كتاب “العمران فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية”.. يعيد النظر في علم العمران
صدر في القاهرة عن الدار المصرية اللبناينة كتاب (العمران .. فلسفة الحياة في الحضارة الاسلامية ) من تأليف الدكتور خالد عزب ، الكتاب الذي يقع في خمسة فصول يعيد تأسيس علم العمران من جديد حيث يذهب مؤلفه إلي أن هذا العلم وجد في الحضارة الاسلامية منذ العصور المبكرة ، فغاص في كتب التراث والأثار والروايات والوثائق الحجج المؤلف ليستخرج هذا العلم ويعيد بناؤه، كأن علم العمران في حاجة إلى تأسيس ينطلق منه إلى فهم أعمق لمعطيات الحضارة الإسلامية يحيى قيمتها ويثمن منجزاتها، وننطلق منه نحو المستقبل.
عرف المؤلف العمران بأنه علم الحياة الذي أسس في هذه الحضارة، علم يؤدي بنا إلى أن نعرف كيف نحيا على هذه الأرض، ونتمتع بكل ما أعطاه الله لنا من نعم ونتحدث بهذه النعم كما ذكر الإمام جلال الدين السيوطي في مذكراته “التحدث بنعمة الله”، فما هي إذًا مجالات علم العمران:
مجالاته هي الأنشطة الإنسانية على الأرض وما يترتب عليها من تفاعلات حضرية سواء في مجال المستقر الحضري (مدن/ قرى/ بدو) أو في مجالات الإنتاج (زراعة/ صناعة) أو في مجالات الخدمات المختلفة، أو التجارة، وما يتصل بذلك من تطورات معرفية وفكرية تعكس نمو وارتقاء الإنسان عبر العصور، بما فيها ممارسة السلطة في مستواياتها المتعددة.
هنا لدينا إطارين للطرح إطار نظري يؤطر لعلم العمران وآخر عملي واقعي سبق أن تناولت جانبًا منه في كتابي (فقه العمران)، ومن هنا فإن هذا الطرح الآن يجمع الاثنين معًا منطلقًا من النظر في علم العمران إلى البحث عنه في عالم الواقع.
لفظ العمران لغة من عمر، يُقال إنه عمر أرضه يعمرها عمارة، والعمارة نقيض الخراب، وعمرت الخراب فهو عامر أو معمور، وأعمرته الأرض واستعمرته، إذا فوضت إليه العمارة.
قال تعالى “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” سورة هود آية 61 ، أي جعلكم عمارها وسكانها، فأكرمكم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس الأشجار، وحفر أنهار وغيرها.
يعطى مصطلح العمارة إذا مدلولات متعددة تقودنا إلى فهم موضوعنا: فكان عامر ذو عمارة، وأعمره المكان واستعمر فيه جعله يعمره، وأعمره جعله آهلا، والعمارة ما يعمر به المكان. وعمر للرجل ما له وبيته يعمره عمارة ، أو عمرانًا لزمه، ويقال لساكن الدار عامر والجمع عمار. وقوله تعالى: “إنما يعمر مساجد الله ….” سورة التوبة آية 18 ، دليل على العمارة الروحية، ومن العمارة التي هي البناء الذي يحمي الإنسان من البرد والحر، ويؤيه، والعمرة منها ولى الزيارة، أو من قولهم عمرت بمكان كذا أي أقمت به، لأنه يقال عمرت بالمكان أو عمرت المكان، والمعمر المسكن مادام عامرًا بسكانه.
هنا في رأي خالد عزب اللغة تعطينا دلالات المصطلح بأبعاده فالعمران ليس هنا هو البناء المادي، بل الفعل البشري بمستويته المتعددة التي تؤدي إلى عمارة الأرض، هذا يقودنا إلى مواكبة اللغة العربية منذ بدايات حضارة الإسلام لفعل العمران فأعطتنا قواميس اللغة العربية التعبير الدقيق الذي هو أحد مفاتيح ولوجنا إلى هذا العلم. فهذه اللغة لغة الدين الإسلامي موقعها المركزي في هذه الحضارة أدى إلى تطويعها لتعطى كل شئ مدلول دقيق حتى أن أصعب العلوم تفهم بوضوح إذا ألممت بهذه اللغة.
ابن رسته في كتابه (الأعلاق النفيسة) في القرن 3 هـ/ 19 م يقصد بالعمران في قوله المواضع المسكونة أو العامرة بالسكان، فإن لم تكن بها مساكن فليست معمورة حتى لو كان بها نبات أو حيوان، فالعمران متصل بمراكز استقرار الإنسان.
أما ابن خرداذبة، فقد قسم سطح الأرض إلى ثلاثة أثلاث، فثلث الأرض عمران مسكون مأهول، وثلث براري غير مسكونة، وثلث بحار، ومعني هذا أنه باستبعاد المسطحات المائية يصبح اليابس قسمين: عمران مسكون، وبراري غير مسكونة وبهذا يكون ابن خرداذبة أكسب لفظ العمران جانبًا من دلالته الجغرافية هنا ابن خرداذبة يذهب بنا خطوات أخرى للأمام في هذا المجال.
