المصرف القريب من التل، ومرّ بعضهم عدة مرات أمام عم صالح الكبابجي حتى تعلق رائحة الشواء بفراءه.
وحانت اللحظة التي انتظرها هلال. كان هو وفرح يصدران إشارات يعرف كل منهما مغزاها. و كان على وشك أن يمشي بجوارها إلى بيته حين ظهر شَكَل أمامه. فكان عراكاً طويلاً ودامياً انسحب بعده شَكَل وهو يعوي بعدما خسر عينه اليسرى. فعرف هلال طعم الدم قبل أن يعرف مذاق قبلة واحدة من فَرَح التي كانت في قمة سعادتها برَجُلها الجديد. فَرَح الآن تعرف كيف تحب هلال، فأحبته و كانت ليلتهما الأولى معاً كما حلم بها هلال طويلاً.
في الصباح رفع هلال قدمه اليمنى و بلل الأرض تحته و لم يفكر في تغطية ذلك بالتراب. كان متشوقاً لرؤية ضوءه الملون فجرى نحو التل دون تردد فلم ير سوى خطوطاً رمادية وبنية مصفرة. حدق في الأفق في هلع. عاد راكضاً يتفحص شواهد القبور فلم يجد فوقها سوى نفس الخطوط باهتة اللون. بحث وبحث وبحث طيلة أيام وأسابيع عن قوس قزح فلم يجده. نسي العجوز وبائع اللحم وظل يأكل من القمامة مع زوجته التي انتفخ بطنها تدريجياً، والتي كان يجب عليه أن يحميها. ظل يتعارك على كل شئ وعلى لا شئ وظل شَكَل يهابه هو وباقي الكلاب الذين أصبحوا يتوددون إليه ولا يجرؤون على تجاهله. و مع الوقت أصبحت أسرة هلال وفرح الصغيرة أقوى أسرة بينهم، و أصبحت كلمتهما مسموعة من الجميع. و قوي حب فرح لزوجها الذي كان يخرج باكراً كل صباح في انتظار ضوءه الملون و قلبه الذي لم يعد يعرف كيف يحب فَرَح.
ــــــــــــــــــ
*قاصة مصرية
خاص الكتابة