التطور الدلالي للفظة “عُمْران”
حدث تطور دلالي لكلمة عمران بتعميم دلالتها، وأخذ هذا التعميم مستويات متعددة على مر العصور حتى وصلت إلى معانيها في العصر الحديث. وقد تطور المعنى اللغوي في المعاجم كما يلي:
- اسم للبنيان، نقيض الخراب “العدل أساس العمران”
- التحضر والمدنية
- الأعمال الحضارية ونجاح الأعمال والتمدن، ما يعمر به البلد بواسطة الصناعة والتتجارة والبناء.
- اسم لما يُعمَر به المكان وتحسن حاله بواسطة الفلاحة وكثرة الأهالي “سياسة العمران”.
- علم العمران (عند ابن خلدون): علم الاجتماع.
والعمران هو اصطلاح عام يستخدمه الجغرافيون لمختلف أنواع ونماذج المساكن البشرية “المجتمعات العمرانية”في الحضارة الاسلامية ، إن حضور الإنسان بفاعليته هو أساس العمران، لذا نحن هنا أمام فاعلية لها مظاهر مادية وروحية، أفضت لتأسيس حضارة لها منظومة فكرية، فالإنسان محورها فهو الذي يعطي العمران معناه، هذا ما قدمه لنا الجاحظ في البيان والتبيين بين ذكرنا ما يلي:
“وقال آخر:
يا دار قد غيرها بلاها كأنما بقلم محاها
أخربها عُمران من بناها وكر ممساها على مغناها
وطفقت سحابة تغشاها تبكي على عِراصها عيناها
قوله: أخربها عمرا من بناها، يقول: عمرها بالخراب، وأصل العمران مأخوذ من العَمْر، وهو البقاء، فإذا بقى الرجل في داره فقد عمرها، فيقول: إن مدة بقائه فيها أبلت منها، لأن الأيام مؤثرة في الأشياء بالنقص والبلى، فلما بقى الخراب فيها، وقام مقام العمران في غيرها، سمى بالعمران.
هنا يربط الجاحظ كما يذكر المؤلف العلاقة بين التقادم الزمني والعمران المعماري، ليقدم لنا بعدا حول تفاعل الزمن مع العمران، بل نجد أن المقابلة بين البادية والحضر عند العرب أساسها الحركة والسكون أو التجول والثبات (الاستقرار)، أو الارتحال والأقامة الدائمة، ثم ما قد ينتج عن هذا الأمر من اختلاف في وجوه المكاسب والمعايش، ومستوى المعيشة على عائدالحرفة، ونمط المسكن (من حيث كونه دائم أو مؤقت وكذلك المسكن وشكله الخارجي وحجمه).
لكن في حقيقة الأمر أن البدو الرحل ليسوا رحل مع الزمن، إذ الارتحال في هذا المفهوم يعني الانتقال من إلى بصورة مستمرة، كما أن درجة درجات الاستقرار طبعت هذه القبائل فصارت مستقرة في حدود جغرافية محدودة، بل صارت لها مراكز حضورية مستقرة كالقصور أو الواحات أو المضارب، قامت حياتها على الرعي أو الزراعة أو حراسة القوافل وقد تجمع بين أكثر من مهنة.هنا خالد عزب يخالف ما ذهب اليه ابن خلدون حول البدو في مقدمته . ففي رأيه أن المستقر الحضري أيًا كان، هو مكان الإنسان الذي تبدأ منه الحياة بتفاعلاتها، فالإنسان وسعادته وعيشه مطمئنًا من الغايات التي بحثت بعمق في حضارة قامت على العمران، لذا استخلص السعادة في الحياة الدنيا من الراغب الأصفهاني الذي ألف كتابًا يسميه “تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين” تحصيل السعادة في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، فكان البحث عن السعادة في الحياة الدنيا واجبة وجوب البحث عن السعادة في الحياة الآخرة، جعل الراغب الأصفهاني الإنسان غاية الوجود فيقول:”في كون الإنسان هو المقصود من العالم وإيجاد شيئًا بعد شئ هو أن يوجد الإنسان، فالغرض من الأركان أن يحصل منها النبات، ومن النبات أن تحصل الحيوانات، ومن الحيوانات أن تحصل الأجسام البشرية ومن الأجسام البشرية أن يحصل منها الأرواح الناطقة، ومن الأرواح الناطقة أن يحصل منها خلافة الله تعالى في أرضه فيتوصل بايفاء حقها إلى النعيم الأبدي كما دل الله تعالى بقوله:”إني جاعل في الأرض خليفة” سورة البقرة آية 30 وجعل الله تعالى الإنسان من سلالة العالم وزبدته وهو المخصوص بالكرامة كما قال تعالى:”ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلًا” سورة الاسراء آية 70 . وجعل ما سواه كالمعونة له كما قال تعالى في معرض الامتنان:”هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا” سورة البقرة أية 29 .
من هنا لم يكن ابن خلدون مؤسسا لعلم العمران بل كان حلقة مثلت ذروة هذا العلم، وكتابه المقدمة هو في حقيقة الأمر جاء في الدراسات البينية الإنسانية سابقا به الكثيرين في عصرنا، ليؤسس العلاقة بين علوم مختلفة مما يجعلها تنتج معارف جديدة .